اليعقوبى : حوار حول الدولة
المدنية والتجديد في قراءة النصوص الشرعية
الزركانى البدري
أجرت[1] قناة (الحرة - عراق) لقاءً موسعاً مع سماحة المرجع الديني الشيخ
محمد اليعقوبي (دام ظله) تناول عدة قضايا مثيرة للجدل وتستحق القاء الضوء عليها،
ونذكر ادناه جملة من الاضاءات التي تفضّل بها سماحة المرجع:
1- التفريق بين الدولة المدنية والعلمانية، اذ المطلوب دولة مدنية متحضرة
بكل ما تعنيه المفردة لكن لا يلزم من كون الدولة مدنية أن تكون علمانية كما يروِّج
البعض، فان الدين لا يتنافى مع المدنية بل يؤسس لها، وتجربة الإسلام مع العرب خير
شاهد على ذلك، فقد كانوا قبائل متناحرة تعتاش على القتل والسلب وتنتشر فيها
الفواحش والآثام فصنع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم بالإسلام أمة قوية
متماسكة حضارية وازدهرت عندهم العلوم والمعارف وتعترف الحضارات المعاصرة انها
مدينة لتلك النتاجات العظيمة.
2- تقوم الدولة على أساس المواطنة، والمواطنون جميعاً متساوون في الحقوق
والواجبات التي تقرّها القوانين من دون تمييز بسبب الدين أو العرق أو أي انتماء
آخر.
3- الدولة الإسلامية تكفل حقوق جميع الأقليات على اختلاف عقائدهم
وايديولوجياتهم، وهكذا كان الأمر في زمان حكومة النبي وأمير المؤمنين (صلوات الله
عليهما) بل حتى في زمان الحكومات المنحرفة كالأمويين والعباسيين، فلم يُقتل أحد
لأنه ملحد أو كافر أو مشرك، وكان الملاحدة يحضرون موسم الحج ويسخرون من عقائد
المسلمين وشعائرهم ولم يتعرض لهم أحد، ودخل الائمة (سلام الله عليهم أجمعين) معهم
في مناظرات مفصّلة تجد جملة منها في كتاب (الاحتجاج).
اما عمليات الخطف والقتل والإرهاب التي تحصل اليوم ويراد ألصاقها بالإسلام
السياسي فانه بريء منها، وان الحصة الأكبر من ضحايا العنف هم من غير العلمانيين،
فهذه العمليات ليست جزءاً من الصراع بين الإسلام والعلمانية وانما هي صراعات
سياسية بين اجندات داخلية وخارجية وحرب مصالح وتقاسم مغانم وتوسيع نفوذ ونحو ذلك.
4- وحول استعمال (اليد) كمرتبة من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وكيفية انسجام ذلك مع وجود دولة مدنية وقانون، أجاب سماحة المرجع، ان استعمال اليد
بالضرب ونحوه مرتبة متأخرة من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تبدأ
بالموعظة الحسنة والإرشاد والتوجيه والتوعية، وان مرتبة اليد مشروطة بإذن الحاكم
الشرعي، وهو لا يأذن باستعمالها لأنه لا يملك هذا الحق وفق القوانين النافذة ولما
فيها من اختلال النظام الاجتماعي العام والفقهاء مجمعون على ان حفظ هذا النظام أولى
بالمراعاة وأهم من سائر الاحكام الفرعية فيقدَّم عليها، وقد أقام الائمة (عليهم
السلام) ومراجع الدين عبر التاريخ مشروعهم ومؤسستهم في ظل الدولة القائمة
والقوانين التي تراعي مصالح العباد.
5- وعن إشكالية الحكم بنجاسة بعض فئات المجتمع كالكفّار والمشركين وتعارض
ذلك مع مبدأ التساوي على اساس المواطنة والتعايش، قال سماحته: بالنسبة لي فقد بحثت
المسألة في موسوعة (فقه الخلاف) وذكرت الأدلة على طهارة كل إنسان الا اذا خرج عن
القانون الذي ارتضاه الناس واقروّه واصبح عنصر إفساد وفتنة في المجتمع فيحكم
بنجاسته كإجراء رادع من خلال تطويقه وعزله اجتماعياً واشعاره بالدونية وانه خارج
عن الاطار العام للمجتمع، فالكافر لا يحكم بنجاسته من جهة انه مختلف عقائدياً مع
المسلم وانما اذا اصبح عنصر إفساد وفتنة في المجتمع المسلم.
6- وعن إشكالية عدم جواز انشاء دور عبادة جديدة للملل الأخرى في بلاد
المسلمين أو التبشير بعقائد وايديولوجيات مخالفة للإسلام قال سماحته ان هذا
الاشكال نظري لا موضوع له في الخارج لان الفقيه ليست لديه سلطة حتى يمكن ان ينفّذ
مثل هذه الاحكام، وإنما يذكرها بعض الفقهاء في بطون الكتب فقط ولا واقع عملي لها،
والأمر يتبع القوانين المعمول بها في تلك البلاد والتي تمثل توجّهات الأغلبية مع
احترام حقوق الأقليات بحيث لا يكون فيها تجاوز على حقوق الأكثرية. وهذا معمول به
في البلدان المتحضرة، مثلاً هل تسمح القوانين الألمانية بالتبشير للنازية وتمجيد
هتلر، أو هل تقبل القوانين الاسرائيلية نفي مذبحة الهولوكست مثلاً، وان عدداً من
الدول الأوربية منعت ارتداد الحجاب في المؤسسات الرسمية لأنه يخالف منهجها
العلماني مثلاً.
7- النصوص الشرعية صمّمت من قبل الله تعالى ورسوله الذي لا ينطق عن الهوى
ان هو الا وحي يوحى بحيث تستوعب كل تغيرات الزمان والمكان ومواكبتها للظروف
المستجدة وتلبيتها لحاجة البشرية الى القوانين التي تنظم حياتها، ولذا لم يتوقف
الفقهاء عن إعطاء الحكم الشرعي في أي أمر مستحدث، فخلود الشريعة بمعنى توفر هذه
القدرة والقابلية فيها أمر ممكن بل واقع وما علينا الا ان نحسن قراءة هذه النصوص
واستعمال الآليات الصحيحة لاستنطاقها، والشيعة الامامية يتميزون عن بقية طوائف
المسلمين بفتح باب الاجتهاد بمعنى أخذ الاحكام الشرعية من نصوصها الاصلية وعدم
الانغلاق على فتاوى العلماء السابقين مهما ارتقت درجاتهم العلمية، وهذا كله بفضل
تعاليم أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
وقد أتاح الاجتهاد فرصة واسعة للاستفادة من آخر إنجازات العلوم في قراءة
النصوص وفهمها وحقق المواكبة المطلوبة لتغيرات الزمان والمكان، فالشريعة اذن ليست
كالقوانين التي يضعها البشر القاصر المحدود والتي لا تلبث الا قليلاً حتى يظهر
نقصها وخللها.
8- لا يتعرض المختلف فكرياً وعقائدياً لأي ضغط او اكراه أو عنف لمجرد أنه
مختلف، الا اذا مارس العدوان على عقائد الناس وإحداث الفتنة في المجتمع فلابد من
وجود قوانين تعالج الحالة، وهذا مبدأ قرآني قال تعالى (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن
دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8).
وقلنا في بداية الحديث ان التاريخ الإسلامي شاهد على ذلك.
9- نحن مستمرون في الحوار مع العلمانيين بالحجة والبرهان لأمور:
أ - انهم شركاء لنا على هذه الأرض فيكون الحوار مع الشريك المخالف ضرورياً
ولا سبيل غيره لتحقيق التعايش السلمي المشترك.
ب - اننا نريد لهم الخير ونشفق عليهم ونرى ان الدين اعظم هبة من الله تعالى
للبشر فلا نريد حرمانهم من هذا الخير فقد ورد في الحديث القدسي (الخلق عيالي
فاحبُّهم اليَّ أشفقهم على عيالي)[2].
ج - ان من واجبنا نصرة المظلوم ومن يعتدى عليه ويسلب حقه، ونحن نرى في
إنكار الخالق واقصاء شريعته تعدّياً على حدود الله تعالى وظلماً للحق (إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(لقمان:13) فلابد ان ننتصر للحق كما ان العلمانيين
يعارضون بعض القوانين لان فيها عدواناً على الحرية الشخصية أو ظلماً للمرأة كما
يزعمون، فالله تعالى أحقّ وأولى بالنصرة من الخلق.
10- وتعرض المحاور إلى الإشكالية التي يتبجح بها العلمانيون بقوة وهي ان
حكم الله تعالى والدين الذي يصلح لكل زمان ومكان لا نستطيع الوصول اليه اما هذا
الموجود فهي فتاوي الفقهاء المختلفة فيما بينها والقابلة للصواب والخطأ ولا يجوز
أن نصفها بأنها دين الله، فدين الله غير موجود.
وأجاب سماحته بان: احكام الله تعالى ثابتة عنده سبحانه وفي عالم الواقع وقد
وضع لنا الائمة المعصومون (عليهم السلام) طرقاً وعلامات على شكل أصول وقواعد
للوصول اليها فان اصبناها كانت توفيقاً من الله تعالى ويعطى العامل بها أجره مرتين
وان أخطأها كان معذوراً امام الله تعالى لأنه سلك الطريق الذي أمره الله تعالى به
لكنه أخطأ الواقع.
لكن هذا البحث عن حكم الله تعالى ليس متاحاً لأي أحد وانما لخصوص من توفرت
فيه القابلية المعروفة بالاجتهاد، وعليه ان لا يتجاوز النصوص الشرعية الى غيرها
فلا يعمل بشيء من الظنون او الإستحسانات ونحو ذلك (إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي
مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (يونس:36).
فاذا تحققت هذه العناصر الثلاثة (قابلية الاجتهاد، اعتماد النصوص الشرعية،
العمل وفق القواعد والأصول المقننة شرعاً) كانت الاحكام الناتجة هي ما يطلب العمل
بها والهيكل العام للدين وهي تضمن الوصول الى معظم الاحكام الواقعية المعلومة عند
الله تعالى وهي كافية لحفظ دين الله تعالى فيها ويتحقق العذر عن الوصول الى الباقي
ولم يكلفنا الله تعالى اكثر من ذلك بل أمرنا ان نأخذ ديننا عن هذا الطريق وليس
علينا ان نصل الى الحكم الواقعي.
ومن هنا يعلم ان اختلاف الفقهاء هو اختلاف داخل اطار الدين وليس في الدين
نفسه، ورغم ان الاختلاف موجود في معظم المسائل الشرعية، الا ان صورة الدين
والمتديّن محفوظة ومعروفة للجميع فالمتدينون يشتركون جميعاً بأن الواحد منهم يؤمن
بالله ورسله والمعاد يوم القيامة ويصلي ويصوم ويحج البيت الحرام ويقرأ القرآن
ويساعد الفقراء ويحب الناس ويحترمهم ولا يزني ولا يشرب الخمر ولا يلوط ولا يكذب
ولا يظلم الآخرين وغيرها كثير من الأمور الثابتة رغم الاختلافات الواسعة بين
الفقهاء، فهذا هو الدين الثابت وهو محفوظ ولا تضرّ فيه اختلافات الفقهاء، ولتقريب
الفكرة أضرب مثالاً من علم الطب، فان الأطباء يختلفون في فهم الحالات المرضية
وأعراضها وتشخيص الامراض وعلاجها لكن علم الطب يبقى محفوظاً ويبقى يؤدي دوره المهم
في حفظ حياة الانسان ولا يجوز اقصاءه بحجة وجود الاختلافات بين الأطباء وعدم
معرفتنا بحقيقة الحالة المرضية، وكذلك الدين يبقى صالحاً لاداء دوره في إسعاد
الإنسان وكماله على مر الازمان ولا يضرّ فيه اختلاف الاجتهادات.
11- يوجد من الفقهاء من ينظر الى تنفيذ الحدود الشرعية المقررّة لبعض
الخطايا الكبيرة كالزنا واللواط والسرقة على انها صلاحيات بيد الفقيه فله ايقافها
او اسقاطها وقد دلّت بعض الروايات على ذلك، وليست هي احكاماً شرعية ثابتة، وبذلك
يستطيع الفقيه من مجاراة الأعراف والقوانين الإنسانية الجارية.
12- العلمانيون يتهمون المتدينين بفرض الرأي على الآخر وعدم فسح المجال
للمخالف للتعبير عن رأيه، لكنهم في الحقيقة هم من يمارس ذلك ويعملون بكل وسعهم
لإقصاء الدين من الحياة ولا يكترثون لرأي الأكثرية ولا يعبأون بالدستور الذي ينص
على عدم سن أي تشريع يخالف ثوابت الإسلام، ومن تجاربنا معهم ما حصل بالأمس القريب
عند تقديم مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري، وواضح من عنوانه انه يتعلق
بالاحوال الشخصية التي يحق لأي أحد ان يمارسها حسب ما يعتقد فله ان يورّث أمواله
ويتزوج ويوصي ويوقف حسب معتقده، والقانون الوضعي فيه مخالفات لأحكام المذهب
الشيعي، لذلك فان الشيعة يجرون أمورهم الشخصية خارج المحاكم على حسب الشريعة ثم
يسجلّونها لدى المحاكم فاردنا ان نقَّنن الحالة، ويعطى الشيعي حقه في ذلك كالطوائف
والأديان الأخرى، فيدرج مع مواد القانون المخالفة للشريعة الخيارات التي يعمل بها
الجعفري، فيوضع حكم (أ) و (ب) والمواطن الذي يراجع المحكمة يخيرّه القاضي بينهما،
أي ان مقترح القانون الجعفري لم يطالب بإلغاء القانون الوضعي الموجود، واذا وجد
اعتراض على بعض فقراته فيمكن ان تناقشها اللجان المختصة في البرلمان عند تقديم
المشروع لهم لاجراء التعديلات المناسبة.
لكن العلمانيين لم يكونوا منصفين ولم يحترموا الآخر ولم يقبلوا بان يتمتع
كل مواطن بحريته في أموره الشخصية فمارسوا عملية التسقيط والتشويه والرفض وادعّوا
أموراً غير موجودة كتزويج البنات القاصرات وهذا افتراء على القانون الذي يشترط في
عقد النكاح أن تكون الزوجة بالغة - أي غير قاصرة - ورشيدة ويشترط اذن ولي أمرها
وهو طبعاً لا يرضى بتزويج ابنته القاصرة، واذا اختلّ شيء من هذه الشروط فان القاضي
لا يصادق على صحة العقد، فهذا الافتراء الذي اثاروا به الصخب والضجيج، كان الهدف
منه منع تقديم القانون اصلاً، ونحن لم نُرد أزيد من حقنا اسوة بالآخرين وهم أضعف
من أن يمنعوه لو لا معارضة بعض الجهات المتنفذة لتمريره. والازدواجية واضحة في
سلوك العلمانيين فبينما هم يعترضون بقوة على الزواج المبكر الا انهم يشجعون الممارسات
الجنسية للطلبة والطالبات في مرحلة الابتدائية ويفرضون عليهم السباحة المختلطة ضمن
الدروس ولم يستجيبوا لاعتراضات العوائل المسلمة على ذلك، وللعلم فان قوانين عدد من
الولايات الأمريكية تبيح الزواج في سن 15 سنة بل 13 سنة.
13- الخمس فريضة مالية نصَّ عليها القرآن الكريم والاحاديث الشريفة،
والخلاف في موارد وجوبها وعدم اختصاصها بغنائم الحرب موجود بين الفقهاء والبحث
فيها معمّق محله الاروقة العلمية المتخصصة والموسوعات الفقهية الاستدلالية،
والمتدينون لا يقلدون مجتهداً الا بعد ان يحرّزوا فيه اعلى درجات النزاهه والورع
والتعفف عن بهارج الدنيا، والمكلف يرجع الى مرجع تقليده في أموره كلها وبعضها أهم
من دفع الأموال اليه فاثارة الشبهات حول مصير الحقوق الشرعية لا تثني دافعي الحقوق
الشرعية لانهم يرون بأنفسهم الجهات التي تصرف فيها كرعاية الحوزات العلمية الدينية
وطبع الكتب المثمرة وانشاء المؤسسات الخيرية والمشاريع النافعة ومساعدة المحتاجين
وتزويج الشباب المتعففين ونحو ذلك من الجهات الراجحة التي يفرح أي انسان محب للخير
بوضع أمواله فيها.
ويضاف الى ذلك ان هذا الاشكال لا موضوع له لانني أعطيت الاذن لمن عليه حقوق
مالية شرعية ان يوزعها مباشرة على المحتاجين ووجوه البر والإحسان اذا كان عارفاً
بمواضع صرفها و يستشير معتمدي المرجعية ولا حاجة الى تسليمها الى المرجعية
ويخفّفون بذلك علينا مؤونة البحث عن المحتاجين وايصال الأموال اليهم. والاموال
التي تصل الى المرجع ليست ملكاً شخصياً له فلا يحق لورثته التصرف فيها بعد وفاته،
وانما تصل له بعنوانه المرجعي فتنتقل بعده الى من يحل في موقعه، وعلى أبناء المرجع
التصرف بما تمليه عليهم الأمانة والورع.
[1] - تاريخ اللقاء 15 رمضان 1438 الموافق 10 / 6 / 2017 وعرض في برنامج (لقاء
خاص) يوم 19 / 6 / 2017.
https://vaivmoney.xyz/7081406396840/
https://vaivmoney.xyz/7081406396840/
[2] - دعائم الإسلام ج2 ص320 ح1207. وشرح نهج البلاغة: ج20 ص340 الرقم 893
0 تعليقات