تحرير العقل
الثقافة التي
نحتاجها
عز الدين البغدادى
ليس من مصلحة المستبد أن يتعلّم الناس، فهو يعلم أنّ هذا يشكّل خطرا عليه،
فالاستبداد دينيا كان أم سياسيّا يعيش على جهل الناس، فالجهل هو ما يجعل الناس
عاجزة عن فهم واقعها، ولا تقدر على حلّ للخلاص من مأزقها، وهذا ما يريده المستبدّ
تماما.
فإذا وعى الناس بحالهم، فإنّ هذا سيمثّل خطرا على سلطة المستبد، وكما قال
الكواكبي: ما أشبه المستبدَّ في نسبته إلى رعيته بالوصيّ الخائن القوي، يتصرّف في
أموال الأيتام وأنفسهم كما يهوى ما داموا ضعافاً قاصرين؛ فكما أنّه ليس من صالح
الوصيّ أن يبلغ الأيتام رشدهم، كذلك ليس من غرض المستبدّ أن تتنوّر الرعية بالعلم.
إنّ العلوم الاجتماعية والسياسية تظهر أهميّتها هنا، إنها تقوم -أو يفترض
ذلك- بتحليل وتفكيك الواقع، وتقدّم ما يمكن من حلّ، وتكشف الخلل والدجل الّذي يغلف
بالدين ليُخدع به الناس.
يمكن أن أبيّن لك أنّ الثقافة التي نحتاجها، ليست مجرّد جمع معلومات. وأيضا
ليست من نوع المدح والانبهار أو ذمّ الذات، بل نحتاج لمنهج نقد، لننقد أنفسنا. لا
بدّ أن نفعل ذلك بأنفسنا حتى تتألق، النقد ليس جلداً للذات، وليس توبيخا أو تبكيتا
لها. بل هو سبيل لكشف الخلل، وهذا ما يحتاج لشيء هام هو المنهج.
لا بدّ قبل التفكير من وجود منهج للتفكير حتى ننتج معرفة، علينا أن ننقد
مفاهيمنا أن نحفر فيها ونبحث في تاريخيّتها. أما أن نقدّس الموروث، هذه طقوسنا
وهذه هويتنا، وهذا خلاف ما أجمع عليه السلف، فلن ننتج إلا أذى وعذابا لن يتوقّف
عند حد، وستستمر انهياراتنا، ولن نقف إلى أن نكوّن وعياً قادرا على الفهم، وعلى أن
يُنتج معرفة تبني ولا تدمّر.
أيضا ينبغي أن نتفهّم بأنّ هذا الأمر يحتاج إلى تربية وعمل لأكثر من جيل
حتى تصل لجيلٍ يملك من الوعي ما يجعله قادرا على الفهم والتعامل.
كما لا يمكن أن ينجح مشروع التثقيف الّذي هو أهم خطوة لتفكيك الاستبداد ما
لم يكن هناك عمل على إحياء العقل، أي أن يكون هناك منهج للتدريس وللتفكير، يستبعد
التعصّب وأيضا يستبعد الخرافة، ويجعل المرء قادرا على أن يكون لديه منهج في
التفكير لا يقف عند يقينيّات كثيرة. منهج يحترك الشك، ولا يراه عيبا ولا خللا..
لا يمكن أن يرفع الاستبداد في مجتمعٍ يؤمن بالخرافة، أو يركّز أبناؤه على
قراءة كتب تفسير الأحلام أو الأحراز، أو يعالج فيه المريض بالبخور والشعوذة.
لقد ذكر الطهطاوي في زيارته لفرنسا طبائع أهل باريس، فقال: اعلم أن
الباريزيّين يختصّون من بين كثير من النصارى بذكاء العقل ودقّة الفهم وغوص ذهنهم
في العويصات، وليسوا مثل النصارى القبطة (أي الأقباط وهم نصارى مصر) في أنهم
يميلون بالطبيعة إلى الجهل والغفلة. وليسوا أسراء التقليد أصلا، بل يحبون دائما
معرفة أصل الشيء والاستدلال عليه، حتى إنّ عامتهم أيضا يعرفون القراءة والكتابة،
ويدخلون مع غيرهم في الأمور العميقة، كل إنسان على قدر حاله، فليست العوام في هذه
البلاد من قبيل الأنعام كعوام أكثر البلاد المتبربرة. والفرنساوية من الفِرق التي
تعتبر التحسين والتقبيح العقليين، وأقول هنا: إنهم ينكرون خوارق العادات ويعتقدون
أنّه لا يمكن تخلف الأمور الطبيعية أصلاً.
إنّ هذا الوصف هامّ جدا، ويمكن أن ينفعنا ليبيّن لنا أنّ ما نحتاج إليه قبل
كلّ شيء ليس غزوا يأتينا من الخارج ليسقط مستبدّا، وليأتي بمستبدٍّ مع فوضى، بل
نحتاج أن نبدأ من إحياء قيمة العقل، وتنشيط الذهن.
لكني هنا أحذر من خطر، هو أنّ هناك من يعتقد بأنّ العقل والثقافة تعني أن
ترفض كلّ ما يعتقده الجمهور، وأنّ الفهم في أن تسخر من ذلك، وأنّ الحكمة في أن
تحاول التشبّه بأمم الأرض الأخرى. وهذا كلّه ليس نافعا، بل ليس ممكنا. ذلك لأنّ أي
بناءٍ لا بّد أن يقوم على أساس، ولا يمكن لبناء الحريّة أن يبنى في مجتمع ما لم
يكن هناك أساس في نفس المجتمع يحمل البناء.
إنّ الحديث عن إعمال العقل يعني أن نتحدّث عن منهج بحث وعلم، كما ينبغي أن
تدرس الأسس الاجتماعية وينظر في إمكان نجاح هذا المشروع أو ذاك، عندها يمكن أن
ينجح العمل. كذلك نحتاج إلى أن نعيد للفكر مكانته، ونعيد إحياء ثقافة القراءة
والكتب، وأن نجعل للمثقف مكانته مرة أخرى في المجتمع.
( قراءة في كتاب )
0 تعليقات