الملأ
النخبوي البشري والملأ الملائكي
والملأ
الخصوصي
علي أبو الخير
"الملأ" بالمصطلح القرآني هم الأغنياء
المترفون، وقد جاء فعل"ملأ" بمعاجم اللغة العربية وفي التعبيرات العامة،
تعني ملئ شيء فارغ بماء أو هواء أو غيرهما، فنقول ملأ الكأس وملأ العقل وملأ
الاستمارة وملأ الفراغ، وقال على الملأ، أي علانية وعلى رؤوس الأشهاد، ومن هنا جاء
التعبير القرآني ليدلل على أن "الملأ” جماعة أو جماعات فارغة مترفة، أثرياء
بدون جهد حقيقي، وبالطبع فإن هؤلاء يقاومون أي حركة إصلاحية، فضلا عن مقاومة
الأنبياء، الذين أرسلهم الله لهدايتهم، وهؤلاء المترفون يمكن التعبير عنهم بأنهم
رجال الأعمال بالمصطلح المعاصر، الذين أثروا بدون عناء أو جهد، أمّا رجال الأعمال
الذين اغتنوا بجهودهم الخاصة دون وساطة أو محسوبية أو اقتران بالسلطة الحاكمة، فهم
أولا قلة نادرة، وثانيا لا يظهروا للناس ليعلنوا عن أنفسهم، فهم أتقياء متخفون
وراء كياناتهم المهددة، من قبل المترفين ومن جهة السلطة في الوقت نفسه، وهؤلاء
"الملأ" هم الذين يرفضون أي عملية إصلاح أو تجديد من أي منظور ديني أو
سياسي أو اقتصادي، وهم موجودون عند كافة الشعوب، ولكنهم في الدول المفترض أنها
إسلامية أكثر وأطغى.
وقد جاء مصطلح "الملأ في القرآن للتعبير عن صلف
وغرور وطغيان تلك النخب، وهو يصلح لكل زمان ومكان، ونقرأ في القرآن الكريم، لنرى
هذا الغرور وكيف تصدّى هؤلاء النخب للأنبياء، في سورة الأعراف|60 إلى الآية 127
"قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين ...قال الملأ الذين كفروا من قومه
إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين ... قال الملأ الذين استكبروا من قومه
للذين استضعفوا لمن امن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به
مؤمنون ... قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين امنوا معك من
قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين ... وقال الملأ الذين كفروا من
قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ... قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر
عليم ... وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك والهتك
قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون"، وسورة يونس|88
"وقال موسى ربنا انك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا
ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا
العذاب الأليم"، وسورة هود|27 "فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك
إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا
من فضل بل نظنكم كاذبين"، وفي سورة المؤمنون|33 "وقال الملأ من قومه
الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم
يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون"، وسورة الشعراء|34 "قال للملأ من
حوله إن هذا لساحر عليم"، وسورة القصص| 20 "وجاء رجل من أقصى المدينة
يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين"،
وفي نفس السورة |38 "وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من اله غيري فأوقد
لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي اطلع إلى اله موسى واني لأظنه من
الكاذبين"، وفي سورة ص|6 "وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على
آلهتكم إن هذا لشيء يراد" والبقرة|246 "ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل
من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " وسورة
يوسف|43 "وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر
وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون"، ومن
الآيات الكريمات السابقات نجد أن "الملأ" هم النخب من مثقفين وسياسيين
وماليين وفنّانين وإعلاميين، وهم صانعوا الرأي العام، قديما وحديثا، وهم كذلك متحالفون
مع السلطة، يبرّرون كل سياسة، ويقاومون أي حركة إصلاح أو نهضة، وقد عرفتهم كل
الشعوب مناهضين دوما لأي تغيير.
ولكنّ هذا لا يمنعنا من القول إن مصطلح
"الملأ" جاء أيضا في القرآن للتعبير عن نخبة سماوية وبطبيعة الحال لا
تخطيء فالملأ الأعلى، كما جاء في القرآن الكريم، هو عالم الأرواح المجرَّدة،
الملائكة المقرّبون، أو عامّة الملائكة، كما جاء في سورة الصافات|8 "لا
يسّمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب"، ، وأيضا في سورة ص|69
"ما كان لي من علم بالملا الأعلى إذ يختصمون"، ولكنّ خصام الملائكة في
"الملأ الأعلى" ليس مثل خصام البشر، ولكنه خصام في الفضائل والطاعة،
يمكن التعبير عنه بالتنافس الملائكي الشريف، وهو في النهاية لا ينطبق على
"الملأ" الأرضي البشري، كما ذكرنا آنفا.
ولقد لاحظنا أن الله جل شأنه في معجزة القرآن
المبارك، ذكر مصطلح "الملأ" بصيغة لغوية مختلفة في أربع آيات، مكتوبة
بالتشكيل القرآني "الملؤا"، ولكنّها تُنطق "الملأ" وقد احترنا
في فهم الحكمة من تغيير شكل ذلك المصطلح، وقد بحثنا، وتوصلنا - لعلنا مصيبون – أن
كلمة "الملؤا"، تعني الخاصة المحيطة بالحاكم، فقد ذكر القرآن الكريم
آيتين ضمن آيات ملأ قوم النبي "نوح"، مرة "الملأ" وأخرى
"الملؤا" ففي سورة المؤمنون|38 "ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملا من
قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فانا نسخر منكم كما تسخرون"، وهؤلاء
"الملأ" كما نرى هم النخب الساخرة والعوام وراءهم، وجميعهم يسخرون من
نبي الله "نوح" ومن سفينته، وهي "تريقة نخبوية" إن جاز
التعبير، ولكن وفي نفس سورة المؤمنون|24 "فقال الملؤا الذين كفروا من قومه ما
هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا
في آبائنا الأولين"، وهنا نجد أن "الملؤا" هم بطانة الحاكم، أو حاشية
الملك والأمير أو رجال الرئيس، وما يؤكد ذلك، الثلاث آيات الأخرى التي ذكرت
"الملؤا"، وهي في سورة النمل| 29 - 38 "قالت يا أيها الملؤا إني
القي ألي كتاب كريم ...قالت يا أيها الملؤا أفتوني في أمري ما كنت قاطعة امرأ حتى
تشهدون ....قال يا أيها الملؤا أيكم يأتيني بعرشها قبل إن يأتوني مسلمين"،
نجد هنا أن "بلقيس" أخبرت مستشاريها المقربين بخطاب نبي الله
"سليمان" لها، ثم طلبت منهم المشورة وأنها لن تتخذ قرارا دونهم، ومعنى
ذلك أن "الملؤا" هم قلة من الخواص، المستشارين القريبين من السلطة
الحاكمة، ونبي الله سليمان في الآية الثالثة، سأل "الملؤا" من حوله عن
الذي يمكنه نقل عرش "بلقيس" من "اليمن" للشام"، وبعيدا
على تفاصيل القصة، نرى أن "بلقيس"، والنبي "سليمان" استشاروا
أقرب الناس إليهم، مما يعني أن "الملؤا" هم أقرب الناس للسلطة، قد
يكونوا صالحين أو غير صالحين، أما "الملأ" بصورة عامة، فهم كما ذكرنا
الأغنياء المترفون، ودائما ما يتقرّبون إلى الحكّام والأمراء والملوك والسلاطين،
ثم يتزاوجون بالأموال مع السلطات، ومن الطبيعي أن يتصدّوا لأي حركة إصلاح، أو أي
تجديد للخطاب الديني، والعوام من الناس يتأثرون بخطابهم السياسي والديني، وبالتالي
لابد أن يتم تعليم العوام وتربيتهم، بعيدا عن أوهام النخب الإعلامية والنفسية،
ودوما النخب تقترب في الرخاء من الحاكم وتبتعد عنه في الشدائد، يأخذون ولا يعطون،
يميّزون أنفسهم بالوجاهة في أوقات الرغد، وقد ذكرهم "علي بن أبي طالب"
في نصيحته لأحد الولاة، فقال له : "وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق،
وأعمها في العدل وأجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة يجحف(يذهب) برضا الخاصة، وإن
سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة، وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مئونة في
الرخاء وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف(الإلحاح)، وأقل
شكراً عند الإعطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر، من أهل
الخاصة، وإنما عمود الدين وجماع المسلمين، والعدة للأعداء العامة من الأمة ، فليكن
صغوك (ميلك) لهم ، وميلك معهم"، وهو وصف دقيق، ربما لم يتحقق طوال تاريخ
المسلمين، لأنهم عاشوا في ظلال الدولة الدينية، التي تعطي النخب أو
"الملأ" الشهرة والرخاء ليساعدوها في الحكم المستبد، كان الله في عوننا
جميعا.. هذا والله هو الأعلى والأعلم..
0 تعليقات