قراءة في الخطاب
الفاطمي السنوي الخامس عشر
هل كان الخطاب دعوة
لاعتزال الناس ؟! (2)
محمد النجفى
فالآية الكريمة تعطينا درساً في الرجوع إلى الله تبارك وتعالى دائماً
واللجوء الى كهفه الحصين في الأزمات والشدائد وعند اختلاط الأمور وانتشار الفتن
ليشملهم برحمته الخاصة ويهيئ لهم من أمرهم رشداً، وتبيّن بأن الوسيلة إلى النجاة
من بيئة النفاق والفساد والضلال والظلم والانحطاط هو باعتزالها معنوياً وتجنب
التأثر بها، وليس من الضروري الانعزال عنها والانزواء في البيت أو أي مكان آخر
لوجود ضرورة لممارسة الحياة الطبيعية من حيث طلب الرزق وسدّ الاحتياجات المتنوعة
تقتضي الاختلاط بالناس والتعامل معهم حيث لا يوجد تهديد على حياته يدعوه إلى
التخفي عنهم، فالمهم إذن هو الاعتزال المعنوي[1].
أغلبية المعزين والمشاهدين الذين استمعوا إلى خطاب المرجع اليعقوبي اعتقدوا
في الوهلة الأولى للخطاب وبالتحديد في بداية الخطاب عند تلاوته قوله تعالى: [وَإِذِ
اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ
يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم
مِّرْفَقاً].
أن المرجع اليعقوبي يدعو إلى اعتزال الناس بسبب ما سيكون من اشتداد الفتن
والأزمات وانتشار الفساد والضلال والانحراف والنفاق وفق معطيات معينة جعلته يستشرف
المستقبل ...
وبيّن سماحته بأن الوسيلة إلى النجاة من بيئة النفاق والفساد والضلال
والظلم والانحطاط هو باعتزالها معنويا وعدم التأثر فيها ... .
ولكن هذا الفهم ليس هو تمام مراد سماحته بدليل خطابات المرجع اليعقوبي التي
سأستعرض بعضها ...
الكل يعلم أن ما يمر به العراق واختلاط الأوراق وتخلي الكثير عن مبادئهم
تحت مسميات وحجج واهية جعل البيئة غير آمنة فالجهات السياسية الداعمة للحكومة لا
زالت مستمرة في ظلمها وفسادها وعدم مبالاتها ومن ورائها أجنداتها الخارجية وكذلك
الجهات والأجندات الخارجية التي تقف بالضد من الحكومة لأجل مصالحها الشخصية
مستخدمة المتظاهرين وقودا لتحقيق مصالحها بالإضافة إلى أن عدد ليس بالقليل من
المتظاهرين يسيرهم العقل الجمعي الذي تصنعه هذه الأجندات وادواتها حتى أصبح الكثير
يخالف واضحات الشريعة والمبادئ الانسانية وسبب كل هذا هو عدم لجوئهم إلى كهف حصين
وإنما كثير منهم يرجعون إلى قيادات متقمصة لا هم لها إلا مصالحها الشخصية ولا
تتوانى عن زجهم في المحرقة لأجل المحافظة على مكاسبها الشخصية أو الحصول عليها
وهذا واضح لمن يتابع تقلبات بعض القيادات من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال أو
انزواء بعض القيادات وترك الأمة تتخبط وفي هذا الصدد يحسن متابعة كلمة المرجعية
الرشيدة التي ألقتها في وفد أهالي حي الجهاد في بغداد بتاريخ 4-1-2020م وكانت
بعنوان (حوار بين القادة و الإتباع يوم القيامة)[2].
وكثير منا يعلم أنه بتاريخ 7- 10 - 2019 تكلم سماحة المرجع اليعقوبي في قبس
قرآني حمل عنوان: ( (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ
وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) - لتكن
لنا مشاركة في تحقيق الهدف الإلهي العظيم)[3]
وأفتتح كلامه بقوله:
تشير الآية إلى المحاولات اليائسة والبائسة التي يقوم بها أعداء الإسلام من
داخل المجتمع المسلم ومن خارجه ((كفارّ ومنافقين ومشركين)).
وقد أختار سماحته الآية التي تدل على أن المواجهة المباشرة حيث قال سماحته:
وتوجد التفاته لطيفة للفرق بين التعبير (يُطْفِؤُواْ) في سورة التوبة و (لِيُطْفِؤُوا)
في سورة الصف، قال الراغب ((والفرق بين الموضعين أن في قوله (يُرِيدُونَ أَن
يُطْفِؤُواْ) يقصدون إطفاء نور الله، وفي قوله (لِيُطْفِؤُوا) يقصدون أمراً
يتوصلون به إلى إطفاء نور الله))[4] فالتعبير الأول يشير إلى التفسير الأول لآية
التوبة وهي المواجهة المباشرة والوصول إلى ما يريدون بلا واسطة، والتعبير الثاني
يشير إلى اتخاذ الوسائل والأدوات والمقدمات للوصول الى الإطفاء وهو التفسير الثاني
في آية الصف فالقرآن الكريم يؤكد حقيقة خيبتهم وفشلهم في مساعيهم سواء واجهوا
مباشرة أو اتخذوا لذلك مقدمات وأسباباً. [انتهى الاقتباس].
الذي يراجع كتاب خطاب المرحلة بأجزائه الأحد عشر سيرى حث سماحته المؤمنين
الرساليين على أداء تكليفهم في إنقاذ الناس من الجهالة وحيرة الضلالة[5] والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر[6] والقبس القرآني (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
يَسْعَى نُورُهُم)[7] والقبس القرآني (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) (النساء:75) وجوب العمل لإنقاذ المجتمع من الظلم
والجهل والتخلف والحرمان[8] وسنة التدافع التي عد المتخلف عن هذه المواجهة بأن لم
يبلغ الفتح حيث قال سماحته:
إنّ من أفضل أشكال التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله) وبالإمام الحسين
(عليه السلام) إحياء هذا القانون الإلهي العظيم في كل ساحاته سواء داخل كيان
المجتمع المسلم أو خارجه وبالآليات المناسبة لكل مواجهة، ولا يسعنا القعود عن هذه
الوظيفة المباركة وإلاّ ضاع الدين واضمحل كيان الإسلام كما نبّأت به الآية
الشريفة، ومن تخلف عن هذه المواجهة لم يبلغ الفتح، كما قال الإمام الحسين (عليه
السلام) في رسالته، قال تعالى {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا
غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد : 38][9]
وقد صحح سماحته معنى الاعتزال في أكثر من خطاب ومنها في خطابه الذي حمل
عنوان (من أين نبدأ) حيث جاء فيه:
لنأخذ درساً في قصة النبي موسى (عليه السلام) وأخيه النبي هارون لما
استخلفه على قومه وذهب إلى مناجاة ربّه، فأضل قومه السامري وجعل لهم عجلاً جسداً
له خوار ودعاهم إلى اتخاذه رباً وعبادته ووقف هارون في وجه هذا الانحراف والفساد
وواجهه إلا انه لم ينشق عنهم وقال لأخيه موسى لما رجع إليهم [قَالَ يَا ابْنَ
أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ
فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي] (طه:94) فكانت
المحافظة على وحدة قومه هو المشروع الأهم لديه لأنه وعاء حفظ العقيدة والكيان
والمشروع، وفي ضوء هذا يمكن أن نفهم وجهاً لما جرى على النبي يونس حين انشق عن
قومه وخرج مغاضباً فالتقمه الحوت وهو مليم، قال تعالى [وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ
مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن
لاّ إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ،
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي
الْمُؤْمِنِينَ] (الأنبياء 87- 88).
حتى المباينة والاعتزال والمقاطعة التي أمرنا بها مع أهل المعاصي لا تعني
الانشقاق والانفصال لأنه ابتعاد عن تحمل المسؤولية وتخلّي عن أداء الواجب لأن
هؤلاء هم ساحة عمل الرسالي الذي يدعو إلى إعلاء كلمة الله تعالى وإذا هجرهم فسيضيع
على نفسه فرصة هداية الآخرين إلى تبارك وتعالى. وإنما تعني المباينة والاعتزال في
الأخلاق والأفعال والسلوكيات بحيث تتضح معالم الفرق بين المنهجين والسلوكين وان
كانا مختلطين بأبدانهم. ولم يبعث الأنبياء (عليهم السلام) ولا استخلف الأئمة لكي
يتقاطعوا مع الآخرين فيعتزلوا الناس ويقبعون في بيوتهم، بل بُعُثوا بالحركة
والمخالطة والعمل لكن من دون ذوبان أو اندماج وخلط أرواق ومداهنة مع أهل المعاصي
والفسق والكفر[10].
وكذلك في الخطبة الأولى لصلاة عيد الفطر 1434هـ / 2013 التي كانت بعنوان (سلامة
الدين في اعتزال الناس) ومما جاء فيها:
وهنا قد يثار إشكال منشأه وجود التنافي بين التوجيه بالعزلة والمنحى
الاجتماعي لدين الإسلام؟
ويجاب هذا الإشكال بأكثر من مستوى:
الأول: أن نضع هذه الأحاديث في موضعها الصحيح ولا نأخذها على إطلاقها، ونتعرف على
المخاطبين بها وحالاتهم، ومن تلك الحالات التي خاطبتها هذه الأحاديث المحبِّبة
للعزلة:- وذكر سماحته الصنوف المشمولة بهذا الوجه.
وذكر الوجه الثاني حيث قال
الثاني: أن نفهم من معنى العزلة غير المعنى المتعارف وهو الانكفاء على الذات وترك
الاختلاط بالناس فلا يرد الإشكال أصلاً، وإنما يراد باعتزال الناس مباينتهم في
السلوك والأفعال المخالفة للشريعة، فلا مانع من أن يعيش المؤمن وسط المجتمع بكل
فئاته بشرط أن يكون متميزاً بعقيدته وأخلاقه وسلوكه وتقييمه للأمور عن أهل المعاصي
ولا يتأثر بشيء من انحرافاتهم أو يداهن أو يجامل أو يتنازل عن شيء، وبثباته
ومبدئيته سوف يكون موقفه قوياً مؤثراً في الآخرين وهادياً ومصلحاً لهم.
وهذه المباينة في العقيدة والسلوك مع أهل الباطل جعلها الله تعالى في
القرآن الكريم علامة فارقة لسلوك الأنبياء (عليهم السلام) مع مخالفيهم والمتمردين
عليهم، قال تعالى: [بِسمِ اللهِ الرَحمَنِ الرَحِيمِ، قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ،
لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ] (الكافرون: 1-
3) وقال تعالى: [وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو
رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً، فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ
وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيّاً] (مريم: 48، 49).
إن الاختلاط وعدم التمايز في الرؤية والتوجهات والسلوك بين المؤمن وغيره
خطير جداً لأنه يؤدي لتشويه صورة الدين وتمييعه وتضييع هويته وانحراف أحكامه حتى
يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً والأخطر من ذلك أنه يعطي مشروعية للانحراف
والفساد بعد أن اختلط الحق بالباطل ولم يبق مائزٌ بينهما.
خذ مثلاً سلوك السياسيين فهل تجد فرقاً بين من يرفع شعاراً إسلامياً ويعتبر
حزبه إسلامياً وبين الآخرين؟ فإذا لم تجد فرقاً من حيث الفساد والاستئثار بأموال
الشعب والأنانية وعدم الاكتراث بحال الشعب وعدم الاهتمام بإعمار البلد وازدهاره،
فماذا سيبقى في يدك من أدوات لإقناع المجتمع بمشروع الإسلام ونظامه في سياسة الأمة
وإدارة شؤون البلاد؟.
وهكذا على صعيد السلوك الشخصي إذا كان (المتدين) يكذب ويخلف الوعد ويغشّ
ويعتدي على حقوق الآخرين ويفتري عليهم ويكيد لهم فكيف سيحب الناس التدين والالتزام
بالشريعة؟.
....
الثالث: أن يكون الاعتزال بمعنى الانقطاع عما سوى الله تعالى وعدم التمسك
بأي سبب من المخلوقات، عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (لا يكون العبد عابداً
لله حق عبادته حتى ينقطع عن الخلق كلهم إليه فحينئذٍ يقول: هذا خالص لي، فيقبله
بكرمه).
فذِكرُ الله تعالى والتمسك بالنبي وآله الكرام (صلوات الله عليهم وسلامه) وولاية
أهل البيت (عليهم السلام) هو الكهف الذي نكون فيه دائماً ونأوي إليه باستمرار وان
كنّا في أوساطهم ، قال تعالى: [وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ
إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته
ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً] (الكهف:16).
وذكر سماحته قصة السيد الشهيد الصدر وقصة أهل الكهف ..
وقال في موضع آخر:
وفي ضوء ما تقدم يندفع الإشكال وأن المعاشرة مع الآخرين أفضل من العزلة إذا
كانت مثمرة ونافعة ويؤدي فيها الفرد وظائفه ولا تستدرجه المجاملات إلى الوقوع في
المعاصي؛ لأن الاختلاط مع الآخرين يوفر فرصاً عظيمة للطاعة كقضاء حوائج الناس
وإدخال السرور عليهم وهدايتهم وإرشادهم و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو
ذلك.
روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (المؤمن الذي يخالط
الناس ويصبر على اذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على اذاهم) وقال
(صلى الله عليه وآله وسلم) لرجل أراد الجبل ليتعبد فيه: (لصبرُ أحدكم ساعة على ما
يكره في بعض مواطن الإسلام خير من عبادته أربعين سنة)، وعليه أن يكون يقظاً
ملتفتاً حتى لا يتسبب اختلاطه مع الناس بالوقوع في المعاصي أو تشويش فكره بفضول
الكلام، وأن يلتزم بمبادئه والأفعال الموافقة للشريعة ويعتزل سلوكياً الآخرين
ويحذر من مناهجهم ورؤيتهم.
أما من لا يملك الشجاعة والمعرفة والقدرة على أداء وظائفه مع الآخرين فالحل
المناسب له تقليل اختلاطه بالناس والاقتصار على مقدار الضرورة وأن يحرص على مجالسة
ومحادثة من يقرّبه إلى الله تعالى، روي الإمام الصادق (عليه السلام) عن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) قال: (قالت الحواريون لعيسى (عليه السلام): يا روح الله، مَن
نجالس؟ قال: من يذكّركم الله رؤيته ويزيد في علمكم منطقه ويرغّبكم في الآخرة عمله)
وفيه إشارة إلى أن من لم تستفد منه هذه الأمور فلا تضيّع وقتك وعمرك الثمين
بمجالسته أو محادثته عبر الإنترنت وأجهزة الاتصال ومصاحبته، فكيف بمن تكون مجالسته
سبباً لعكس هذه الصفات كما هو حال أغلب الناس مع الأسف؟ لذا ورد في بعض الأحاديث:
(فرَّ من الناس فرارك من الأسد)[11].
ومن الكلمات الأخرى التي عرف سماحته فيها المؤمن الرسالي ودوره في هذه
المواجهة الحضارية وعدم تخليه عنها في أحلك الظروف ففي كلمة لسماحته حملت عنوان (كيف
نخرج من حالة الفشل والتقاعس) قال سماحته:
نحن اليوم في منعطف تاريخي يحدّد ملامح المستقبل لفترة لا يعلم مداها إلا
الله تبارك وتعالى، وتواجهنا تحديات ضخمة ومنوعة وهي تقتضي قيامنا بمسؤوليات واسعة.
لا يسع الإنسان المؤمن الرسالي المخلص الغيور على دينه ومجتمعه وحضارته
ومستقبله أن يتخلى عنها فإذا تقاعس عنها الآخرون فإنه لا يعدّ ذلك التقاعس مبرراً
لترك واجباته بل يحاول أن يسدَّ الفراغ الذي تركه الآخرون ويحمل نفسه ما لاتطيق. لأنه
لا يستطيع أن يقف مكتوف الأيدي ازاء تلك التحديات.[12]
وفي كلمة لسماحته حملت عنوان (تذكير للمشغولين بالعمل الرسالي) قال:
عرّفنا المؤمن الرسالي بأنه من لا يتوقف عند حدود إصلاح نفسه وإرادة الخير
له وان كان في هذا كفاية لمن يروم النجاة، ولكنه بما يحمل من حب ورحمة بالاخرين
يتحرك بعمل دؤوب لإصلاح مجتمعه وتحقيق السعادة لهم ، وهذا هو ديدن الرسل والعلماء
الصادقين مع الله تبارك وتعالى {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ
وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ
حَسِيباً } ( الأحزاب /39 ) ، {لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ
رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } (الجن28) ،
وهذه النية الصادقة والعمل المخلص لهداية الاخرين وإصلاحهم هي من اعظم القربات الى
الله تبارك وتعالى وقد وردت احاديث كثيرة في تفضيل العالم العامل على العابد
الزاهد المنزوي والمتكفيء على ذاته . فالعمل الرسالي يمثل مرحلة متقدمة على مرحلة
إصلاح النفس وتهذيبها.[13]
وفي كلمة لسماحته افتتح بها بحثه الشريف في كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر) والذي واستمر البحث سنتين تقريباً جاء فيها:
إن عملية الإصلاح التي هي رسالة الأنبياء والأئمة (سلام الله عليهم أجمعين)
[إنْ أُريدُ إلا الإصْلاحَ مَا استَطَعْتُ وَمَا تَوفِيقِيَ إلا بِاللهِ] إنما
تتحرك وتُنفَّذ على أرض الواقع من خلال هذه الفريضة المباركة والدعوة إلى الخير،
فإحياء هذه الفريضة يعني مواصلة تأدية رسالة الرسل والأنبياء والأئمة (صلوات الله
عليهم أجمعين) في كل ميادين الإصلاح السياسي والاجتماعي والفكري والأخلاقي والتشريعي
والاقتصادي.[14]
قال المرجع اليعقوبي في مقدمة كتاب (نظرة في فلسفة الأحداث): ان المؤمن
الرسالي لا يتخلى عن حمل الامانة حتى ولو في أحلك الظروف، فقد كان السيد الشهيد
تحت إقامة جبرية وتراقبه عيون الجلاوزة وتحسب عليه حركاته وسكناته ومع ذلك فلم
يمنعه ذلك من التواصل مع من يراهم أهلا لهذا الوعي الرسالي العميق الذي يكفي عشر
معشاره للإدانة وإنزال أقسى العقوبات في زمن ذلك النظام الطاغوتي المتجبر[15].
ومما تقدم يظهر أن التكليف بحسب قراءتي هو ما يلي:
1- على المؤمن اعتزال الناس بمعنى مباينتهم في السلوك والأفعال المخالفة
للشريعة وإن كانوا في مكان واحد مع السعي لإصلاحهم وأما إذا كان المؤمن غير قادر
على المحافظة على دينه ومبادئه فعليه اعتزال هذه البيئة ماديا ...
علما أنه قد فشل بعض المؤمنين في هذا الامتحان حيث أرادوا في خضم هذه
الأحداث ضبط بوصلة بعض الشباب وتهذيب سلوكهم ولكن ما حصل أنهم تأثروا بالسلوك
المخالف للشريعة الذي قام به هؤلاء الشباب طمعا أو خوفا ... !!
وفشل بعض آخر عند تأييدهم لسلوكيات مخالفة للشريعة انسياقا للعقل الجمعي ...
2- على المؤمن الرسالي المحافظة على حياته فإذا شعر أن وظيفة الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر تهدد حياته فعليه استخدام وسيلة غير مباشرة تحفظ حياته
وتؤدي نفس الوظيفة ...
وهذا متروك لتقدير المؤمن الرسالي خاصة ونحن نعيش في ظل وضع مربك علما أني
أقرأ أن هناك خطورة كبيرة في المستقبل القريب مما يجعل تأدية الرسالي لوظيفته
ينبغي أن تكون بصورة غير مباشرة.
وينبغي على المؤمنين الرساليين مراجعة كتب وخطابات المرجعية الرشيدة حتى
يكونوا على بينة من أمرهم ...
3- التوازن في المواقف فبعض المؤمنين مع شديد الأسف لم يكن متوازنا في
مواقفه فنجد قسم منهم دعم وأيد المتظاهرين مطلقا ونجد قسم آخر منهم رفض المتظاهرين
كليا ... وكان عليه أن يتبنى موقف القيادة الرشيدة التي هي الكهف الحصين بأن يدعم
التظاهرات السلمية ويرفض السلوكيات المخالفة للشريعة السمحاء والمبادئ الانسانية
الحقة ... فالذي لا يعرف الموقف فالسكوت أفضل له ...
في منشور لاحق سأبين بعض الالتفاتات المهمة في هذا الخطاب الفاطمي المبارك
ان شاء الله تعالى.
الهوامشـــــــــــــ
[ 1 ] أنظر النص الكامل للخطاب: https://yaqoobi.com/arabic/index.php/news/843786.html
[ 2 ] التسجيل الكامل على الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=cCTn6Fkem6Q
[ 3 ] نشرة الصادقين العدد (197) الصادر بتاريخ 10 ربيع الأول 1441هـ
الموافق 8 تشرين الثاني 2019م.
[ 4 ] المفردات للراغب: مادة (طفأ) وقال في الهامش: راجع درة التنزيل
للاسكافي: 195.
[ 5 ] خطاب المرحلة ج5 ص275.
[ 6 ] أنظر كتاب: كتاب أسمى الفرائض وأشرفها الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر
تجده على الرابط التالي: https://yaqoobi.com/arabic/index.php/permalink/4549.html
[ 7 ] من نور القرآن ج1 ص283.
[ 8 ] المصدر السابق ج4 ص327. خطاب المرحلة ج11 ص294.
[ 9 ] خطاب المرحلة ج8 ص408.
[ 10 ] المصدر السابق ج6 ص59.
[ 11 ] المصدر السابق ج8 ص263-269. من نور القرآن ج1 ص343-351.
[ 12 ] خطاب المرحلة ج6 ص49.
[ 13 ] المصدر السابق ج5 ص202.
[ 14 ] من نور القرآن ج3 ص227.
[ 15 ] ص15-16.
0 تعليقات