آخر الأخبار

نحو رؤية جديد في الفقه (1)






نحو رؤية جديد في الفقه (1)


عز الدين محمد

قصد القربة... حكم شرعي أم خرافة فقهية؟


لقد ذكر الفقهاء لاسيّما من تأخر بأنّ قصد القربة يُحتاج إليه في العبادة، بمعنى أنّك لا بدَّ أن تقصد بالفعل قصدَ التقرّب إلى الله ليقبل منك. ولا شكّ أنّ هذا صحيح فيما يتعلّق بالعبادة المجعولة وهي العبادة بالمعنى الأخص كالصلاة والصوم. لكن الفقهاء وسعوا ذلك ورأوا أن أي فعل لا يُقبل ولا يؤجر عليه الإنسان إلا إذا نوى القربة لله، بمعنى أنك لو أكرمتَ ضيفاً أو أطعمتَ حيواناً دون أن تقصد القربة لله، بل حفظاً لمروءتك أو بسبب شفقتك لم يكن لك في ذلك فضلٌ ولا تستحقّ على ذلك أجراً!!

وهذا طرح عجيب، وهو تكلّف لا معنى له ولا دليلَ عليه. نعم يمكن القول أنّ الأجرَ من الله على ذلك لا يكون دون النيّة الصالحة، وهي أعم من نيّة القربة. فالّذي يتصدق قد لا يلحظ التقرب بل يفعل ذلك بسبب شعوره بالشفقة والرقّة، وهذا كافٍ لتحقّق الأجر والثواب. أي هنا تحقّقت النيّة الصالحة، وإن لم يتحقّق قصد القربة.


أما الّذي ينفق رياءً أو من أعتق عبدا ليتخلّص من نفقته، فليس له إلا ما نوى، وإن كنتُ أرى أنّ بينهما فرقاً؛ فالرياء يكون بسبب خبث السريرة وسوء القصد أما عتق العبد للتخلّص من نفقته فيمكن أن يؤجر عليهِ لأنّه نوى مباحاً غير منهيّ عنه وحقّق فائدة للعبد.


ووجه ذلك هو أنّ القصد المطلوب في العبادة يختلف من موضوع إلى آخر، ففي الصلاة لا يمكن أن يقصد إليها بغير امتثال أمر الله الداعي إليها، أما إعانة المحتاج ورحمة اليتيم؛ فإنّها تنطلق من دافع الرّقة التي لا يخلو منها إنسان، إلا أنّ الشرع أكّدها وحثّ عليها ليعطي لها دفعاً أكبر ولتخرجها من حدّ العطف المجرّد إلى جعلها تكليفاً على كل فردٍ في المجتمع. لاسيّما أن المجتمع كثيرا ما يُقصِّر عن القيام بالدور المطلوب في ذلك المجال.


أعتقد أنّ مثل هذا الطرح يحيي جانب الحبّ والشفقة في نفس الإنسان. كما إنّه يزيل الوسواس من النفس. بل إنّ اشتراط قصد القربة بمثل هذا الطرح يقسّي القلب، فلا يجد المكلّف حاجة للفعل إذا اقترن بالرقّة التي يجدها تجاه موقف ما. بل ربّما يجتهد العابد لإزالة أو تجاوز هذا الشعور حتى لا يُقلّل من قصد القُربة التي يريد أن يستحضرها في نفسِهِ.


وهذا الطرح ليس غير مقبولٍ فحسب، بل ويتناقض مع ما روي عن النبيّ (ص) من أنّ الفعل يُثاب عليه المرء وإن كان بسبب الشفقة.
وقد ورد في الخبر: بينما كلبٌ يَطيف بركية (أي بئر) كاد يقتله العطش، إذ رأته بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل فنزعت مُوقها (أي حذاءها) فسقته فغُفر لها به.

وفي خبر مشابه عن رجل سقى كلبا، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجراً؟! قال: في كل كبد رطبة أجر.


وسأل حكيمُ بن حزام النبيّ (ص): يا رسول الله، أرأيت أمورا كنت أتحنّثُ بها في الجاهلية من صدقةٍ أو عتقٍ أو صلة رحم، أفيها أجر؟ قال: أسلمت على ما أسلفت من خير.

وأين كان حكيم من قصد القربة وهو يسجد لصنم؟!

بل يتحقّق الأجر -كما قلت لك- بمجرّد أن يكون فعلُه سبباً لتحصيل نفع لغيره، حتى لو لم يقصد الفاعل ذلك، كما قال رسول الله (ص): ما من مُسلمٍ يغرس غرساً أو يزرع زرعا، فيأكلُ منه طيرٌ أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة.

لذا لا يبعد أن يؤجر من فعل فعلا أدى إلى خيرٍ وإن لم بقصد النتيجة، نعم لا يؤجر من كان سيّء النيّة، كمن أعطى شيئا لينقص ماله عن نصاب الزكاة، أو من أحسن ليتيمٍ ما لأنّه علم أنّ من فعل ذلك سيدفع له شيء مثلاً.

وأما ما فهمه القوم، فهو غير صحيح مع ما يؤدّي إليه من تجفيف عاطفة الإنسان، وعدم إمكان تحقيقه أحيانا، لأنّ النيّة لا يمكن تحصيلها ما لم تكن حاضرة في النفس، فإذا تألّمت لفقير وأردت أن أعينه، هل أحرم من الأجر لعدم تحقٌق قصد القربة؟ أم يجب على من أزاح غصن شجرة من الأرض أن ينوي ذلك الفعل لله وأن يستبعد أيّ فكرة يمكن أن ترد على ذهنه فيما لو فكّر أنّ من الممكن أن يتعثّر بها أحدٌ أو تصيبه بضرر؟

هذا فهم ضعيف، وأما ما جاء من التأكيد على الإخلاص أو قصد القربة كقوله تعالى: ( انما نطعمكم لوجه الله) فإن معناه أن لا يفعل ذلك لكسب رضا الناس او محبتهم، بل يكون عمله خالصا من ذلك، وليس المقصود عدم اعتبار الشفقة كدافعٍ للفعل أو لتحصل الأجر، وقد قرأت ما قرأت من الروايات مما يثبت أنّ العمل مقبول ومثاب عليه إن كان بسبب الشفقة.


إرسال تعليق

0 تعليقات