القوميّة والوطنية
بين الإسلام وحركات الإسلام السياسي
عز الدين البغدادي
ظهرت الحركة القوميّة في
البلدان الإسلامية كرد فعل على الدولة العثمانية التي قامت على أساس ديني، وحاولت
مصادرة إرادة الشعوب التي تنضوي تحتها باسم الجامعة الإسلامية.
إلا أنّها تنكرت لذلك المبدأ
ووقعت هي نفسها تحت تأثير حركة قومية عرفت بالطورانية مارست بعد وصولها للسلطة ما
عرف بسياسة التتريك، وهو ما أدى إلى تنشيط حركة قوميّة ضدّها.
نظرت الحركة الإسلامية عموما
إلى القومية باعتبارها توجها يفرّق الأمة، وينزع عنها وحدتها الذي يرتكز على أساس
الدين، ورأوا أنّها تعبير عن العصبية التي ورد ذمّها في نصوص كثيرة. والحقيقة أن
هذا الموقف ترتبت عليه نتائج ظهرت قي مرحلة سلطة حركات الإسلام السياسي حيث ظهر
ضعف واضح في شعورهم بالانتماء لوطنهم، وأحيانا تفضيل المصالح الأجنبية عليه بحجة
أن القومية والوطنية بدعتان غربيتان لا مكان لهما في الإسلام.
إلا أن هذا الموقف لم يكن
صحيحا ولا دقيقا بالنسبة لموقف الإسلام الذي رأى أن الانتماء للجماعة أو التعلّق
بالوطن ليس أمرا سيئا، بل هو مقتضى الفطرة. وقد سأل احدهم النبيّ (ص): أمن العصبية
أن يحب الرجل قومه؟ فقال: لا، ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه على الظلم.
وعن سراقة بن مالك قال: خطبنا
رسول الله (ص)، قال: "خيركم المدافع عن عشيرته، ما لم يأثم".فلم يره أمرا
محرما أن ينتمي الإنسان الى قومه بل ويدافع عنهم ما لم يخرج عن حدود العدل والإنصاف.
كما يرى كثير من منظري الإسلام
السياسي أن الوطنية أشبه ما تكون بسبّة؛ لأن الإنسان ينبغي له أن يرتبط عاطفيا
ووجدانيا بدينه لا بوطنه، فوطنه هو عقيدته فحسب. وأما الوطنية فهي مفهوم مستورد
يستهدف نقل الولاء والارتباط من الاعتقاد الى الأرض.
لكن وبخلاف نظرة الحركات الإسلامية
إلى الوطن؛ فقد وردت النصوص التي تؤكد على أهمية الوطن، حيث ذُكرت كلمة الدِّيار
بمعنى الأوطان، في قوله تعالى: ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ
حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) حيثُ ربط الدِّيار ونسبها للمؤمنين
الذي أُخرجوا من وطنهم لشدة ارتباطهم وتعلّقهم به حِسّاً ومعنى، كما قال تعالى: (
وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن
دِيَارِنَا ) حيثُ جُعلت أحدُ دوافع الجهاد في سبيل الله الإخراجُ من الأوطان.
كما وردت أحاديث تبرّر حبّ
الأوطان وتثبت مشروعيّتها. ففي الحديث أن النبيّ (ص) رجع إلى المدينة، فلما أشرف
على المدينة، قال: هذه طيبة، فلما رأى أحدا، قال: هذا أُحد، هذا جبل يحبّنا ونحبّه.
كما قال: اللهم حبّب إلينا
المدينة كما حببت مكة أو أشدّ.
قال العيني: وفِي الحديث دلالة
على... مَشروعيَّة حبّ الوطن والحنين إِليه.
وقال ابن عبد البر: وفيه بيان
ما عليه أكثر الناس من حنينهم إلى أوطانهم وتلهفهم على فراق بلدانهم التي كان
مولدهم بها ومنشأهم فيها.
وهذا ما يبيّن لك بأنه لا
تنافي بين الإيمان وبين حب الوطن أو اعتزاز المرء بقومه.
لقد أكّد الإسلام على وحدة
الناس تحت سقف الإسلام، فالناس سواسية لا يتميّز أحدٌ على أحدٍ إلا بالتقوى. لكن
من جهة أخرى؛ فإن الرابطة القومية هي رابطة طبيعية تلقائية لم ينفها الإسلام بل
أثبتها فقال عز وجل: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) ، وأعتقد أن هذه الآية كان تعبيرها دقيقا جدا، فمن
ناحية فإنها أثبتت وجود شعوب وأمم كواقع لا يمكن نفيه وإنكاره، وكرابطة لا يمكن
تجاهلها. إلا أنّها أثبتت أيضا أن التقوى هو المقياس في التفاضل، فكانت تعبّر عن
طرح راقٍ ومتّزن تماما.
فالقومية تقبل باعتبارها تؤكد
على رابطة طبيعية تجمع الناس في بقعة معيّنة، إلا أنّها ما يرفض هو الصيغة التي
يمكن أن تؤدي إلى تنازع أو زرعت البغضاء بين الناس.
ومع هذا؛ فهناك من يرفض فكرة
القوميّة حتى بهذا القدر، ولا يدرك أنّ هناك من يروّج لهذه الفكرة ليسقط حصانة
الدول واعتبارها باسم الدين، رغم أنّ الدول التي تنتفع من هذا الطرح لا تسمح لأحد
بأن يتجاوز حدودها وقوانينها باسم الدين أو المذهب. والغريب أنّ أحد أهم منظري تلك
الجماعات وهو أبو الأعلى المودودي اعترف بأهمية القومية واعتبارها، فقال: أما
القومية فان أريد بها الجنسية فهي أمر فطري لا نعارضه، وكذلك أن أريد به انتصار
الفرد لشعبه فنحن لا نعارضها، كذلك إذا كان هذا الحب لا يعني معنى العصبية القومية
العمياء التي تجعل الفرد يحتقر الشعوب الأخرى، وينحاز إلى شعبه في الحق والباطل
على السواء، وأن أريد بها مبدأ الاستقلال القومي فهو هدف سليم، كذلك من حق كل شعب
أن يقود بلاده ويتولى تدبير شؤون بلاده.
ومما زاد من رفض فكرة القومية
أن معظم من دعا إليها في بلادنا هم كتاب ومفكرون نصارى، فكان هذا كافيا للطعن فيها
ورفضها، واتهام أصحابها بأنهم أصحاب نوايا سيّئة تستهدف الإسلام اعتقادا وأمّة.
هذا ولا بدّ أن نشير هنا إلى
أن القوميّة كفكرة ليست جديدة، فهي قديمة يمكن أن تلحظها في ميل الجماعة إلى
الحفاظ على هويتها ولغتها، ورفضها الانصهار في غيرها. وهي بهذا المعنى قديمة جدا،
يمكن أن تلحظها في كل الأمم والشعوب.
لقد دخل كثير من غير العرب في
الإسلام منذ فجره الأول، وساهموا في بنائه بشكل واضح، وكان للفرس والترك الأثر
الأكبر في ذلك كأهم أمتين وأقربهما إلى العرب. وفي العصر الأموي كان هناك تمييز
ضدّ غير العرب، إلا أن الأمر تغيّر بعد قيام الدولة العباسية التي كان للفرس
والترك أثر سياسي كبير فيها.
وهو ما أدى إلى ظهور حركة
ثقافية عرفت باسم "الشعوبيّة" وهي حركة تبغض العرب وتفضل العجم، وكان
الشعوبييون يتمسكون بهذه الآية: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ
مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ). وكان الشعوبيون
يسمون حركتهم "حركة التسوية"، أي التسوية بين حقوقهم وحقوق العرب، فيما
كان مناوئوهم يسمونهم "أصحاب التفضيل" باعتبار أنهم يفضّلون أنفسهم على
العرب.
وقد انتشرت هذه الحركة في أول
الأمر بين المسلمين الفرس لأنهم أول من دخل الإسلام من غير العرب ثم ظهر شعوبيون
هنود ثم مولدو الأندلس، وهم الأسبان المستعربون.
إلا أن الواقع أن هاتين
الأمتين (الفرس والترك) كثيرا ما أخذتا موقفا متناقضا من القومية، فمن جهة استعملتا
الحجة الدينية في رفض القومية؛ وذلك لتضمن خضوع العرب وضمان عدم رفضهم لسلطتهم تحت
دعوى أن رابطة الدين هي الأهم والأكبر من أي رابطة. لا أنها من جهة أخرى كانت طول
تاريخها تتعامل في واقعها كحالة قومية وعنصريّة، تحاول إثبات سلطتها ووجودها.
0 تعليقات