لن يحاسب من قتل
شهداء التظاهرات أبداً
صائب خليل
لن يمسك أحد بقتلة شهداء الناصرية، ولن يحاسب أحد عليها، مثل غيرها من
الجرائم المشابهة. فالعراق وضع خاص، ومن خصائصه الخاصة ان القوات المسلحة لا تأخذ
أوامرها من القائد العام للقوات المسلحة!
وحين أقول "لن يحاسب" فإني لا أقصد ان عبد المهدي لن يحاسبه فقط،
بل اقصد "لن يحاسب أبداً"، حتى لو أسقطت الحكومة وجاء المتظاهرون بواحدة
من اختيارهم. وحتى المسؤولين قانونياً عن الجريمة، عبد المهدي وجميل الشمري، سوف
يفلتون من العقاب تماما... وهذا ما يقوله التاريخ القريب، منذ الحكم الأمريكي
بالوكالة للعراق! للأسف الشديد!
.
حكومة عبد المهدي، رغم أنها المسؤولة عن المجزرة أمام الشعب، إلا انها في
تقديري، لم تأمر بها ولا تعلم بمن خطط لها، ولو علمت لما استطاعت ان توقفها.
في كل العالم، يكون قتلة المتظاهرين غالباً، من جهات مجهولة، تعمل بالضد من
الحكومة، لأنه أمر معروف أن قتل المتظاهرين يزيد التظاهرات اشتعالا. ودليلنا على
ذلك ان معظم الحكومات صارت مؤخراً تمنع شرطتها المتصدية للتظاهرات، من حمل السلاح
الناري. وهذا ليس عن "إنسانية"، إنما تعلموا من التجارب أن تلك الجرائم
ليست في صالحهم. لذك فأن من يطلق النار عادة هم أجهزة سرية تعمل لحساب دول أخرى (أميركا
وإسرائيل حصراً) ويطلقون النار من أماكن خفية في أعالي البنايات ويهربون.
وإن كان من المحتمل في البلدان الأخرى ان تمسك السلطات بعضهم، إلا أنهم في
حالة العراق في مأمن تام، حيث يمتلك هؤلاء الجهاز الأمني تماما، حيث زرعه أسيادهم
بالعملاء. وهم ليسوا بحاجة للتخفي في البنايات، إلا اذا احبوا ذلك. من هنا نقول أن
قتلة الشهداء الشباب لن يحاسبوا ابداً، ولن تعرف "الحكومة" لهم أثرا،
ولا القضاء ولا الشعب، ولا حتى القائد العام للقوات المسلحة الذي ارتكبت الجريمة
باسمه ويتحمل كل مسؤوليتها.
.
في العراق القائد العام للقوات المسلحة ليس قائداً لها، بل هو شخص قبل
تمثيل دور القائد فقط، أما القائد الحقيقي للقوات المسلحة في العراق فيسكن في
السفارة. رئيس الحكومة، يجب ان يقر بهذا التنازل للسفارة قبل ان يستلم الحكم. وهذا
الوصف لا ينطبق فقط على زمن عبد المهدي الأشد طاعة للأمريكان من أي مسؤول مر على
العراق، بل على جميع الحكومات السابقة بدون استثناء.
.
لنبدأ بحثنا بالمالكي، وبالذات في أيام ساحات الاعتصام. كان عملاء أميركا
في الجانب السني، مكلفين بالضغط على المالكي الذي كان يحاول التملص أحيانا، لتنفيذ
خطوات الأجندة الأمريكية، وأهمها إعادة البعثيين السابقين إلى القيادات الأمنية
والعسكرية، مسترشدين بتجربتهم الناجحة في استخدام القيادات الأمنية النازية بعد
الحرب العالمية الثانية. المالكي، ذلك البراغماتي العاشق لكرسي الحكم، على علاته
الكثيرة، كان يدرك أن تلبية كل ما يطلبه الأمريكان، لن ينتهي على خير بالنسبة له. وكان
يدرك، أن الأمريكان لا يحبون ذلك ويسعون للإيقاع به، لذلك كان الرجل يتصرف بحذر
شديد.
.
لذلك، عندما أثير الاعتصام، وكان بتحشيد أمريكي واضح، واشتبك المعتصمون مع
القوات العراقية، لم اصدق الادعاء السني بأن القوات الحكومية بدأت بإطلاق النار
على المعتصمين. فمصلحة المالكي هي في تهدئة الأمر لأن ذلك يزيد فرصه في استمرار
ولايته، لذلك لا يمكن ان يأمر بضرب المعتصمين بلا مبرر، لأنه سيحمل المسؤولية
وتكون ضربة ضده هو.
لكني فوجئت في إحدى قنوات التلفزيون العربية بلقطة لجندي يتقدم ويطلق النار
على المعتصمين! وكان الجندي واقفا في العراء، مما يفند الادعاء الحكومي بأن
المعتصمين كانوا يطلقون النار، أو بدأوا الإطلاق.
دهشت لذلك، وتصورت أن المالكي سيلقي القبض على هذا الجندي ويعاقبه بشده،
ويقدمه للناس كشهادة براءة له. لكن لدهشتي، فأن المالكي لم يحرك ساكنا، ولم يعرف
أحد حتى اليوم من كان ذلك الجندي الذي كان يطلق النار على حكم المالكي! وهنا أدركت
أن المالكي محدود السلطات تماما، والجندي هذا مكلف بمهمة ومحمي، وكان في تلك
المهمة، اقوى من رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة!
.
كذلك يروي أحد المقربين من المالكي كيف انه عجز عن توجيه ضباطه في حادثة
تهريب مساجين سجن أبو غريب، وان احد ضباطه الميدانيين كذب عليه بشأن ذلك، وانه تمت
عرقلة اقالته ولم تأت النجدات الا بعد ان ضمن السجناء الهرب!
وفي جريمة الخيانة العظمى في احتلال الموصل وكركوك من قبل داعش والبيشمركة،
لم يتمكن المالكي، لسبب لا يعلمه الا الله والراسخون في خفايا العراق، من معاقبة
الضباط الذين تركوا أسلحتهم لداعش والبيشمركه، وهربوا وتسببوا في تسليم تلك المدن
وبالإحراج الشديد للمالكي.
.
واستمرت تلك الفضائح في زمن العبادي فتركت القوات العسكرية مدن الانبار
تسقط بيد داعش، وكان من ضمن القادة المتهمين بالخيانة اللواء فاضل برواري وغيره. ولم
يعاقب العبادي أيضاً أي ضابط.
.
وفي حادثة أخرى صغيرة لكن ذات دلالة، مثل حادثة جندي المالكي، في اول تموز 2017
تم قتل شاب من قبل جندي في معبر الصقور في خلاف مع السيطرة حول الرشوة التي يجب ان
يدفعها للعبور، حسبما روي. وكان هناك العديد من الشهود وتم تصوير القتيل في سيارته
وانتشرت الصورة في وسائل التواصل، وأثارت الحادثة في وقتها ضجة طائفية شديدة. لقد
كانت كل المعلومات متوفرة للوصول إلى القاتل. وكان العبادي قادراً على إظهار نفسه
كقائد للدولة وللقوات المسلحة، له رايه وموقفه، ويبادر بتوقيف القاتل وإعلانه على
الناس! لكنه، مرة اخرى، فضل أن يصمت ويضحي بسمعته.
.
حادثة أخرى صغيرة ودلائل كبيرة، حين اشتكى أحد الجنود لوزير الدفاع عرفان
الحيالي، بأن مستشفى عسكري قد قام بسرقة كليته منه حين كان يتعالج من إصابة. وأثارت
تلك الحادثة الكثير من الضجة حول الفساد في الجيش، وظهر الوزير مع الجندي ليطمئنه
انه سوف يأخذ له حقه. ومرت الأيام وتبين ان هذا الجندي مجرد محتال، فماذا حدث؟ لا
شيء!
من يعرف الجيش، يعلم ان الجندي "يروح جلده للدباغ" كما يقولون،
اذا هو خدع رئيس عرفاء وحدته، فكيف يفلت هذا الذي خدع وزير الدفاع على الملأ واثار
سمعة سيئة عن الجيش كله؟ من الذي حمى هذا الجندي؟ من الذي دفعه لهذه المسرحية؟ لا
نعرف، لكنه بالتأكيد اقوى من وزير الدفاع ومن القائد العام للقوات المسلحة، فلم
يجرؤ أي منهما على معاقبته.
.
وتستمر الحالة مع عبد المهدي طبعا. ضابط يتهم بالتخابر مع أميركا ويتم
ابراز التسجيل الصوتي له، ولا يعاقب! الساعدي اتهم مباشرة من قبل القائد العام
للقوات المسلحة بأنه تخابر مع جهة اجنبية، وكان القائد مكتفياً بنقله الى منصب
آخر، فأثيرت ضجة شعبية عارمة ضد القرار واضطر عبد المهدي الى سحبه، وظهر الرجل
كبطل قومي، وكان قد تم تسليط الكثير من الضوء عليه قبل ذلك بفترة طويلة من قبل
الإعلام.
.
ما يستنتج من هذا أن مؤسسات القوات المسلحة التي أسسها إرهابي السلفادور
الشهير، الأميركي "جيمس ستيل" ليس لها علاقة بالحكومة، ولا يتجرأ القائد
العام للقوات المسلحة أن يتحرش بها، مهما تسببت له من ضرر وإساءة لسمعته او تخريب
لبلاده.
.
إضافة الى ذلك، ترتدي بعض وحدات القوات الخاصة التي تطلق على المتظاهرين
اقنعة وملابس سوداء ولا احد يستطيع ان يحدد هويتها، وفي حالة العراق الغريبة، فأن
هذا يضيف تعقيداً شديداً للوضع. ففي البلدان التي تلجأ أحيانا لمثل هؤلاء في حالات
نادرة، فأن الحكومة تعرف هويتهم على الأقل، ويمكن تحميلها مسؤوليتهم وربما اجبارها
على كشف جرائمهم، اما في العراق فالحكومة والقيادة العامة للقوات المسلحة متخلية
عن مسؤوليتها.
كذلك تخدم هذه الأقنعة لإثارة
الفتنة التي يطلقها الإعلام حيث يمكن لكل جهة ان تتخيل لمن ينتمي هؤلاء "المجهولي
الهوية" وتعتبرهم دليلا على صدق روايتها. الأمر ذاته على القناصة "المجهولين".
ش
ويشبه هذا الأمر ما حدث إثر اتهام ممثل القوات الأمنية "طرف ثالث"
(مجهول) بشراء واستخدام الأسلحة الغريبة التي استخدمت في قتل المتظاهرين، وتحول
بسبب ذلك التصريح الى موضع سخرية وتندر. وهذا التندر كان عن استحقاق، فالحكومة
مسؤولة عن العمل على كشف ذلك "الطرف"، خاصة ان اطلاق النار والقذائف
الغريبة يأتي من جانب قواتها لـ "مكافحة الشغب" وليس من جهة مجهولة. وفي
اكثر من فيديو تبين ان هذه القوات تقوم بإطلاق قنابل مولوتوف باتجاه المتظاهرين او
نحو جهة أخرى.
.
عودة الى شهداء التظاهرات، أقول: من المعروف ان حوادث القتل و "صناعة
الشهداء" تنفذ في التظاهرات بشكل شبه ثابت في العقود الأخيرة، من خلال قناصة
خاصة يتم زرعها على البنايات لتقتل أفراداً من المتظاهرين وافراداً من القوات
الأمنية، ليتم تهييج الشارع ضد الحكومة من اجل اسقاطها. وقد شاع استعمال هذه
التقنية الى درجة ان الحكومات صارت تمنع قواتها المواجهة للتظاهرات من حمل اية
أسلحة نارية، رغم خطورة ذلك عليها، وتحرص على إظهار ذلك امام الناس.
.
أما في العراق اليوم، ومع كون قيادات كبرى في القوات المسلحة العراقية
نفسها، إضافة الى عدد من المجندين المدربين- تعمل بأمر السفارة مباشرة، يصبح الوضع
مهزلة والتآمر في غاية السهولة. حيث لا تحتاج الجهة التي تريد الفوضى إلى استقدام
قناصين واخفائهم، بل تقوم القوات "الحكومية" نفسها بالمهمة، فتطلق النار
على من تشاء من المتظاهرين وتثيرهم، عندما تريد زيادة التظاهرات وعنفها. هذا
بالطبع لن يرضي الحكومة لأنها المتهم الوحيد الذي يتحمل مسؤولية تلك الجرائم، ولا
يمكن لها ان تقوم به بإرادتها، لكنها حكومات تعرف حدودها وتلتزم بشروط تنصيبها،
حتى لو لف ذلك الحبل على رقبتها.
.
وهكذا، ومثلما لم يمسك جندي ساحات الاعتصام، ولم يعاقب الضباط الكبار
الخونة الذين سلموا الموصل وكركوك وغيرها مع أسلحتهم ولا الضابط الذي تخابر مع
الامريكان ولا الجندي الذي خدع وزير الدفاع ولا غيرهم، فأن احداً لن يعاقب أي قاتل
من قتلة شهداء التظاهرات ولن يعرف احداً أي منهم! وإن تم تقديم البعض على انهم
القتلة فسيكونون بدائل تم اختيارهم بدلا من القتلة الحقيقيين. وإن امكن معرفة
مسؤولين حقيقيين فسوف يفلتون من العقاب كما افعلت خونة الموصل والأنبار. فالسفارة
تمنح هؤلاء حصانة كاملة كما اثبتت احداث السنوات الماضية. وها نحن امامنا جميل
الشمري المتهم مباشرة بمجزرة الناصرية، والذي كان متهم قبلها بمجزرة في البصرة،
والمعروف بعلاقته الوطيدة بالقنصلية الامريكية في البصرة حينها. ويبدو أنه تم
استقدامه خصيصاً لتنفيذ المجزرة الجديدة، بعد اثبات "كفاءته" الاجرامية
في المجزرة الأولى. وكما نجا من العقاب في الأولى فسوف ينجو بلا شك من العقاب في
الثانية.
.
لكل هذا أقول إن حالنا مختلف لم يمر على شعب ابداً. وإن سارت الأمور كما
تسير حتى الآن منذ أعوام طويلة، بل منذ عقود، فإننا لن نجهل من قتل شهداء
التظاهرات فقط، بل ولن نعرف قتلة الشهداء القادمين أيضا! كل ما لنا ان نعرفه هو
ونفهمه هو هذه العلاقة الغريبة بين الحكومة والمندسين، فهما في هذه الحالة في خندق
واحد، مثلما المتظاهرون والوطن والشعب في خندق واحد، فلنكن قساة على الحكومة
العميلة للعدو، ورفقاً بالوطن.
0 تعليقات