آخر الأخبار

العشق القديم





العشق القديم


خالد الأسود

(قصة قصيرة)


كلمات قصيدة، أنغام موسيقا، كانا كافيين ليدفعا كل الذكريات إلى ذهني، داهمتني جميعا في لحظة، الحب الأول: عطر الماجي نوار،القبلات المسروقة،المكالمات الطويلة، حفلات السينما النهارية، تلعثم الأقدام في الرقصة الأولى، همسات العشق، البشرة المخملية الصافية..

 حاولت أن ألملم أطراف الحاضر المهلهل، الذكرى تسحبني هازئة بمقاومة غير جدية، انتصارات النضج تعجز عن منافسة أحلام المراهقة، زمن الزهد يضغط الأنفاس، لا شيء يقارن بزمن الأشواق..

شتان الموت والحياة.

النوستالجيا ليلا زائر رفيق، وحده الليل يبذل عقاقير الحنين والنسيان في لحظة واحدة..

ليل الإسكندرية ألق وأساطير، كؤوس الكحول تذيب الزاهد الملعون، ترده مفعما بالحنين والأشواق، الخلايا المنتهكة تحن للحياة ثانية، مازالت قادرة على الانقسام، كيميائيتها تضح بالحياة..

الوجوه المصطنعة تزعج براءة الذكرى، الضحكات الصاخبة نشاز..

فقد البار العتيق سحره فجأة..

غادرت إلى سيارتي خائبا، روائح البحر أمل أخير، أنفاسه تخدر الأعصاب المهترئة..

توقفت فوق كوبري ستانللي، بقايا نشوة مازالت تسري.

لمحني الرجل العجوز، وقف يعرض بضاعته، منحته ثمنها بسخاء، لم أمد يدي ألتقطها، ابتسمت له، رد ابتسامتي متخابثا متضامنا كرفيق من رواد الليل..

أدرت ظهري تداعبني دعواته المتتالية..

تناثر رذاذ البحر فجأة كالذكرى..

كل شيء مغلف بسرور سحري غامض.. الأمواج زبد أبيض يتوهج في الظلمة،أتتني الفكرة كبدر يشق الغيوم..

قفزت في سيارتي، انطلقت إلى شارعها القديم.. لست دابة لجين ملعون يريد الخلود، مازلت أشعر وأفكر وأتوق ..

ثلاثون عاما من الفراق والذكرى مازالت تنشب أناملها في الأعماق، حادة نعم، تذكرني بنعومة بشرتها أيضا..

طالما زهت بجمالها، تملك سحر الأنوثة كله..

لم أنسها قط، مازلت مع أول رشفة من كأس نبيذ جيد أذكر مذاقها..
كانت ساحرة تجيد التمرد وتتقن السكون والقبلات.

الشارع التجاري القديم بدا غريبا، خلا من الباعة والسائرين، حتى الحيوانات الضالة اختفت..

هبطت على قدمي، انزويت أمام الرصيف المقابل لحرم منزلها..
أحيانا تمر الدقائق كأيام، تبدو كأنها لا تتحرك، يبدو الزمن الملعون ثابتا..

الحسرة الكبرى عند تتجلى الحقيقة، تتكشف خدعته..

لم تكن دقائق، كانت أعواما تتسرب..

 الحسرة تنمو، تتمدد، تتركنا منهكين، لا نملك غير أنفاسنا.

منزلها من بعيد عتيق، طحنه الزمان ككل الأشياء، لم أرَ بوابته الحديدية مغلقة من قبل، كل النوافذ مظلمة..

ابتسمت لآمالي الساذجة..

استدرت مسكينا..

مكللا بالحاضر والحقيقة.

كل الأمكنة تعصف بالسلام، ذهبت كل المحاولات سدى، عبثا أحاول لملمة الوعي والإرادة..

شيء قوي مازال يجذبني للمكان، لي في كل موضع ذكرى.

عطر الماجي نوار يملأ أنفي بقوة كأنه حقيقة..
فاجأتني سيارة أجرة ظهرت من الظلام بلا مصابيح، تابعت بنصف أذن لعنات السائق غير مبال، أعطيته ظهري مترفعا عن شجار بلا معنى..

الملعون يتمادى، يتوقف بعنف..

نفرت عضلاتي بحكم الغريزة والعمر الطويل..

نزل السائق بهدوء يفتح حقيبة السيارة الخلفية، أخرج حقيبة سفر كبيرة..

من مكاني على الرصيف الآخر لمحتها، تجلس على المقعد الخلفي بأرستقراطيتها المحببة تشد آخر أنفاس لفافتها بهدوء، تضع الهاتف على أذنها..

مضت لحظات قبل أن أصدق أنها هي، هبطت برشاقة، لاتعقد شعرها خلف رأسها كما اعتادت، تطلقه بكبرياء، تحتفظ بأنوثتها كاملة، لم تفقد شيئا من سحرها، جمالها تعتق بالنضج والأسرار..

ألقت مصابيح السيارة أنوارها وهي تضع الهاتف في حقيبة يدها، قهرت الزمن كما أخبرتني مرة، قوامها زاد ليونة، تضاريسه المتوحشة كما هي، مازال لها خصر عجيب..

أخيرا حدثت اللحظة، التقت عينانا، فقدت السيطرة تماما على خفقات القلب والأنفاس..

لمعت عيناها، الذكرى تملأها، شفتاها الممتلئتان انفرجتا قليلا كأنها تهم أن تنطق شيئا..

انفتحت البوابة السوداء بغتة، جاءت أنوار قوية، خرج رجل ضخم حوله ثلاثة أطفال..

التحمت بهم عناقا وقبلات، نستني تماما، لم تلتفت ناحيتي ثانية..
دخلت معهم، أغلقوا البوابة الحديدية، صدر عنها صرير عال شق موات الشارع وسكون الليل..

لم أحزن، عاد العطر إلى أنفي ثانية.. استقبلت الوهم اللذيذ مسرورا..

تذكرت البائع العجوز ورذاذ البحر..

عدت إلى سيارتي..

بحثت عن رقم صديقتي التي تعرفت عليها مؤخرا..

_ مش عارف أنام، ومش عاوز أروح.. سانتظرك أمام منزلك بعد عشر دقائق.. لك عندي مفاجأة ستفرحك.

أتاني صوتها يضحك كالعادة رغم النعاس:

_ مجنون.

اندفعت بالسيارة أفكر في المفاجأة التي ادعيتها، صرت مطمئنا، لن أذوب كقطعة سكر في فنجان ساخن على الأقل لساعات قادمة..

إرسال تعليق

4 تعليقات

  1. ودوما تسحقنا الذكريات في لحظة تصادف مرورها بأصحابها في زمن آخر يتحاشاها أطراف من عاشوها كرصاصة موجهة إلي واقعهم قد تغتاله الذكريات
    حروف قد تنذرنا بكل الألم الذي قد تصبه السماء صبا علي قلبك ان حاولنا ان نلحم الحاضر بذكريات الأمس

    ردحذف
  2. احسن الله اليك والى قلمك وعلى عقلك

    ردحذف
  3. أحيانا الذكرى تكون لعنة، وأحيانا نجدة.

    ردحذف
  4. صباح الخيرات يا عم خالد شكرا لمرورك العطر

    ردحذف