الورع والفتوى
بين الدماء وفقه الاحتياط
عز الدين
البغدادي
لا بدَّ أن يكون المجتهد
ورعاً، والورع هو التحرّج وكفّ النفس ومنعها عن الوقوع في الحرام، وهو مطلوب بشكل
اكبر من أهل العلم وممن بلغ درجة الاجتهاد لاسيّما وأنّ المجتهد مؤتمن على الدين
والنفس والمال والعرض فيجب أن يكون ورعا حتى يقدر على أن يتحمّل الأمانة كما إنّ
الناسَ إليه وتقتدي به في سلوكها.
والورع صفة أخلاقية، إلا أنها
فهمت عند كثيرين من العلماء المتأخرين على إنها صفة علمية أيضا أي تتعلق بالفتوى
والاستنباط. وهذا فهم خاطئ، صفة أخلاقيّة من حيث سلوك المرء وليس لها دخل بموضوع
العلم. نعم يمكن أن يكون للورع معنى عند الفقيه وذلك بأن لا يتسرَّع في الفتوى،
وأن لا يستعجل في دعوى بلوغ درجة الاجتهاد فيُفتي الناس قبل أن يستكمل أدوات
الفتوى.
وقد حذّر النبيّ (ص) من ذلك
فقال: أجرأكم على الفتيا أجرأكم على الله.
وتجد عند أهل العلم كثير مما
قيل عن الورع وعدم التعجّل في الإفتاء، فقد وروي عن عطاء بن السائب التابعيّ:
أدركتُ أقواماً يُسأل أحدُهم عن الشيء فيتكلم وهو يرعًد.
وعن سفيان بن عيينة: أجسر
الناس على الفتيا أقلُّهم علما.
وهذا الورع هو الّذي جعل القوم
فيما سلف يتهرّبون من الفتيا ويرون أنّ لا تدلّ على علم وورع، وأنَّ الفقيه لا
يستعجل الفتيا، بل ربّما يُسرّ إن كًفي مؤنتها.
ولا شكَّ أنَّ الورع بهذا
المعنى وبهذا المقدار مطلوبٌ، لاسيّما وإنّك كثيراً ما تجد من أهل الجهل من يستعجل
فيدّعي أنّه بلغ حدَّ الاجتهاد لا لشيء إلا لأنّه انتهى من دراسة بعض الكتاب، دون
أن يقف ويتحذّر من النتائج التي يمكن أن تتحقّق وأبواب الفتنة التي يمكن أن تفتح.
أو يستعجل بالفتوى دون أن يقف على موضوع الاستفتاء ويستفصل عنها.
لكن لما كان الورع مهمّاً
ومطلوبا، فقد فهم قوم أنّ الورع يقتضي الأخذ بالاحتياط وأنّ الورع يقتضي أن يأخذ
الفقيه بما اشتهر بين الفقهاء واعتبار الشهرة وعدم مخالفتها ما أمكن. وأنَّ
مخالفتها تدلّ على عدم الورع. فنسي أنّ الشرع وإن طلب أو أحبَّ من المكلّف أن يعمل
بالاحتياط ما لم يبلغ الوسوسة أو التشريع المحرّم، إلا أنّه لم يدرك أنّ هذا راجع
إلى تكليف المكلّف ولا يصل المر إلى حدِّ الفتوى، فإذا بالفقيه يبحث عن الأشقِّ
والأشدِّ يحمل الناس عليه، وإن لم يكن عنده شيء من الورع.
ولكي لا يكون الطرح نظريّاً
بحتاً، فيمكن أن نقف عند نموذج مهمّ، وهو المحقّق الأردبيلي. وهذا الرجل يستحقُّ
أن يكون موضوع بحثٍ، فقد كان على درجة من الورع والتديّن، وقد بلغ من ذلك أنّه كان
لا يمدُّ رجليه حياءً من الله. وسواء صحَّ ذلك أو لم يصحّ، وسواء أعجبت بهذا
التصرف أم لم يُعجبك، فإنّ المهم أنّ هذا الرجل الورع كان لا يعرف من الورع شيئا
إذا تعلّق الأمر بالعلم، فهو يبحث ويناقش ويشكّك دون أن يرجع إلى قول زيدٍ أو فتوى
عمرو.
فهو لا يقف أمام الشهرة ولا
يتراجع بين أقوال الفقهاء. وكان مع ذلك من أكثر الفقهاء عملاً بقاعدة رفع الحرج،
فلا يكلّف المكلّفين بحجّة الاحتياط ولا يلقي ورعه على أكتاف الناس.
فهذا الرّجل الّذي كان يعرف
بالمقدّس والّذي كانت تحكى كثير من القصص عن كراماته وزهده وورعه، هذا الرجل كان
أعظم ما فيه أنّه لم يكن ورعاً عند البحث، فهو لا يتورّعُ عندما يناقش أقوال
الفقهاء ولا يرعبُه المشهور ولا يجدُ الورعَ في أن لا يخالف الإجماع.
ورغم أنّ أهل الورع من الفقهاء
كانوا يلجؤون إلى الاحتياط وهم يذمّمون الناسَ لأنّهم لا يبالون بأحكام الشرع،
فإنَّ المقدّس الأردبيليّ كان أكثر من استعمل في الفقه قاعدة رفع الحرج، وكان يعمل
على تسهيل الأحكام من خلال الإفتاء بما لا يشقُّ على الناس.
وكذا كان تلميذه صاحب المدارك،
وهو محمّد بن علي الموسوي، فهذا الرجل كان كما قيل عنه زاهدا وورعا، لكنّه لم يكن
يقدّس الثوابت في البحث وهو يُعمل وفق منهجٍ علميٍّ رصين، فهو يعرفُ أنّ العلمَ
بحث لا يقف عند حدٍّ.
ثم ارجعْ إلى فقيهين آخرين
لتجد الأمر مختلفاً عندهما، أما الشيخ الأنصاري فهو عالم جليل القدر كان له الكثير
من البحوث التي ساهم بها وأضاف إلى الفقه والأصول. لقد كان هذا الرجل ورعاً إلا
أنّ هذا الورع دفعه إلى تأصيل الاحتياط والعمل به في مجال الفتوى، فنقل الورع من
أمر نفسيّ يعود إلى المكلّف إلى أصل يعمل به الفقيه بما يثقل على الناسِ.
وهنا فقيه آخر معاصر عُرِف عنه
أنّه من أهل الورع والتديّن والخشوع، كما إنه دروس تدل على رؤية فقهية وذوف مميّز،
إلا أنَّ هذا الرجل لم يكن للاسف يتوقّف كثيرا في الدماء!!!! وقد استخدمت فتاوى
الرجل للقتل دون وجه حقٍّ ثابت.
بعد الاحتلال أصدر هذا الفقيه
الجليل فتوى قسمت فيها البعثيين الى خمس درجات منهم من يجوز قتله، ومنهم من لا
يجوز، وقد تعجبت من هذه الفتوى، لأنّه أصدر الفتوى وترك التطبيق للناس.
استغربت من تلك الفتوى فكيف يمكن لشباب صغار
السن أن يقتلوا أشخاصا وفق تحديدهم هم للدرجة التي يقع فيها هذا الشخص؟ حصل نقاش
وكنت في سنوات تحصيلي الأولى، فقال لي أحد الطلبة: الفقيه ليس من شأنه أن يحدّد
المصداق بل يعطي الفتوى، أما تحديد المصداق فعلى المكلّف.
قلتُ له: ما قلتَ صحيح، أنا
أتصوَّر أن يترك الفقيه تحديد الموضوع للمكلّف عندما يتحدّث عن بول أو غائط، أما
في الدماء فلا، لأن القاعدة هي وجوب الاحتياط في الدماء والفروج والأموال، ولأن
القتل لا يكون بفتوى عامة بل لا بدّ في من حكم الحاكم في كل قضية بشخصها وبتحديد
كل ما فيها.
0 تعليقات