آخر الأخبار

محمود أمين العالم







محمود أمين العالم


اليوم الذكرى الـ ١١ لوفاة المفكر الأعمق في تاريخ مصر علي مدار الـ ١٠٠ سنة السابقة، الفيلسوف المناضل محمود أمين العالم.
و تتذكره بأحد أهم مقالاته:

الماركسية و سرير بروكرست

لنعترف أن معرفتنا الحقيقية بالماركسية هي معرفة محدودة مسطحة هشة، ولا شك انها امتداد لمعرفتنا النظرية العامة التي تتسم بالمحدودية والتسطيح والهشاشة. فما اشد ضعف وتخلف الفكر النظري عامة في ثقافتنا العامة*

نلتقي لنتناقش حول أزمة الماركسية فكرا وتطبيقا، ونحن جميعا، وبغير استثناء وبدرجات متفاوتة نسبيا، لا نملك المعرفة الحقيقية العميقة بالماركسية. ليس الأمر مجرد عيب ذاتي فينا، في مثقفينا. فقد يكون بينهم من عرف الماركسية معرفة نظرية طيبة، واستوعب مراجعها الأساسية، إنما هو عيب موضوعي كذلك.

فماركس لم يترجم ترجمة كاملة شاملة في لغتنا العربية، أي انه حتى اليوم لم يدخل في ثقافتنا العامة فضلا عن انه لم يجد طريقه بشكل موضوعي في إعلامنا، وتعليمنا ومدارسنا وجامعاتنا وحتى مجلاتنا وكتاباتنا العلمية الا في صورة عكسية أو ضدية في اغلب الأحيان . لقد حوربت كتبه وصودر في اغلب الأوقات المترجم منها طوال السنوات السبعين الماضين. ولهذا لم يتم حوار فكري حقيقي علني مجتمعي حول الماركسية مما كان من الممكن ان يغني ثقافتنا وينمي معرفتنا الموضوعية والنقدية بها، ولعل اغلبنا قد اكتفى او لم يجد أمامه إلا بعض ما ترجم من كتب ماركسية اغلبها ترجمة ركيكة، او تبسيطات وملخصات مرت على المصفاة السوفييتية الإيديولوجية.

ولهذا، فلنعترف ان معرفتنا الحقيقية بالماركسية معرفة محدودة مسطحة هشة، ولا شك ان هذه المعرفة المحدودة المسطحة الهشة بالماركسية هي امتداد لمعرفتنا النظرية العامة التي تتسم بالمحدودية والتسطيح والهشاشة. فما اشد ضعف وتخلف الفكر النظري عامة في ثقافتنا العامة.
لست أتحدث عن المعرفة النظرية في حدودها الفردية، وإنما في افقها المجتمعي عامة، أفق الثقافة السائدة، إن الفكر النظري لم يتح له التطور والتعمق في مجتمعنا وثقافتنا سواء في ظل الاحتلال البريطاني منذ 1882 حتى 1952. أو منذ 1952 حتى الآن، لقد غلب الفكر العملي البرغماتي، أو الفكر النظري الانتقائي أو التوفيقي.

والغريب ان يكون هذا هو مصير الفكر النظري الماركسي في مصر رغم نشأة الحركة المصرية منذ بدايات القرن العشرين وهي قضية جديرة بالدراسة في بعديها الذاتي والموضوعي.

واليوم نحن نلتقي لنتساءل عن حقيقة الماركسية وعن مصيرها وعن أزمتها، وعن دلالتها في مجتمعنا وفي عصرنا.

وتساؤلاتنا وإجاباتنا ستكون بالضرورة محدودة بحدود معرفتنا بالفكر الماركسي كما ذكرت من قبل.

ولهذا قد يكون من المفيد أن نحدد أولا بعض المعالم الأساسية للماركسية حتى يستند حوارنا ونقاشنا على أسس واضحة، مهما كانت هذه الأسس محدودة ومجزأة.
ولهذا قد احرص على أن أقول منذ البداية وقبل دخولنا في الموضوع، إننا أحوج ما نكون الى توافر ترجمة عربية صحيحة كاملة لمؤلفات ماركس، فضلا عن العناية بدراستها دراسة معمقة في ضوء خبراتنا الخاصة فضلا عن مختلف الخبرات العلمية العالمية حولها التي توافرات طوال السنوات الماضية.

الماركسية ليست كل ما قاله ماركس، فلقد عالج ماركس قضايا متعددة وبمستويات مختلفة وعبر مراحل زمنية ومتنوعة.

ولم تتشكل ما نسميه بالماركسية دفعة واحدة، بل تمت وتحددت عبر خبرة طويلة من المعرفة الفلسفية والعلمية والممارسات النضالية والعملية. وقد نتبين في بعض مفاهيمها اختلافات في التركيز على بعض الجوانب او في بعض الدلالات.

ولهذا فقد تكون النظرة التاريخية والموضوعية لماركسية ماركس، هي متابعة تطوره الفكر لا من حيث ما جاء في كتاباته ومواقفه فحسب، بل من حيث علاقة هذه الكتابات والمواقف بالسياق الاجتماعي والتاريخي والثقافي الذي نشأ وعاش فيه وتأثر به.

فبهذا تكون دراستنا ماركسية حقا للماركسية، فماركسية ماركس هي ثمرة أوضاع تاريخية واجتماعية وفكرية محددة إلا أن ما يسبغ عليها صفة النظرية، أي اعتبارها ماركسية لا مجرد كتابات ماركس، بل هو ارتفاعها من مستوى القراءة الوصفية للواقع الآني في عصره، الى التحديد العلمي والفلسفي والتوجيه العملي المستخلص من هذا الواقع والذي يصلح ان يكون رؤية شاملة، وفاعلية مؤثرة في حركة الواقع في عصره، وفي تغييره تغييرا جذريا ذا طابع إنساني مستقبلي شامل.

هذا معنى إنها نظرية أي أنها نسق متجانس مترابط موحد من الأفكار التي تسعى لتفسير المشاكل الأساسية التي تواجهها الإنسانية وتتضمن منهجا لحلها أو لحل جانب منها.

وفي تقديري ان الذي يميز هذه النظرية عن غيرها من الأنساق النظرية والفلسفية السابقة أمور ثلاثة:

الأول: أنها تستمد عناصرها ومعطياتها وبالتالي قوانينها من الدراسة العلمية العينية الملموسة للواقع الاقتصادي والاجتماعي الفكري والصراعي فضلا عن حركة التاريخ عامة فهي ليست مستخلصة من أفكار ونظريات أو عقائد أو مرجعيات أو خبرات سابقة، وان تكن تتمثلها وتستلهمها بغير شك، وإنما تستمد أفكارها من الوقائع كما ذكرنا فضلا عن الخبرة العملية والممارسة النضالية.

الأمر الثاني: هو أنها ليست مجرد نظرية معرفية علمية تستمد صدقها من الدراسة العلمية الموضوعية وإنما تتضمن كذلك موقفا موضوعيا كنظرية، لتغيير الواقع تغييرا جذريا لإقامة واقع مغاير يتخلص فيه الإنسان من الفقر والقهر والاستغلال وتتفجر فيه إنسانيته الإبداعية وتتوافر له الحرية الحقيقية.

الأمر الثالث: انه ليس بين الأمر الأول والأمر الثاني فواصل أو مسافات، بل هما متداخلان متفاعلان فالمعرفة لا تهتم بالفكر المجرد التأملي وإنما بالبحث العلمي من ناحية، والفاعلية والممارسة العملية الإنسانية من ناحية أخرى، ان الممارسة العملية تتم وفق هذه المعرفة، وان تكن الممارسة مصدرا أساسيا في الوقت نفسه لهذه المعرفة. ولعلنا نجد هذه العلاقة بين المعرفة والممارسة منذ وقت مبكر في أطروحات ماركس عن فيورباخ التي كتبها عام 1845.

وتأسيسا على هذا فالماركسية تقف من حيث جوهرها ضد أمرين:
ضد التجريد المطلق من ناحية وضد التجريب البرغماتي الجزئي من ناحية أخرى، وبالتالي ضد أي فكر عقائدي دوغماطيقي غير نقدي وغير علمي وضد أي ممارسة تقوم على هذا الفكر..

ولو تتبعنا تطور فكر ماركس لوجدناه ينتقل من الايدولوجيا الهيغلية إلى الاقتصاد السياسي عبر المشاركة النضالية السياسية.

ولهذا، في تقديري المتواضع، ومع احترامي لقول لينين بالمصادر الثلاثة لفكر ماركس هي الفلسفة الألمانية عامة والهيغلية خاصة، والاشتراكية الفرنسية الطوباوية والاقتصاد السياسي الانجليزي، وإنها اكتمال لهذه المصادر، فإنني أرى أن الماركسية ليست مواصلة واكتمالا لهذه المصادر على حد تعبير لينين، بل هي نقد لها وقطيعة معها وخروج عليها. وبهذا المعنى، وليس بمعنى الاكتمال، تكون هذه التيارات الفلسفية والسياسية والاقتصادية في مصادر الفلسفة الماركسية. الا أن هناك مصادر موضوعية أخرى قد تكون هي الركائز المرجعية للماركسية، هي في تقديري التطورات العلمية في مجال الفيزياء وفي مجال علمي التاريخ والاجتماع، فضلا عن التغيرات القومية والاجتماعية والاقتصادية وما صاحبها من صراعات منذ بداية عصر النهضة واندلاع الثورة الفرنسية وبخاصة الصراعات الطبقية وبروز الطبقة العاملة في مواجهة السلطات البرجوازية الجديدة.

أما من الناحية الفلسفية فلا شك في تأثر ماركس تأثيرا نقديا بهذه المصادر الثلاثة وبخاصة فلسفة هيغل وتجاوزه لها، الى جانب ثقافته الإنسانية الواسعة لمختلف المجالات والتيارات الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية. بل لعل بعض الدراسات الجديدة للماركسية تتكشف تأثرا كبيرا لماركس بفلسفة أرسطو وخاصة فيما يتعلق بمفهوم الوجود بالقوة والوجود بالفعل الذي يكاد ماركس يفسر بها المراحل الانتقالية في التحولات الاجتماعية، إلى جانب تأثير فلسفة ابيقور في تطوير مفهوم الحرية.

أردت ان أؤكد تعدد مصادر الفلسفة الماركسية في جوانبها الثلاثة الفلسفية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

ولست اقصد بهذا رصدا تقريريا لمصادر الماركسية، بقدر ما احرص على تأكيد مصادرها المتعددة، وبيان أين تقف الماركسية من التراث البشري عامة، ليكون هذا درسا لنا عندما نتحدث عن الماركسية في العصر الراهن. ان انتقال ماركس من المثالية الألمانية الى الاقتصاد السياسي هو دلالة رمزية موضوعية في آن واحد على انتقال من للمجرد للعيني الملموس، أو بتعبير آخر من المثالية الى المادية.

على ان مفهوم المادية عند ماركس مفهوم خاص مختلف تماما عن مفهوم المادية عند الفلاسفة السابقين عليه، وبخاصة الفلاسفة التجريبيين الحسيين في الفلسفة الانجليزية (مثل هوبز ولوك وهيوم) أو فلسفة الأنوار الفرنسية عند هيرلباخ وغيرها.

فمادية ماركس ليست تعبر عن قوانين مسبقة تقول بان المادة هي الجوهر النهائي لكل شيء، وليست ذات رؤية جزئية حسية خالصة، وإنما تعني معرفة الأشياء والوقائع كما هي في تحققها الفعلي لا في تصوراتها الوهمية ولا في جزئياتها المنعزلة.

وإنما في علاقاتها وتشابكاتها التي تتخذ أشكالا مختلفة وفي تفاعلاتها وحركاتها وتغيراتها وبهذا المعنى كذلك فهي جدلية، وليس في فكر ماركس، هذا الفصل – كما يكتب كثيرا بين المادية والجدلية.

بل ان المادية عنده غير مفصولة عن الجدلية، والجدلية هي جوهر المادية وحقيقتها. فلا مادية بالمعنى العملي الحقيقي في المصادر النظرية الماركسية ان لم تكن جدلية حقا، هناك فكر مادي غير جدلي نجده في الفلسفة الطبيعية القديمة أو بعض جوانب الفلسفة الوضعية، وهناك جدلية غير مادية نجدها في الفلسفة المثالية، ولكن المصادر النظرية الماركسية تقول بالطابع الجدلي للوقائع المادية. ولعلنا نجد في كتابات ماركس ما يجعل الجدلية هي أساس المادية وجوهرها، ولهذا قد نجد في كتاباته تعبير الجدلية المادية لا المادية الجدلية.

المهم في هذا كله هو أن المادية الجدلية والجدلية المادية التاريخية وهما ثيمتان نظريتان أساسيتان في الفلسفة الماركسية، لا يمثلان مقدمات مجردة نفرضها على الوقائع فرضا. أو نستخلص منها القوانين المتحكمة في هذه الوقائع، وإنما نتبينها ونستخلصها بالبحث والدراسة في الطبيعة والتاريخ.

وفي ضوء هذا نحاول ان نحدد العلاقة بين النظرية والمنهج في الماركسية. الماركسية في تقديري نظرية كما هي منهج في الوقت نفسه. وتكاد كل فلسفة وكل نظرية ان يكون لها منهجها المستمد منها. الفلسفة الوضعية مثلا تقول انه لا يوجد في الواقع غير الوقائع الحسية الجزئية، ولهذا ترفض القول بموضوعية الأحكام العامة.

ولهذا فان منهجها هو تفكيك التعابير والأحكام العامة تفكيكا الى وحدات لغوية جزئية لاختبار مدى مطابقتها او عدم مطابقتها مع معطيات الواقع الجزئية الحسية.

ولهذا نرى ان الماركسية بمصادرها المادية الجدلية بالنسبة للطبيعة والتاريخ، ترفض التجريدات المطلقة، كما ترفض القول بالجزئيات المنعزلة، وتقول بالوقائع المادية في علاقتها المتشابكة المتفاعلة المتحركة المتغيرة المتصارعة. ولهذا فمنهجها يتسلح بهذه الرؤية نفسها. أو بهذه المصادرة النظرية نفسها، ويسعى لكشف هذه العلاقات وتحديد قوانين حركتها، التي قد تختلف باختلاف الوقائع والملابسات الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية.

ولهذا، اسمحوا لي أن أقف لأتحفظ قليلا إزاء تعريف لينين للجدلية بأنها علم القوانين العامة للحركة في العالم الخارجي والفكر الإنساني، ان مثل هذا التعميم قد يوحي بأن الحركة في العام الخارجي المادي والاجتماعي والفكر الإنساني قوانين عامة. وهذا قول يقيني قاطع يكاد يعيد – وان يكن بشكل مختلف – في الواقع الطبيعي والإنساني. حقا، ان لينين في العديد من دراساته يختلف مع تعبيره التعميمي السابق هذا، فهو يلجأ دائما الى التحليل العيني للظواهر كشفا عن قوانينها الخاصة، بل لعلنا نذكر تعريفه للماركسية بأنها التحليل العيني الملموس للظواهر العينية الملموسة.
ان مفهوم المادية الجدلية عند ماركس رغم انه يستند الى مصادر نظرية مادية جدلية فانه منهج لاكتشاف القوانين النوعية المختلفة باختلاف الأوضاع والملابسات والظروف، ولا يقول بشكل قبلي انه سابق على التجربة بالقوانين العامة في العالم الخارجي المادي والاجتماعي والفكر الإنساني، ولعل هذه الرؤية الاطلاقية القبلية للجدل هي التي كانت – بعد ذلك – وراء ما يسمى بالـ Dia Mat في الاتحاد السوفييتي الذي صيغ باعتباره الفلسفة الرسمية للحزب والدولة والذي تم تقنينه عام 1934. وسوف نشير الى ذلك فيما بعد.
(2)

ليس معنى هذا انتقاء القوانين العامة، ولكن القوانين العامة هي ثمرة الدراسة العينية للوقائع العينية، التي يمكن ان نرتفع بها بالبحث والدراسة الى التعميم الى قوانين عامة التي بدورها قد تختلف في دلالتها باختلاف الملابسات والأوضاع الاجتماعية والتاريخية، أي بتعبير آخر إنها لا تُفرض مسبقا ولا تكون لها صفة الاطلاقية والأبدية، وانما تكون موضوع دراسة وبحث باختلاف الملابسات والأوضاع.

والواقع ان هذا الفهم الاطلاقي للمادية الجدلية يكمن وراء فهم إطلاقي لمفهوم آخر هو مفهوم الضرورة والحتمية عند ماركس.
يقول ماركس في النص المعروف في مقدمة كتابه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" ان الناس في إنتاجهم الاجتماعي لوجودهم يدخلون في علاقات محددة ضرورية مستقلة عن إرادتهم، علاقات إنتاج تتفق مع درجة التطور المحدد لقواهم المادية الإنتاجية. ان مجموع علاقات الإنتاج هذه تكون البنية الاقتصادية للمجتمع والأساس المادي الملموس الذي يقوم عليه الأساس الفوقي القانوني والسياسي والذي ترتبط به أشكال الوعي الاجتماعي المحددة، ان نمط الإنتاج المادي هو الذي يحدد ويشرط سيرورة الحياة الاجتماعية والعقلية عامة. ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم وإنما العكس، ان وجودهم هو الذي يحدد وعيهم".

ان بعض القراءات الجامدة الاطلاقية الشكلية لهذا النص تسارع الى القول بان الوجود الإنساني محكوم ومشروط بشكل حتمي بالواقع المادي. وهذا الواقع المادي هو الذي يحدد المسار التاريخي الإنساني كله.

على ان القراءة الموضوعية لهذا النص، تكشف منذ بدايته ان إنتاج الناس لوجودهم الاجتماعي هو الذي يفضي الى تحقيق علاقات مستقلة عن إرادتهم الفردية. وهذا لا ينفي أولا مشاركتهم في شكل هذه العلاقات وإنما يكون بشكل غير إرادي، أي بشكل موضوعي.

وهنا تلتقي الممارسة الذاتية بالتشكل الموضوعي، الذي سوف يعود بدوره الى التأثير في الوعي الذاتي، والممارسة الذاتية، بما يفضي بدوره الى أشكال أخرى متطورة من العلاقات.

أي هناك تفاعل بين الذاتي والموضوعي، هناك ضرورة موضوعية تتحقق بالممارسة الاجتماعية، على ان هذه الضرورة الموضوعية يمكن ان تتغير بالوعي الذاتي بها. ولهذا يقول ماركس بوضوح ساطع "ان الناس هم الذين يصنعون التاريخ" ولقد فسر ذلك قائلا "حتى الآن فعلوا ذلك بغير وعي خاضعين لقوى اقتصادية واجتماعية لا يفهمونها ولكنهم قادرون الآن على الوعي"، بها هذه – في تقديري – القيمة الثورية التاريخية الأساسية للماركسية.

ان مقولة الضرورة والحتمية عند ماركس ليست أحادية الجانب، وليست لاهوتية، أو ميكانيكية أو اقتصادية. ان المثل الذي يضربه ماركس للتعبير عن تغير نمط الإنتاج بين مرحلة وأخرى، بالطاحونة اليدوية، وبطاحونة الهواء، لا تدل على ان العامل الميكانيكي أو الاقتصادي هو العامل الوحيد المحرك للتاريخ. ولم يقل ماركس – كما أوضح انجلز – في دراسة خاصة، ان الاقتصاد هو العامل المحدد الوحيد للسيرورة التاريخية.

ان مقولة الضرورة والحتمية تتضمن القول بالعوامل المتعددة المتفاعلة والتي يلعب الوعي الإنساني والممارسة الإنسانية دورا أساسيا بينها، وان كان للعملية الإنتاجية – لا الاقتصاد بالمعنى الميكانيكي الآلي – الدور الحاسم في نهاية المطاف، وهذا ما يجعل مفهوم الضرورة والحتمية في الفكر الماركسي تكاد تكون، ان لم تكن، هي بالفعل مرادفة لمفهوم الإمكانية. فالعالم في الماركسية لا يحكمه قانون من التطور الكلي الذي يتوجه نحو غاية معينة، فليس هناك شيء كامن في الطبيعة والتاريخ، أي نوع من العقلانية المحايدة التي تحكم الموجودات والأحداث الفردية وتوجهها توجيها أحادي الاتجاه. ان ماركس يرفض بشكل قطعي هذه الرؤية القدرية للتاريخ. يرفض القول بتاريخ يتبع غاية خاصة مستقلة عن غايات يريدها الناس، فهذه الغاية لن تتحقق الا بمشاركة واعية وإرادية للناس الذين يستطيعون في الوقت نفسه تحقيق غاياتهم الفردية في ضوء إدراكهم للظروف الموضوعية القائمة. ان سيرورة التاريخ عند ماركس يتحرر فيها الناس بأنفسهم من الضغوط والقيود الطبيعية والاجتماعية، انه تحقيق للذات وتفتح متطور لا نهاية له، وليس مغلقا على غاية محددة.

حقا، ان كل شيء يتحقق وفق قوانين محددة، وفق علل محددة، وهذا ما يمكن تسميته بالحتمية العلمية، التي تستبعد كل ضرورة مفارقة من خارج التجربة الإنسانية، وكل علية غائية نهائية. ان ما يميز هذه الحتمية هي إنها لا تستدعي الا الأسباب والعلل الفاعلة والشروط المحددة في التجربة، والعلل والشروط المحددة لها، وهي علل وشروط إنسانية واجتماعية وتاريخية وموضوعية أساسا.

وليست القوانين العامة الا تعميمات لهذه القوانين المحددة المؤسسة على هذه العلل والشروط. ولهذا فهي تختلف وتتنوع باختلاف الأوضاع والملابسات. وهذا ما ينفي عنها جمودها ونمطيتها المطلقة، ويعطي لها دلالات خاصة. على ان هذه القوانين العامة نتكشفها خلال دراسة تجلياتها العينية المختلفة. ولعل من ابرز هذه القوانين العامة المعبرة عن العلل والأسباب الفاعلة، هو الصراع الطبقي، والعلاقة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، الدور المحرر للطبقة العاملة والمنتجة عامة.

ان الوعي بهذه القوانين وهذه العوامل والعلل الموضوعية في التاريخ وتأسيس الفاعلية الإنسانية عليها هو الذي ينتج تحقيق الحرية الحقيقية.

لهذا لا سبيل الى القول بحتمية قدرية في الماركسية.

والواقع ان الذين يصفون نظرية ماركس بهذه الحتمية هم من خصوم الماركسية ومن اشياعها كذلك. فالخصوم يتخذون من هذا الفهم ذريعة لاتهام الماركسية بالمادية الجامدة الميكانيكية غير الإنسانية.

أما الاشياع فيتخذون هذا الفهم لتبرير ممارساتهم الإرادية السياسية التي يفرضونها فرضا على المجتمع والناس والواقع، في تعارض مع ضرورات الواقع وإرادات الناس.

ان جوهر نظرية ماركس هو أبعادها العلمية والفلسفية والسياسية العملية التي تتضافر لتحقيق ثورة جذرية في التاريخ بفضل ظهور الطبقة الاجتماعية المؤهلة لتحقيقها وهي الطبقة العاملة. وهي ثورة ضرورية وممكنة في وقت واحد، بل لعل إمكانها مرتبط بأساسها الضروري، وهي ثورة تسعى لإلغاء استغلال الإنسان للإنسان والقضاء على كل قهر سياسي، وذلك بالغاء الملكية الفردية لوسائل الانتاج والانتقال بالتاريخ من ملكوت الضرورة الى ملكوت الحرية.
ولا يتم هذا بشكل ميكانيكي قدري، وانما بالممارسة النضالية الثورية التي تعي وتسيطر على الشروط الموضوعية للواقع الموضوعي.

ومع الثورة السوفييتية عام 1917 انتقلت هذه النظرية الماركسية من افقها النظري الى الممارسة الواقعية التأسيسية. وتحولت من ممارسة ثورية لانتصار ثورة الى سلطة ثورية منتصرة في سياق اوضاع سياسية واجتماعية اقتصادية وعسكرية وعالمية مختلفة، واصبحت الماركسية هي مصدر المشروعية لهذه الثورة ومرجعيتها الفكرية والعملية الاساسية.

ما اريد ان ادخل في تفاصيل هذه الاوضاع التي قامت السلطة الجديدة في سياقها. على ان هذه السلطة الجديدة كان من الطبيعي ان تسعى الى تكييف النظرية بحسب هذه الاوضاع تحقيقا لاهدافها العامة.

فماركس لم يقدم برنامجا عمليا للتحول الاشتراكي وانما قدم خطوطا عامة. ولقد استطاع لينين بان يقود عملية الثورة وان يحققها باقتدار عبقري في مواجهة الضرورات العملية والفكرية والتنظيمية التي فرضتها الاوضاع الخاصة والدولية، وكانت هناك ابداعات فكرية وعملية عديدة مثل نظرية قيام الاشتراكية في بلد واحد، ومثل نظرية اضعف الحلقات، ومثل الربط بين السلطة والكهرباء، أي التصنيع، ومثل الثورة الثقافية، ومثل نظرية حق تقرير المصير ومثل الدعوة للسلام العالمي، ومواجهة الحرب الاهلية والتدخل الامبريالي، ولكن لعل من ابرز الابداعات العملية في تقديري هو مشروع الـ Nep الذي سعى به لينين ان يردم الهوة بين الطبيعة الثورية للسلطة الجديدة وبين الواقع الاجتماعي البالغ التخلف، ربما اقترابا من رؤية ماركس الخاصة بقيام الاشتراكية في البلاد الرأسمالية المتقدمة، باعتبار ان الاشتراكية هي تتويج لاكتمال المرحلة الرأسمالية.

وبرغم الطابع المحلي لهذه المنجزات تدعيما للثورة، فان الثورة السوفييتية كانت ثورة ذات دلالة تاريخية انسانية شاملة، غيرت موازين القوى في العالم، لمصلحة الطبقات العاملة في العالم ولحركات التحرر الوطني في البلاد النامية.

ولكن مع تقديرنا للدور العبقري المبدع لقيادة لينين لهذه الثورة منذ مراحلها الاولى حتى قيام سلطتها، سواء في كتاباته النظرية او سياساته وممارساته العملية، فما اجدرنا ان نتساءل عن مدى الاضافة النظرية التي اضافها لينين الى الماركسية، بحيث يصح القول بالماركسية – اللينينية. لعلنا نذكر مقولة ماركس الشهيرة "لست ماركسيا" في مواجهة محاولات تحويل افكاره الى اكليشيهات جامدة، ونظرية نهائية. وما اذكر ان لينين جعل في حياته من منجزاته النظرية والعلمية رغم اهميتها اضافة نظرية كاملة الى الماركسية. وأتساءل:

هل حاول ستالين وهو الذي صاغ مفهوم اللينينية كاضافة نظرية الى الماركسية، ان يعطي لهذا المفهوم مشروعية وطنية للسلطة السوفييتية، وبالتالي لسلطته هو نفسه، فضلا عن اعطاء هذه السلطة السوفييتية مشروعية اممية؟!

اننا نستطيع ان نحدد المعالم النظرية التي صاغها ستالين لتأكيد هذه الاضافة النظرية للينينية الى الماركسية في الامور التالية: مسألة انتصار الثورة في بلد واحد، مسألة اضعف الحلقات، والنمو غير المتكافئ، وبناء الاقتصاد الاشتراكي، ودكتاتورية البروليتاريا، وحزب الطبقة العاملة، والمسألة الوطنية، ومسألة المستعمرات، ودراسته للامبريالية كأعلى مراحل الرأسمالية، الى غير ذلك، وهي بغير شك اضافات غنية فكرية وعملية الى رصيد النضال الثوري، وهي بغير شك عناصر نظرية واجرائية تعبر عن نظرية التجربة السوفييتية الثورية، وخاصة في بدايتها. وعندما اضافها ستالين الى الماركسية كمرجعية للثورة الاشتراكية عامة كاد يجعلها في الحقيقة المرجعية الاساسية لهذه الثورة، بل كاد يخفت الى جانبها الصوت الحقيقي للماركسية، لقد تحولت الماركسية في ثوبها اللينيني بمفهوم ستالين الى مذهب رسمي للحزب الشيوعي السوفييتي وللسلطة السوفييتية.

وهكذا تحولت (الماركسية) الى مؤسسة حاكمة هي المرجعية الاساسية والوحيدة في الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية في الاتحاد السوفييتي، وتحولت المادية الجدلية، كما سبق ان اشرنا الى Dia Mat/E+ أي الى قواعد قانونية سلوكية فكرية للدولة والحزب، ابتداء من 1934 باعتبارها الفلسفة العامة التي تعبر عن القوانين الشاملة للمادية الجدلية ولسيرورة الطبيعة والتاريخ والفكر والحكم والمعيار الوحيد على صحة وصدق كل فكر فلسفي او علمي او اقتصادي او عملي عامة.

واصبحت مهمة العلماء استخلاص قواعد هذه الفلسفة القبْلية من الطبيعة والتاريخ باعتبارها المبادئ النهائية لحركة الواقع، ولمنهج المعرفة، واصبحت الـ Dia Mat بمثابة بوليس سياسي للحقيقة، بل تحولت المادية التاريخية الى رؤية تطورية اقتصادية نهائية للحركة التاريخية الاجتماعية ذات الاتجاه الواحد.

واصبحت هذه الـ Dia Mat وسيلة لتمرير وتبرير كل سياسات السلطة البيروقراطية التي اصبحت دكتاتورية على الحزب وعلى الطبقة العاملة نفسها. والاخطر من هذا ان اصبحت هذه السلطة السوفييتية بسلاحها النظري هذا هي المرجعية الوحيدة للحركة الشيوعية في العالم اجمع. وهكذا جُمدت الماركسية وانتهت كعلم وكممارسة وكفلسفة، واصبحت ادبياتها تلقينية تبسيطية مطلقة الصحة واليقين، بل تفرض نفسها فرضا اجباريا.

ولهذا نرى ستالين يقول في كتابه حول مسائل اللينينية: "اليست اللينينية تعميما لتجربة الحركة الثورية في كل مكان. اليست اسس نظرية وتكتيك اللينينية صالحة واجبارية لجميع الاحزاب البروليتارية في كل البلاد"؟

(3)
وهكذا باسم اللينينية فرضت الدولة السوفييتية سلطاتها على الحركة الشيوعية العالمية. واصبحت الماركسية ترقد جثة هامدة فوق سرير بروكوست او سرير الدولة السوفييتية البيروقراطية او تزيد بحسب طول هذا السرير – سياسيا ومصلحيا – أي بحسب المصلحة السياسية البرغماتية الخاص لهذه السلطة.

ولا يمكن تفسير هذا بالعامل الذاتي وحده او الفهم المتخلف الخاص بالماركسية مع اهمية هذا العامل، وانما هناك بعض اسباب موضوعية تتعلق بالطابع المتخلف للمجتمع السوفييتي، وبروز النازية التي كادت تشكل تحديا مباشرا للتجربة السوفييتية والرغبة في اللحاق بالنظام الرأسمالي، الى غير ذلك.

ولست انكر مع ذلك ما حققه الاتحاد السوفييتي من انجاز عظيم في هزيمة النازية، وفي دعم حركات التحرر الوطني ومختلف حركات الطبقة العاملة في العالم. ولكنها حققت هذا في تقديري كدولة عظمى لا كدولة اشتراكية ماركسية.

وليس ما تشهده هذه السنوات الاخيرة من انهيار النموذج السوفييتي وتفكك المنظومة الاشتراكية الا النتيجة الطبيعية لهذا الانهيار الفكر والايديولوجي والدمقراطي والثوري عامة، وغلبة الطابع الارادوي والبيروقراطي على السلطة السوفييتية.

لم تعد الطبقة العاملة في السلطة، ولم يعد الناس يصنعون تاريخهم، واصبحت سياساتها رغم ما تتضمنه من مساندة كبرى لبلدان العالم الثالث ولقضية السلام العالمي تسعى لتحقيق ذاتها كدولة عظمى تسعى لنشر نفوذها واللحاق بالرأسمالية العالمية والتفوق عليها.
ان هذا لا يعني انه في داخل الاتحاد السوفييتي وداخل وخارج مختلف الاحزاب الشيوعية والاشتراكية في العالم كانت هناك تيارات ماركسية حقيقية تناضل فكريا وعمليا ضد هذا الاتجاه السلطوي البيوقراطي المناقض للماركسية وباسمها بالاضافة الى اسم لينين.
على انه برغم ما حدث خلال السنوات الماضية، ما تزال اعلام الماركسية والشيوعية، بمستويات مختلفة مرفوعة في اكثر من بلد وفي اكثر من حزب. وما يزال الصراع الطبقي محتدما بل يزداد احتداما على مستوى كل بلد، وعلى المستوى العالمي اجمع.

وبرغم البلبلة الفكرية التي تغذيها ترسانة البلاد الرأسمالية ضد الفكر الاشتراكي عامة، والماركسي خاصة، فلم تبرز الحاجة الى الاشتراكية والى الفكر الماركسي كما تبرز الحاجة اليه هذه الايام. ان الحكم على الاشتراكية والفكر الماركسي لا يكون بما اصاب التجربة السوفييتية الاشتراكية من انهيار، وانما الحكم الصحيح على الاشتراكية والماركسية يكون بما تعانيه الرأسمالية العالمية اليوم من عجز عن تقديم حلول للمشكلات الاساسية للواقع الانساني. بل وبشراستها العدوانية والاستغلالية ازاء شعوب العالم الثالث بوجه عام، فضلا عن تفاقم ازماتها الاقتصادية والاجتماعية والقيمية.
وهكذا تبرز الاشتراكية والماركسية كضرورة، ما تزال تتطلع اليها هذه الاوضاع التي تزداد ترديا في حياة شعوب العالم وخاصة شعوب البلاد المتخلفة والنامية.

وهكذا نعود الى البداية متسائلين: هل ما تزال الماركسية، كما قال بها ماركس، هي نفسها لم تتغير، وعلينا ان نرفع اعلامه واعلامها؟ وهل ما تزال الماركسية – اللينينية التي ناضلت وضمت آلاف الناس تحت رايتها، كما هي بذات الصيغة القديمة؟

ثم اخيرا، ما السبيل للخروج من هذه الازمة التي تعانيها الماركسية فكرا وواقعا..؟!

ان الماركسية في تقديري ما تزال تحمل من المصادرات النظرية والتوجهات المنهجية ما يجعلها مرجعية اساسية من مرجعيات الفكر الاشتراكي والنضال الاشتراكي، وخاصة فيما يتعلق باستنادها الى البحث العلمي، اختبارا لمصادراتها وكشفا متصلا لقوانين الواقع، فضلا عن الممارسة الثورية المنظمة المستندة الى هذه الممارسة العملية، الى جانب رؤيتها النظرية الفلسفية المادية الجدلية في دلالتها التي اشرنا اليها سابقا، وفي ماديتها التاريخية في صورتها، المتطورة بتطور الخبرات والمعارف، لا في رؤيتها التخطيطية الميكانيكية الاحادية الاتجاه، فضلا عن الطابع النضالي للماركسية من اجل الانتقال بالمجتمع البشري من مرحلة الرأسمالية الى المرحلة الاشتراكية كمرحلة انتقالية نحو الهدف الشيوعي – الذي وان يكن ذا طابع يوتوبي لا يمكن ان تتحدد معالمه الآن – الا انه على الاقل وبشكل عام لن يكون نهاية للتاريخ، بل سيكون مرحلة تاريخية يتحقق بها التحرر الكامل للانسان من عوامل القهر والاغتراب والاستغلال والتي تتفتح بها آفاق انسانية حقيقية جديدة للحرية والابداع.

وكما ارتكزت الماركسية على مرجعيات علمية وفكرية سابقة، فضلا عن انها كانت ثمرة للواقع الموضوعي وللمرحلة التاريخية التي نشأت فيها ومنها، فلا شك ان الماركسية في عصرنا الراهن، لا بد ان تجدد مصادرها التي تستند اليها في تجددها الفكري والنضالي.

فلا شك انها سوف تستند في مرجعيتها الى الماركسية والى ما استندت اليه الماركسية من مرجعيات علمية وفكرية وموضوعية كما سبق وان اشرنا، ولكنها ينبغي ان تضيف الى ذلك ما استجد منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم من تطورات علمية وتكنولوجية، وبخاصة ما يتحقق اليوم من ثورة كاملة في مجالي علوم الاتصال والمعلوماتية، فضلا عن الخبرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، السلبية والايجابية، وخاصة خبرة انهيار النموذج السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، وانهيار حركات التحرر الوطني واحتدام الصراعات العرقية والقومية والدينية في العالم، والازمات التي يعانيها اليوم النظام العالمي ومحاولات الهيمنة على العالم، الى جانب بروز حركات اجتماعية جديدة في العالم كحركات السلام، والدفاع عن البيئة، والجماعات المدنية والاهلية، والمنظمات الدولية والصورة العامة للعولمة بدلالتيها الايجابية والسلبية فضلا عن تطور مفهوم قوى الانتاج نتيجة للثورة العلمية الجديدة ومفهوم القيمة وما يفرضه هذان المفهومان من تطوير ضروري لمفهوم الطبقة العاملة، ومفهوم دكتاتورية البروليتاريا، فلم تعد الطبقة العاملة هي ذاتها في صورتها التقليدية بل اضيفت اليها قوى جديدة، كما ان مقولة دكتاتورية البروليتاريا اصبحت اضيق من ان تتسع للقوى الانتاجية والابداعية الجديدة التي يمكن اليوم ان تشارك في التحولات الثورية.

وهكذا تتسع مرجعية الحركة الاشتراكية وتتعدد مصادر قوتها وفاعليتها عن الحدود الماركسية القديمة، وان تكن امتدادا ابداعيا لها. وهنا يثار سؤال مشروع قابل للمناقشة لانه يطوف في اذهان كثيرة: الا تعد مقولة "الاشتراكية العلمية" والاكتفاء بها اكثر ملاءمة تعبيرا عن الاوضاع الجديدة بدلا من الانتساب النظري الى اسم ماركس دون اغفال اسمه كمصدر اساسي من مصادر الفكر الاشتراكي العلمي؟ هذا فيما يتعلق بالماركسية، اما فيما يتعلق باضافة اللينينية الى الماركسية، فقد يكون من الملائم الاشارة الى منجزات لينين الفكرية والعملية باعتبارها مصدرا من مصادر الاستلهام، شأنها في ذلك شأن العديد من الخبرات الفكرية والنضالية في التاريخ البشري عامة، بل والتاريخ الوطني والقومي، سواء في التراث الفكري او الممارسات والانجازات العملية، وذلك دون الالتزام بها التزاما نظريا كاملا؟

وقد تكون قضية البنية التنظيمية الخاصة للحزب اللينيني بالضرورة موضع اجتهاد جديد خاصة في ضوء التوسع في نطاق القوى الاجتماعية المؤهلة للمشاركة في التغيير الثوري، فضلا عن ضرورة تنمية روح الدمقراطية واحترام الاختلاف وتصفية الاتجاهات البيروقراطية والتسلطية في البنية الحزبية خاصة، وفي التحالفات بين الاحزاب عامة.

وهنا يثار السؤال مرة اخرى، اعتقد انه يدور في كثير من الاذهان وخاصة بالنسبة للينين حول الاكتفاء بمقولة الاشتراكية العلمية والاكتفاء بها كمرجع اساسي عام باعتبارها اكثر ملاءمة من الانتساب الى اسم من الاسماء مهما كان التقدير العميق لابداعهم الفكري والنضالي. فلعل الانتساب الى اسم من الاسماء مما يحد من امكانية تطوير الفكر النظري، بل قد يثير نوعا من الاحساس بالاغتراب عن خصوصية الواقع الوطني لدى الجماهير الشعبية وهذه قضية مطروحة للحوار.
ان التركز على عملية التجربة الثورية – التغييرية، وتنمية الثقافة الدمقراطية والعقلانية والنقدية والابداعية، والتخلص من كل التعميمات الايديولوجية المجردة، والحرص على الدراسة العينية للواقع العيني.. سواء في خصوصيته الوطنية المحلية او خصوصيته القومية العربية في تجربتنا العامة، او في خصوصيته العالمية.
والسعي الى قيام اوسع التحالفات السياسية والنضالية بين مختلف القوى الانتاجية والابداعية والاجتماعية على المستوى الوطني والعربي والعالمي، بل والسعي الى المشاركة في انشاء اممية جديدة لا تلغي الخصوصيات الوطنية والقومية والثقافية المختلفة، بل تجعل منها قوة تخصيب واغناء لهذه الاممية الجديدة، فضلا عن الحرص على الطابع الدمقراطي لهذه الاممية بحيث تحترم الاختلافات والتمايزات، والخبرات المتنوعة، وتزول عنها المركزية البيروقراطية لقطب من اقطابها.

هذه في تقديري هي بعض العناصر التي قد تصلح نقطة انطلاق لمرحلة جديدة تطويرا للفكر الماركسي، وتنمية النضال الثوري، وتوسيعا، وتعميقا له، للخروج بالحركة الاشتراكية خاصة، وحركة النشاط الثوري الانساني عامة. من ازمتها للتصدي لمحاولة الرأسمالية العالمية فرض هيمنتها وسياساتها ومصالحها الاستغلالية وثقافتها على عالمنا المعاصر.

على ان هذه العناصر العامة لا تغني عن معالجة خبرة فكرنا الماركسي في التطبيق الحي، معالجة نقدية محددة في اطار واقعنا المصري المحدد...



إرسال تعليق

0 تعليقات