اليعقوبى .... الانتصار لأم
البنين انتصار للحق
بقلم / محمود جابر
الارتقاء الذهني أو الفكري ليس
شىء يهبط من السماء على رأس أفراد أو جماعات أو شعوب، ولكنه نشاطات وإدراكات
وخبرات وقدرات تصنعها الظروف الذاتية، والظروف الموضوعية، ومن المهم أن ندرك أنه
حينما يتحقق الارتقاء الذهني أو الفكري لشخص ما، فإنه يصبح نقطة بدء فى التغيير و
الارتقائي العام فى الظرف المكاني والزمانى، أو كلهما مجتمعين.
وعلينا أن ندرك تمام الإدراك
أن صانع الارتقاء الحضاري الحقيقى ليس الاقتصاد أو الثروة الأحفورية ( معادن
وبترول)، ولكنه العقل البشرى الذى يصنع الثروة ويحول المواد الاحفورية من مواد
مخفية ومهملة إلى ثروة حقيقية، أى يصوغها ويخلق قيمتها كما يصوغ صانع التماثيل
منتجاته من قطع الحجر الأصم فيخلق بذلك قيمتها .
أما وقد اتضح لنا أن العقل
صانع الارتقاء الاقتصادي وصانع الارتقاء التاريخي فى كل المجالات فان هذا يفرض
علينا فى موضوع بحثنا أن ندرك أن العقل الواعى المدرك هو الذى يستطيع صياغة العقل
الجمعي وتحديد مساره، وتغيير المسار المفروض عليه من " الذهن الاجتماعي
" اللاعقلانى، والديماجوجى .
وفى هذا البحث نعيد قراءة بحث
المرجع الدينى سماحة الشيخ اليعقوبى فى بحثه المعنون ب " انتصارا لام
البنين" الذى يناقش الأساطير المؤسسة لإرباك العقل المسلم والعقل الإنساني من
قبل جماعة كهنوت المعبد الذين يريدون فرض نمط من التفكير اللاعقلانى على الأمة .
وحين يناقش اليعقوبى قضية أم
البنين فإنه يناقش قضية أمهات العراق اللاتي يرسلن أولادهن، والزوجات اللاتي يفعلن
فعل الأمهات فى دعم الحشد الشعبي وللدفاع المقدس عن الدين والأرض والعرض والشرف.
البحث التاريخي الذي اضطلع به
سماحة اليعقوبى مؤرخ بـ 11 صفر 1420 الموافق الخميس 27/5/1999.
وهذه ملحوظة أولية وليست شكلية
فى البحث ... ولكنه استشراف مستقبلي ينتصر فيه اليعقوبى لدور المرأة التى تدفع
كبدها من أجل الكرامة ومن ؟أجل ما تؤمنه به من حق ... وهو بهذا يريد أن يقيم
للمرأة العراقية الثكلى نموذجا هو أم البنين .. رضوان الله عليها، التى دفعت
ببعلها (سلام الله عليه)، ثم دفعت بأولادها للارتقاء إلى عالم الفردوس الأعلى
صابرة مطمئنة .. .
التحريف الوجه الحقيقى للصراع:
فى البداية يقول اليعقوبى ما
نصه :
امتدت ید التحریف إلى مختلف
العلوم الإسلامیة تعصبا لًمذھب أو حقدا عًلى آخر وكیدا لًه
أوتملقاً لذي مال أو جاه ونحوھا، وكان التاریخ الإسلامي أحد
المجالات الخصبة لھؤلاء المحرفین"..
وهى عبارات مختزلة أيما اختزال
فى الصراع الذى جرى منذ دعوة الإسلام وقد صوره البعض – كذبا وبهتانا- بأنه الصراع
صراعا قبليا بمفهومه القبلي الجاهلي، والمقصد هنا هو الصراع ( الهاشمى – الأموى)،
فبنو هاشم وبنو أمية، قد يمتلكان جذرا إرثيا بيولوجيا (عبد مناف) غير أنهما
يتباينان ويختلفان فكريا وأخلاقيا كما يختلفان عقائديا في فهمهما للخالق، فبينما
كان الهاشميون يعيدون ترتيب المجتمع القبلي في محاولة للخروج به من عقلية الجاهلية
إلى الشكل الحضاري عبر بث القيم والمثل العليا التي أمر بها جدهم هاشم من منع
الوأد، والاعتقاد، وإلزام قريش بأن يعين أشرافها ضعفائها، كما أنه سن لهم منهجا في
اكرام الحجيج والاعتناء بهم ووضع لهم دار الندوة لتكون محلا لعقودهم وحل خلافاتهم،
وهم في حياتهم مثالا للزهد والعفاف الأخلاقي، بينما كان الجانب الأموي أثرياء مغرقين
في عبادتهم الوثنية.
إن وضع مقارنة تاريخية بين
الموقفين الأموي والهاشمي لا يمكن إدراك عمقها إلا من خلال فهم تاريخي أعمق لواقع
الرسالة الخاتم ولقضية الإمامة ثم لأحداث واقعة كربلاء، فلا تكفي هذه السطور لتبيان
كل الحقيقة ولكشف كل آثار الزيف الأموي خاصة بعد أن أصبح الصراع أمويا طالبيا
(نسبة إلى أبو طالب عليه السلام) أو أمويا علويا (نسبة إلى الإمام علي عليه
السلام)، على الأقل من وجهة نظر بعض المؤرخين في حالة لتجاوز إشكاليات الصراع
العقائدي الذي هو أساس الصراع الأموي الهاشمي أو الأموي العلوي، وليس بعيدا عن طبيعة
هذا الصراع هو ذلك الإصرار الأموي على تبني منهجا إجراميا بل ووحشيا في محاولة
لحسم نتائج الصراع لصالح الطرف الأموي وإن نحى الطرف الآخر فى عملية الصراع إلى آلة قتل وإفناء أهل بيت النبوة
وإزاحتهم عن مواضعهم التي رتبها الله لهم في كتابه العزيز وفي سنة نبية الخاتم
صلوات الله عليه وآله.
ومما يمكن أن نحصى من أشكال الإجرام
الأموي ...
وضع الحديث: فان معاوية أول
دفع مالا لوضع الحديث بل واجبر الفقهاء والمحدثين على محو كل حديث فيه ذكر للإمام
علي عليه السلام أو في أهل البيت عامة، وإذا كانت الفكرة لأبي سفيان فقد طبقها
ابنه معاوية عندما حول الخلافة إلى ملكا عضوضا حين بايع لابنه يزيد.
فمعاوية كتب إلى عماله بجمع الأحاديث
في فضائل علي وأهل البيت عليهم السلام وإحراقها ووضع أحاديث في فضائل الآخرين وبني
أمية:
يقول أبو الحسن المدائني
(ت225) في كتابه (الأحداث): " كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام
الجماعة أن برئت الذمة مما روى شيئا من فضائل أبي تراب (الإمام علي) وأهل بيته
فقام الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليا ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل
بيته " . ويقول أيضا: " وكان اشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من
بها من شيعة علي عليه السلام فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضم إليه البصرة فكان
يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي (عليه السلام) فقتلهم تحت كل
حجر ومدر، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل،
وطردهم وشردهم عن العراق فلن يبق بها معروف منهم ".
ويضيف المدائني: " وكتب
معاوية إلى عماله في جميع الآفاق أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته (عليهم
السلام) شهادة ، وأن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين
يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بما يروي كل
رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته ".
وبذلك ظهرت أحاديث مكذوبة عن
رسول الله صلوات الله عليه وآله تقول:
" إن معاوية احلم أمتي وأجودها
".
" صاحب سري معاوية بن ابي
سفيان"
وان الرسول قال عن معاوية:
" اللهم علمه الكتاب وقه العذاب وادخله الجنة ".
وانه قال: " إذا رأيتم
معاوية يخطب على منبري فاقبلوه فانه أمين هذه الامة ".
وعن قتادة: " لو أصبحتم
في مثل عمل معاوية لقال أكثركم هذا المهدي ".
وروى ابن كثير عن مجاهد:
" لو رأيتم معاوية لقلتم هذا المهدي ".
ومن أجل ذلك ولغرض تثبيت ملكهم
وصبغه بالصبغة الشرعية اخترعوا حديثا نسبوه للنبي الخاتم صلوات الله عليه وآله
لتبرير أفعالهم: وقد اخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله:"
عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك ".
وروي عن عمر بن الخطاب انه
قال: " إن ظلمك (ولي الأمر) فاصبر، وإن حرمك فاصبر ". رواه مسلم.
ومما رواه مسلم وغيره أيضا:
"أطع أميرك وإن جلد ظهرك واخذ مالك ما أطاع الله فيكم ".
الخنساء فى مقابل أم البنين:
كل هذه الأحاديث والروايات إنما
وضعت لتأكيد الملك الأموي والدفاع عن نظرية الوراثة وهم بذلك يثأرون من بيت النبوة
بعد أن أبعدهم الله عن الخير فأرادوا أخذ الخلافة بالسيف وقطع رقاب المسلمين.
ولم يتوقف إجرامهم وعبثم فى
التاريخ إلى حدث الكذب، بل وصل الكذب إلى التلفيق، والاختلاق، وقلب الحقائق وتشويه
الصور، وليست حكاية ابن السوداء هي الحكاية الأولى، ولا ابن سبأ هي الثانية،
فاليعقوبى وضعنا أمام حكاية جديدة فى تنقيبه وتحقيقه وهى حكاية الخنساء وأبناءها الأربعة
أن يجعل بطولتها متساوية مع بطولة وتضحية أم البنين، فتتساوى الرؤوس كما يقولون !!
فالمُخطط المجرم لم يتحمل
كرامة الله تعالى التي شرف بها أم البنين المنتصرة للإمام الحسين (عليه السلام) في
يوم عاشوراء والتى قدمت فدائها لله بأبنائها الأربعة نصرة للدين ودفعا عن الحسين
..وكيف قدمتهم فداءا للدين !!
فكانت نتيجة غيظهم أن صنعوا
نموذج آخر للفداء تمثله شخصية على خط مقابل ويصنع لها نموذجا مفجعا مثل نموذج ابن
البنين ع وفقدانها لأبنائها الأربعة ..
تقول الرواية أنهم – أبناء
الخنساء - استشهدوا في معركة القادسية،
ومن خلال التحقيق الذي انبرى له اليعقوبي يتبين إن الرواية موضوعة يمكن إن يراد
وضعها تحريف وتضيع الحقيقة التاريخية وهي الوقفة التي وقفتها أم البنين مع الإمام
الحسين (عليه السلام) حينما أعطت أولادها الأربعة في معركة ألطف فداء له (عليه
السلام) وفيما يلي تلخيص لهذا البحث :-
أولا : نص الرواية ( في
الاستيعاب لابن عبد الرب في ترجمة الخنساء وفي الإصابة لابن حجر جمعاً بين النصين
) : ذكر الزبير بن بكار عن محمد بن الحسن المخزومي وهو المعروف بابن زبالة احد
المتروكين عن عبد الرحم بن عبد الله عن أبيه عن أبي وجزه عن أبيه قال : حضرت
الخنساء بنت عمرو السلمية حرب القادسية ومعها بنوها الأربعة رجال فقالت لهم من أول
الليل يأبني إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين والله الذي لا اله إلا هو إنكم أبناء
رجل واحد كما إنكم بنوا امرأة واحدة ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم ولاهجنت حسبكم
ولا غيرت نسبكم وقد تعلون ما اعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين
واعلموا إن الدار الباقية خير من الدار الفانية يقول الله تعالى (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ...) الخ الرواية .
ثانياً: مناقشة السند لهذه
الرواية.
ناقش اليعقوبى الرواه من نفس
كتب القوم وكانت النتيجة :
1- الزبير بن بكار : في ميزان
الاعتدال للذهبي قال إن الزبير بن بكار في عداد من يضع الحديث ، وقال مرة أخرى أنه
منكر للحديث وفي كتاب الجرح والتعديل للرازي الزبير رأيته ولم اكتب عنه .
2- محمد بن الحسن المخزومي (
ابن زبالة) : وفي تهذيب التهذيب لابن حجر إن المخزومي كذاب خبيث ولم بثقة ولا مأمون
وكان يسرق.
3- عبد الله بن عمر : قال ابن
المديني إن عبد الله ضعيف .
4- أبو وجزة : في التهذيب إن أبو
وجزة مات سنه 130هـ وهو ثقة قليل الحديث وفي الجرح والتعديل للرازي أبو وجزة كان
شاعراً لم يذكر أباه في من روى عنه .
ثالثاً : استنتاج : بعد بحث أحوال
رجال السند اتضح إن أكثرهم كذاب وضّاع متروك الحديث أو مجهول وأن وجود أحدهم كابن
زبالة يكفي لطرح الرواية وإهمالها.
رابعاً : مناقشة متن الرواية : لم يكن للخنساء أربع
بنين من زوج واحد كما جاء فى الرواية فقد ولد لها من زوجها الأول وهو رواحة بن عبد
العزى السلمي ولدها الأكبر عبد الله وهو أبو شجرة ولها من زوجها الثاني أبي عامر
السلمي ثلاث أولاد وبنت .
2- إن أبناء الخنساء توفوا أو
قتلوا في تواريخ مختلفة .
3- إن أبا شجرة وهو ابن
الخنساء من زوجها الأول كان ممن ارتد عن الإسلام بعد وفاة النبى ( صلى الله عليه
وآله) وقد روى التاريخ له أبياتا لا يقولها مسلم ويسب فيها الإسلام وأهله – أعاذنا
الله من الإثم .
4-لا وجود للرواية في كتب الأقدمين
سواء منها كتب التراجم والسير وكتب التاريخ المطولة .
5- لو صح هذا الخبر لكان أحرى
بالخنساء إن تمجده وتسجله في شعرها بدلاً من إن تتبقى ترثي أخويها الذين قتلا في
الجاهلية .
خامسا ً : ثمرة البحث بعد
التمحيص الذي تعرضت له الرواية فقد أسفرت الحقيقة عن وجها بان الرواية من نسيج
الوضاعين الكذابين وقد راق للزبير بن بكار - وهو مصدرها الوحيد - بثها لكي يغطي
على مأثر أم البنين فاطمة بنت حزام الكلابية زوجة أمير المؤمنين (عليه السلام )
التي تلقت نبأ استشهاد بنيها الأربعة في معركة كربلاء سنة 61 هـ وهي تقول ( الحمد
لله الذي جعل أولادي فداء لأبي عبد الله الحسين ) ...
ولكن الزبير بن بكار وهو من
نسل عبد الله بن الزبير الذي ترك الصلاة على محمد وال محمد أربعين جمعة في خطبته
حتى لامه الناس فقال لمحمد أهل بيت سوء إذا ذكرته أشربت نفوسهم إليه وفرحوا بذلك
فلا اصب إن اقر أعينهم.
هذه الاستبدال، الذى صنعته
العصابة المجرمة باستبدال الطيب بالخبيث، كانت أم البنين إحدى ضحايا هذه السياسة
الظالمة فقد اندرست مآثرها واحتلت الخنساء بغير حق مكانها ولكن (يُرِيدُونَ أَنْ
يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ
نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) .
المحصلة إن فداء أم البنين بأولادها
الأربعة سيبقى لا نظير ولا شبيه له أبدا،
وإن خبر الخنساء أسطورة صنعتها أقلام آل الزبير، ودفاع اليعقوبى عن حق أم البنين
هو دفاع عن المرأة التي تقف فى الموقف الصحيح مهما كلفها من تضحية، حتى لا يأتي
الزمان ويساوى الكتبة الكسبة بين أمهات وزوجات أبطال الحشد الشعبى وبين نساء
وزوجات مجرمى داعش ...
المحصلة الثانية التى قصدها
اليعقوبى استشرافا وهو يؤكد على من يكتب التأريخ أن يؤرخوا عن النساء الفضليات
اللاتي ضحين ما لم يضحين أحد فى كل بلاد الدنيا وهم يدفعون بثمرة فؤادهم وأكبادهم
إلى ساحات القتال والشهادة ومن الظلم أن لا نخصهم بالذكر ونترك المساحة شاعرة
لأبناء الحرام ....
0 تعليقات