ثورة التكنولوجيا وآثارها
د. محمد ابراهيم بسيوني
عميد طب المنيا السابق
شهد العالم في السنوات الأخيرة
ثورة تكنولوجية ومعرفية هائلة أثّرت على شتى نواحي حياة الإنسان، وأدت إلى ظهور
وسائل جديدة للتواصل مع الأشخاص مهما بعدت المسافة التي تفصلهم عن بعضهم، وكان من
أهم الأسباب التي أدت إلى ذلك التسابق المعرفي، وزيادة الاستثمار في البحث العلمي،
والذي أدى إلى ظهور ابتكارات جديدة انعكست في الواقع العملي على حياة الناس، وتعد
مسألة التقدم العلمي مسألة نسبية، حيث إنها تتطور مع التقادم الزمني، وإن ما نشهده
في هذه الأيام يوضح أهمية التقدم العلمي التي لا نقاش فيها. يمكن ملاحظة أهمية
التقدم العلمي من خلال انعكاسات هذا التقدم على حياة الناس، وتأثيره على تغيير
الأنماط الحياتية على نحو سهّل حياة الإنسان، ومساهمته في إيجاد طرق لم تكن معهودة
من قبل في ممارسة الأنشطة الإنسانية المختلفة، وعليه فإنه يمكن أن نلاحظ أهمية
التقدم العلمي من خلال ما يلي:
التطور الطبي: تبرز
أهمية التقدم العلمي بشكل واضح في المجال الطبي من خلال الوصول إلى أمصال مضادة
للعديد من الأمراض التي كان تشكل خطرًا على حياة البشرية، بالإضافة إلى زيادة قدرة
الأطباء على إجراء الجراحات المعقدة، وإمكانية إجراء العمليات الجراحية عن بعد.
تطور الاتصالات:
ساهم دخول الإنترنت إلى عالم الاتصالات في إحداث نقلة نوعية في الكيفية التي يتم
بها التواصل مع الأشخاص في مختلف مناطق العالم، من حيث زيادة دقة الاتصال،
وإمكانية جعل هذا التواصل مرئيًا من خلال تقنيات الاتصال بالفيديو مع أي شخص في
هذا العالم.
زيادة التواصل عن بعد: أدت مواقع التواصل
الاجتماعي دورًا حيويًا في زيادة تواصل الناس مع بعضهم مهما باعدت بينهم المسافات،
وهذا أدى إلى زيادة تفاعل الشعوب والثقافات مع بعضها بعضًا، كما أدت مواقع التواصل
الاجتماعي دورًا أساسيًا في عملية الوصول إلى المعلومة بسرعة متناهية، من خلال
تعدد المصادر الإخبارية من موقع الحدث بواسطة تقنيات البث المباشر التي تضع
الإنسان في قلب الحدث بالصوت والصورة.
إيجاد أسلوب أسهل للحياة:
وهذا يشمل العديد من مجالات حياة الإنسان بما في ذلك التنقل بين المدن بوسائط
النقل الحديثة كالطائرات والقطارات الحديثة، وإجراء المعاملات البنكية عن بعد،
وحجز الفنادق وتذاكر الطيران وتذاكر الأحداث الفنية والرياضية، وخدمات توصيل
الأشخاص وتوصيل الطعام وغيرها الكثير.
أهمية التقدم العلمي لا تلغي
بعض السلبيات التي تسببت بها التقنيات الحديثة، وإن من أهم سلبيات التقدم العلمي
ما يلي:
زيادة عدد الوفيات جراء استخدام الأسلحة الحديثة
في الحروب.
تقليل التواصل الإنساني
المباشر لاعتماد الأشخاص على وسائل التواصل الاجتماعي.
التسبب بأمراض مختلفة ناتجة عن الاستخدام المفرط
للهواتف الذكية، والأجهزة اللوحية، والأجهزة التقنية الأخرى كافّة.
وبالرغم التقدم العلمى
المـُـذهل الذى نقل البشرية من حياتها الأولى حيث أكل اللحوم النيئة، إلى عصر
البخار ثم الكهرباء إلخ، ورغم تقدم الفكر والانتقال من مرحلة الإيمان
بالميتافيزيقا إلى مرحلة الإيمان بالعقل، والعقل فقط، رغم كل ذلك فإنّ العرب
والمسلمين لم يتخلــّـصوا بعد من تأثير الخرافة. وقد حاول بعض المتعلمين المحسوبين
على الثقافة السائدة المصرية التخفيف من تأثر الفكر الخرافى المُـنتشر بين العرب،
فأشاروا إلى وجود ظواهر مماثلة فى بعض الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة
الأمريكية. وكان من رأى الدكتور فؤاد زكريا أنّ المقارنة بين
الحالتيْن فيها مغالطة، حيث أنّ الخرافة فى المجتمعات العربية والإسلامية، تأخذ
شكل العداء الأصيل للعلم والعقل، ويمثل هذا العداء امتدادًا
واستمرارًا لتاريخ طويل، كان العلم فى أوروبا يحارب فيه معركة شاقة لكى
يـُـثبـّـتْ أقدامه فى المجتمع، بينما كان العداء للعلم هو الشىء الثابت فى
المجتمعات العربية والإسلامية.
إنّ انتشار الخرافة بين
العرب، تعبير عن جمود المجتمع وتوقفه عند أوضاع قديمة، ومقاومته
للتطور السريع المحيط به من كل جانب. والفرق واضح بين هذا الأسلوب فى الفكر
الخرافى، وبين أسلوب المجتمعات الأوروبية التى مرّتْ بتجربة التفكير العقلى حتى
أعلى مراتبها.
أى أنّ الفرق واضح بين الفكر الخرافى حين يكون
تعبيرًا عن جمود متأصل وتحجر على أوضاع ظلتْ سائدة طوال آلاف السنين، دون التوقف
عن ممارستها أو حتى مراجعتها.
كما أشار الدكتور فؤاد زكريا
إلى أنّ الكــُـتاب العرب والمصريين لازالوا يـُـردّدون نفس الحجج التى يقول بها
أنصار التفكير اللاعلمى فى الغرب، فى محاولة من هؤلاء الكتاب لكى تظل عقول العرب
مُـغلقة، وبالتالى لا يرون التطور المذهل الذى أحدثه العلم فى العصر الحديث.
وقد حاول البعض ربط الخرافة
بالعلم، ولكن محاولاتهم فشلتْ فشلا ذريعـًـا، فلجأوا إلى ربط الخرافة بالدين،
وهكذا تراهم يستغلون بعض الغيبيات الدينية كالإيمان بالروح
ووجود بعض النصوص الدينية التى تتحدث عن الحسد والسحر.. إلخ
لكى يدافعوا بحرارة عن
الخرافات، مؤكدين أنّ الدين نفسه يـُـدعـّـمها.
وهذا السلاح من أخطر الأسلحة،
لأنه يستغل عمق الإيمان الدينى من أجل تأكيد الفكر الخرافى، خاصة أنهم يضعون الدين
فى مواجهة العلم. فيقع المؤمنون بالأديان فى صراع بين عقائدهم الدينية الراسخة،
وبين المناهج العلمية التى ثبتَ صحتها على أرض الواقع.
وقد حاولتْ الكنائس
الأوروبية فى العصور الوسطى أنْ تسلك هذا الطريق المحفوف بالخطر (أى معاداة العلم
ومعاداة العقل والترويج للخرافة) ولكن بعد نضال العلماء والمفكرين عبـْـر أربعة قرون
على الأقل، انتصر العلم وانتصر العقل، والدليل هو انصراف جماهير الشعوب الأوروبية
عن العقائد الدينية المغلوطة، وبأعداد كبيرة.
مع مراعاة الصراع المرير الذى
دار بين العلماء والمفكرين، وبين الكنائس فى العصور الوسطى.
حيث ارتكبتْ الكنائس العديد من
الأخطاء وهى تــُـهاجم العلم والعلماء، بحجة أنّ العلم يتعارض مع النصوص الدينية،
كما حدث فى قضية (دوران الأرض) و(ارتفاع السماوات) ووصل اضطهاد العلماء لدرجة
الايذاء المعنوى والمادى حيث وقائع النفى أو الحبس أو التعذيب أو الحرق، كما حدث
مع حالة العالم والمفكر الكبير (جوردانو برونو) الذى أحرقه القساوسة (الأتقياء) مع
مطلع عام 1600 فى روما لأنه كان يؤكد صحة نظرية كوبر نيكوس وجاليلو عن دوران الأرض
حول الشمس، ودفاعه عن الحضارة المصرية، وأنّ سلام البشرية من الممكن أنْ يسود لو
عمـّـتْ الديانة المصرية القديمة جميع أرجاء العالم، حيث أنها تأسسّـت على
(التعددية) ونبذتْ (الأحادية) ولكن بعد هذا الصراع والنضال الذى خاضه العلماء
والفلاسفة الأوروبيون، خضعتْ الكنائس فى نهاية الأمر للتطور الطبيعى، سواء فى
العلوم الطبيعية أو فى حياة البشر وسلوكهم اليومى فى حياتهم الشخصية. فاضطرتْ
الكنائس إلى التراجع عن مواقعها واحدًا تلو الآخر، حتى أصبحتْ اليوم تدافع عن كثير
من الأمور التى كان القول بها فيما مضى كافيـًـا لاضطهاد صاحبها على يد الكنيسة
ذاتها.
ولكن اليوم – بعد تراجعها فى الكثير من الأمور-
خسرتْ الكنائس الكثير من مواقعها وأخذ تأثيرها على الأجيال الجديدة يتضاءل
باستمرار.
كان العلماء والمفكرون فى
العصور الوسطى (وقبل الانتصار على الخرافات) يؤمنون بالفيلسوف أرسطو، وأنّ كلامه
له قداسة الكتب الدينية. وظلتْ أفكاره هى السائدة طوال العصور الوسطى، أى طوال
1500سنة. كذلك كانت كثير من قضاياه تؤخذ بلا مناقشة عند الكــُـتاب
المسلمين الذين وصفوه ب (المعلم الأول) وكان من رأى د. فؤاد زكريا ((والأمر الذى
يـُـلفتْ النظرفى ظاهرة الخضوع لسلطة مفكر مثل أرسطو، أنّ هذا الخضوع كان يتخذ شكل
التمجيد، بل التقديس، ومع ذلك جنى هذا التقديس على أرسطو جناية لا تــُـغتفر، حيث
جمّـده التقديس وجعله صنمـًـا معبودًا.
وهو أمر- لو كان الفيلسوف نفسه قد شاهده
لاستنكره أشد الاستنكار، حيث أنّ الفيلسوف الحق لايقبل أنْ يـُـتخذ تفكيره– مهما
بلغ عمقه- وسيلة لتعطيل فكر الآخرين وشل قدراتهم الإبداعية. ومن ناحية أخرى فإنّ العصور
الوسطى لم تأخذ من أرسطو (روح) منهجه التجريبى الذى حاول أنْ يـُـطوّره فى المرحلة
الأخيرة من حياته.
ولكن ما حدث أنّ رجال الدين
أخذوا من أرسطو (نتائج أبحاثه) واعتبروها (الكلمة الأخيرة) ولذلك كان من الطبيعى
أنْ يكون رد الفعل – فى بداية العصر الحديث – قاسيـًـا، وهكذا وجدنا فرانسيس بيكن ورينيه
ديكارت يبدآن فلسفتهما بنقد فلسفة أرسطو، التى تقيـّـدتْ بها العصور الوسطى تقيدًا
تامًـا. كما أكدا (بيكن وديكارت) أنّ التحرر من قبضة أرسطو، هو الخطوة الأولى فى
طريق بلوغ الحقيقة.
وقد خاض جاليلو معركة عنيفة ضد
سلطة أرسطو: حيث أنّ هذه السلطة كانت تــُـساند النظرة القديمة إلى العالم بوصفه
مُـتمركزًا حول الأرض، كما كانت تقول بنظرية فى الحركة مبنية على أسس ميتافيزيقية،
لابد من هدمها لكى يرتكز علم الميكانيكا الحديث على أسس علمية سليمة.
وهكذا أخذ جاليليو يتعقب آراء
أرسطو فى الطبيعة واحدًا بعد الآخر، ويـُـثبتْ بمنهجه العلمى الدقيق بطلان نظريات
أرسطو. وبذلك كان تفكير جاليليو العلمى من أقوى العوامل التى أدّتْ إلى هدم سلطة
أرسطو فى مطلع العصرالحديث.
ويرى د. زكريا أنّ الخصومة التى صنعتها الكنائس
طوال العصور الوسطى، بين الدين والعلوم الطبيعية، وبين الخرافة والعقل، هى
التى أدّتْ – مع بداية العصر الحديث - إلى انتشار ظاهرة الإلحاد، وأنّ كثيرين من
المفكرين أرجعوا ((موجات الالحاد التى اجتاحتْ أوروبا منذ القرن الثامن عشر بوجه
خاص ، إلى تلك الخصومة التى قادتها الكنيسة ضد العلم)).
الكارثة أنه بينما تخلــّـصتْ أوروبا من الميتافيزيقا
وما تــُـحدثه من أثر فى انتاج الخرافات، فإنّ العرب ما زالتْ عقولهم مُـتوقفة عند
العصور الوسطى، ولا ترغب فى الانتقال إلى العصر الحديث. ولذلك يبدو أنّ الأمل فى
نهضة علمية وفكرية، أشبه بالسراب أو نوع من خداع النفس كما يحلو للكثيرين فى
الثقافة السائدة العربية والمصرية بالترويج لهذا الخداع.
0 تعليقات