الحرية فى الزمن الأمريكي
أفغانستان نموذجا
د. محمد إبراهيم بسيوني
في زمن الرئيس الأمريكي
رونالد ريجان ١٩٨١-١٩٨٩ الذي ورث الملف الأفغاني من سلفه جيمي كارتر كانت
أفغانستان تعيش حالة سلام وأمان واستقرار وتنمية متناسبة مع مواردها القليلة في ظل
الملك محمد ظاهر شاه الذي تمكن بنجاح من إدارة الانقسامات العرقية والمذهبية
والجهوية والقبلية في مملكته واستطاع أن ينتهج نهج الحياد بين المعسكرين الشرقي
والغربي زمن الحرب الباردة بهدف الحصول على مساعدات إنمائية من كلا المعسكرين في
آن.
لكن شهية الوثوب إلى السلطة
للإطاحة بالملكية وإعلان الجمهورية كانت قد اختمرت في عقل أقرب المقربين من الملك
وهو صهره وابن عمه محمد داوود خان فحدث ما حدث على النحو الذي جرى في معظم الممالك
العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فكان الانقلاب الأول بداية لانقلابات
أخرى اكتوى منها الأفغان وأوقف حراك بلادهم نحو التنمية.
وفي أواخر السبعينيات استولى على السلطة في
كابول مدنيون وعسكريون ممن كانت الملكية الأفغانية قد أرسلتهم للتخصص والتدريب
والتعليم في الجامعات السوفيتية، مدشنين بذلك نظاما ماركسيا شيوعيا في بلد كل
سكانه من المسلمين القبليين المحافظين. ورغم كل ما قيل وقتها عن هذا النظام الجديد
وتجاوزاته وتقييده لمظاهر الديمقراطية وحرية التعبير، إلا أن الأفغان كانوا على
الأقل يعيشون في ظله بسلام وأمان كما كانت حرية العبادة متاحة وضروب التنمية
مستمرة.
غير أن ما أفسد المشهد هو القرار الأمريكي
المدعوم من حلفاء واشنطن في الغرب والشرق الأوسط بتكوين جبهة على الحدود
الباكستانية الأفغانية لإسقاط النظام الأفغاني الشيوعي ضمن عملية التنافس على
النفوذ. وكان وقود الجبهة هم الأفغان الفارون من بلادهم والمتطوعون العرب
والمسلمون الذين قاتلوا باسم الجهاد كما هو معروف. نعم، لقد سقط نظام الرئيس
الشيوعي نجيب الله على يد المجاهدين بمجرد اجتياحهم كابول، لكن الأوضاع في
أفغانستان لم تعد إلى سابق عهدها بسبب تفشي ثقافة الكلاشينكوف في أوساط الأفغان
العائدين والصراع على الغنائم بين أمراء الجهاد وهو ما جعل إسلام أباد تسارع إلى
تكوين حركة طالبان وتسليحها ودفعها نحو كابول لتسلم السلطة بحجة حماية مصالحها
الاستراتيجية في هذا البلد المتاخم لحدودها والمتداخل معها عرقيا وثقافيا. وبقية
القصة معروفة.
في الأنباء أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب أبرمت
صفقة مع حركة طالبان لإحلال السلام في أفغانستان المنكوبة بالحروب وعدم الاستقرار
منذ أكثر من خمسة عقود متواصلة، وأن الصفقة تتضمن بين أمور أخرى إجلاء معظم القوات
الأمريكية من هذا البلد.
وفي الأنباء أيضا أن ترمب ألغى في الأسبوع قبل الماضي
اجتماعا سريا كان مقررا عقده في كامب ديفيد بينه وبين من تم التفاوض معهم من ممثلي
"طالبان" في الدوحة وهم ستة من عتاة الإرهابيين ممن كانت واشنطن تحتجزهم
سابقا في قاعدة جوانتانامو، وذلك على أثر تبني "طالبان" تفجيرا انتحاريا
راح ضحيته جندي أمريكي و11 آخرين في عملية وصفت بأنها تستهدف الضغط على الأمريكيين
للحصول على مكاسب أكبر قبل تنفيذ بنود الصفقة المشار إليها.
الغريب في الأمر أن صفقة واشنطن مع الطالبانيين حدثت من
وراء ظهر حكومة الرئيس الأفغاني الشرعي أشرف غني المعترف بها دوليا وبمعزل عنها،
وكأنما لا وجود لها على الخريطة السياسية. والغريب أيضا أن قرار ترمب حول إلغاء
اجتماعه مع ممثلي "طالبان" لم يكن قرارا حاسما ونهائيا وإنما تضمن إيحاء
بإمكانية عقده في المستقبل، لكن الأغرب من هذا وذاك حقيقة أن الصفقة المذكورة، رغم
أنها ولدت ناقصة وعقيمة وغامضة (بدليل اعتراض جون بولتون مستشار ترمب للأمن القومي
عليها واستقالته بسببها) - تضفي الشرعية على جماعة إرهابية لفظها العالم بأسره
جراء حماقاتها وفرماناتها الوحشية وانتهاكاتها لأبسط حقوق الإنسان الأفغاني رجالا
ونساء وأطفالا على مدى أعوام وجودها في السلطة بين عامي 1996 و2001 وهي سنوات عجاف
حدث فيها ما لا يمكن وصفه من أحداث بشعة بعلم وإرادة ما كانت تسمى "إمارة
أفغانستان الإسلامية" وزعيمها المتطرف "الملا محمد عمر اخترزاده".
هذا ناهيك عما فعلته إمارة "طالبان" من احتضان تنظيم القاعدة الإرهابي
وتوفير الملجأ لقادته وتدخله في شؤؤن الدول المجاورة.
واشنطن ترتكب خطأ قاتلا بمحاولة إعادة تأهيل
"طالبان" لأن الأخيرة لن ترضى بأقل من العودة للسلطة في كابول على أنقاض
الحكومة الشرعية الحالية وجثث رموزها وكل المتعاونين معها وإن ادعت خلاف ذلك
لأسباب تكتيكية.
وستكون عودتها -إن تحققت-
بداية لحقبة دموية مظلمة أخرى في تاريخ أفغانستان الجريحة والمنهكة أصلا. وفي
اعتقادي أن حوادث القتل والانفجارات التي قام بها الطالبانيون أخيرا في كابول
وغيرها من المدن الأفغانية ليست سوى "بروفة" لعودتهم المأساوية ورسالة
إلى الحكومة الشرعية أنها لن تفلت من العقاب والانتقام.
أما من يعتقد أن السلام سيعم أفغانستان من منطلق أن
"طالبان" قد تغيرت وأنها استوعبت الدرس ولن تكون كما كانت سابقا لجهة
الالتزام بالأعراف والمواثيق الدولية فهو واهم.
0 تعليقات