الكل
يصرخ كبتا ورغبة وشهوة
د. محمد إبراهيم بسيوني
رحلت الشيوعية والاشتراكية وتركت لنا ميراث ثقيل من
الحقد الطبقى وطبقات اجتماعية ترى العمل منة يمنها العامل على دولته. ثم ظهر
الانفتاح الاقتصادي الذي وسّع دائرة الفساد في مصر. الانفتاح الحقيقي والضروري هو
الثقافي ...
عشت ٨٠ في المئه من عمري في مصر وهذا البلد لا يتغير
تغيرا ملحوظا. كان كقلب ضعيف ينبض ببطء شديد نبضات مكررة. أغاني الحب، مشاكل
المحبين والمتزوجين، ثرثرة العائلات، ثرثرة الأصدقاء ورواد المقاهي حتى أسرار
البنات، كلها كانت نسخ متطابقة تتكرر في رتابة. هناك فقراء دائما أكثر من
الأغنياء. هناك لصوص دائماً أكثر من الشرفاء وإن اختلفت فرصهم وقدراتهم. هناك
أزواج يخونون زوجاتهم دائماً فيصرخن أن الرجال لا أمان لهم كأنهم يخونهن مع رجال
لا نساء مثلهن خائنات أيضا. ولكن الكل بلا استثناء يحافظ على مظهر أخلاقي أو ديني
يستدر به احترام الآخرين. وينتهي في المحصلة إلى تصور خاص عن نفسه أنه محترم
وبالأدلة والبراهين، وهو شعب متحرش بطبعه ولكن اللباقة الاجتماعية كانت دائما
تقتضي أن يختلس النظر ولا ينظر ببجاحة وألا يبدأ في ممارسة تحرشه إلا مستترا في
زحام الأتوبيس أو ظلام صالة السينما حتى بات غريبا أن تركب مواصلات لمدة أسبوع ولا
تجد مشاجرة مع متحرش. وغريبا جدا أن تنتهي حفلة ١٠ صباحا كلها في سينما دون أن
تصرخ سيدة وهي تضرب متحرش بالشبشب بعد أن فرشت الملاية اللف على الكراسي. لكن
الأمور دائما كانت تمر بسلام كأمر معتاد رتيب يتكرر كل يوم وربما كل حفلة في
السينما أو رحلة في الأتوبيس. نادرا ما كانت الشرطة تتدخل في مثل هذه الأمور
الشخصية التي تخص الشعب والشعب فعلا كان يعتبر مشاكله شخصية وحريص جدا ألا تتسع
لتتدخل فيها الحكومة وتدس أنفها فيما يخصه، فالمتحرش قد يؤنبه أحدهم ببضع كلمات
وربما سبه وينتهي الأمر وحتى اللص الذي كان يتعامل مع شعب فقير جدا وحالته كرب،
فهو بالكثير حرامي غسيل يتحمل صفعتين على وجهه وقفاه ثم يقسم أنه تاب وأناب ليتركه
أهل الشارع يغور في داهية ويعودوا لحياتهم الرتيبة واغتياب الجارة أو زميل العمل
وينسون أمر اللص والغسيل تماما وكأنه لم يحدث.
تطورت الحياة ببطء بعد الانفتاح الاقتصادي وتطورت
السينما من أفلام فاتن حمامه التي تخون زوجها لأنه وحش قاسي بينما هي أحبت رجل
جميل وحنون لتتحول إلى سعاد حسني الشقية التي ترقص وتقفز من الشاشة لتجلس على حجر
الجمهور إلى نادية الجندي التي أوجدت للجمهور أفلام المخدرات والشهوة. وصار الحب
مبرر وجيه للزنا ثم صار الزنا لا يحتاج لمبرر من الأصل ليأتي دور الإسلام هو الحل
ويثور الشباب المطحون تحت عجلات الرغبة والجوع الجنسي والمادي والفقر والفساد
ليكتشف فجأة باب الخروج من كل هذا وانطلق يكسر المسارح في الجامعات والمدارس ويمنع
الحفلات الغنائية والراقصة ويغلق أبواب الفسق والمجون بالسلاسل ويحارب الشيطان
بالسنج والمطاوي والخطب الزاعقة والوجوه العابثة المشمئزة فزاد الشعب المتحرش
بطبعه تخفيا وتسترا ومارس هواياته تحت الحجاب فظهر الحجاب على الجينز الضيق
والعباءة فوق الاسترتش وهو يضمر في نفسه كراهية شديدة لهؤلاء الذين أجبروه على
الإمعان في التخفي ونشروا حوله قيودا فوق قيود الفقر والعوذ وفرقوا بينه وبين متعة
الأتوبيس المزدحم وقميص النوم تحت الملاية اللف في ظلام سينما الدرجة الثالثة التي
تعرض ثلاثة أفلام في حفلة واحدة وتعيدهم لمدة عشرين سنة ولا أحد يدخل ليشاهدها.
كان الشعب المتحرش بطبعه أيضا حانقا عليهم جدا لأنهم
أجبروا الحكومة على التدخل في خصوصياته بدون قصد وهي تحاربهم فأصبح التحرش احد
شئونها والسرقة من مهماتها بحكم تواجدها معه في الشارع.
وقامت الثورة يناير وخرج الشعب يطالب بحريته في ما
هو لا يعلم في ماذا بالظبط أو لا يستطيع أن يطالب أو حتى يصرح بما يريد. فهو مثلا
يريد أن يستريح (كفاية شقا بقى) وأن تتوزع عليه الأموال المسروقة (فما سرقه كل
منهم لا يكفي شئ) وأن تكون السينما مجانية والمواصلات زحمة (لأ ماينفعش إيه الكلام
الفارغ ده) والحرية للمثليين (ماهو خلينا نفك دول كله حايفك بعد شوية) وإعلان
الخلافة. (فيه إيه ياعم ؟) وإسلامية إسلامية. وإن الحكم إلا لله وبلاش تعليم لغات
الكفار نهار اسود ومنيل ؟؟؟ وإرضاع الكبير، وزواج القاصرات (هاتوا العيال ننكحهم)
واختلط الحابل بالنابل (الكل يصرخ كبتا ورغبة وشهوة) هذا يريد تقنينها وذاك يريد
شرعنتها، وضاعت أصوات الشباب، وصرخوا لا هذا ولا ذاك، حياة نظيفة مدنية راقية
محترمة. بصق عليهم الجميع ثم بصقوا في وجوه بعضهم البعض، ثم بصقت عليهم الحكومة
وضربتهم بأحذيتها. كنوا بقى مافيش كلام من ده، العيال اللي أخرجوكم من القمقم
حانحرق ميتين أبوهم، وانتوا ياللا بيتك بيتك، كل واحد يرجع لقبره ....
عميد طب المنيا السابق
0 تعليقات