آخر الأخبار

التعامل مع فيروس كورونا (٢)







التعامل مع فيروس كورونا (٢)
[دراسة فقهية]





أحمد مبلغي*



الخطوة الثانية: إعطاء الحيثية الفقهية للموضوع

نتحدث عن ذلك في محورين:

١ - المقصود من الحيثية الفقهية، وإعطاءها.


٢ - محاولة إعطاء هذه الحيثية الى موضوع فيروس كرونا.

المحور الأول: توضيح الحيثية الفقهية، وبيان المقصود من إعطاءها للموضوع:

في البداية أشير الى أن هذا الذي سأقدمه كتوضيح لها، يعطينا عنصرا منهجيا رائعا يمكننا استخدامه هنا (أي في المناقشة الفقهية لفيروس كورونا) كما يمكننا استخدامه في أي موضوع جديد آخر نريد أن ندخل في البحث الاستنباطي الفقهي عنه، وعليه فهو بحث عام مهم.

وهذا التوضيح يتم عبر نقاط:

▪ إن توفير الحيثية الفقهية ومنحها للموضوع، مرحلة تأتي بعد مرحلة اكتساب المعلومات التخصصية للموضوع، وقبل مرحلة استنباط حكمه، فهي مرحلة متوسطة بين المرحلتين، وعليه فان هذه المرحلة تلعب دور الجسر بين هاتين المرحلتين.


▪إن توفير هذه الحيثية يعني إعادة هيكلية الموضوع عبر إعطاء "قالب فقهي" إليه، كي يصبح به قابلا لأن يوضع على طاولة الاستنباط، وصالحا وخاضعا للدراسة الفقهية الاجتهادية. وببيان ثان هو يعني: إعادة صياغة المعلومات الواردة حول الموضوع في إطار موافق مع معايير وأدبيات الفقه"، وببيان ثالث، هو "غربلة المعلومات وتصنيفها في إطار يتوافق مع الأدبيات والمعايير الفقهية".



▪ تتم عملية غربلة معلومات الموضوع التخصصية على أساس المبادئ التي تعطينا "نظرية الموضوع من منظور الشريعة".



▪علينا أن نعترف بأن لدينا حالة من النقص في الاستنباط، وهي أنه ليس لدينا نظرية الموضوع من منظور الشريعة.


إذا كانت لدينا نظرية للموضوع، فسنتوصل في ضوءها إلى أصول تحكم الموضوع.


▪تكمن فائدة هذه الأصول في أنه عندما نتوصل إلى موضوع جديد، يمكننا غربلة معلومات الموضوع المتخصصة بناءً على تلك الأصول.



▪في الواقع ، هناك شيئان يجب القيام بهما:

 أولا: الحصول على معلومات متخصصة حول هذا الموضوع.

ثانيا: الرجوع إلى تلك الأصول التي تحكم غربلة هذه المعلومات.

▪نتيجة هذه الغربلة هي:

1. يتم تصنيف المعلومات المتخصصة ضمن تلك الأصول.


2. يتم الكشف عن مكانة الموضوع عند الشرع من خلال الحساسيات والمناطات والأدبيات الفقهية.


3. تطوير ومراجعة الأسئلة التي ينبغي توجيهها إلى الفقه حول الموضوع مما يجعل الموضوع قادرا وصالحا للوضع على طاولة الاستنباط وعرضه على مصادر الاستنباط.



المحور الثاني: إعطاء الحيثية الفقهية إلى موضوع فيروس كرونا:

إن عمليه هذا الإعطاء يمكن أن يتم عبر ذكر الأصول الحاكمة علي كيفيه التعامل مع الموضوعات المستجدة وتطبيقها على كورونا.


توضيح ذلك: انه - كما أشرنا في المحور الأول- يجب أن نأخذ في الاعتبار أصولا لعملية تصنيف المعلومات المتخصصة التي نتلقاها بشأن موضوع ما، وسر ذلك - كما مر- أنه إذا لم نتبع هذه الأصول، فقد يحدث وقوعنا في مشكلة اعتبار وتصور كون بعض هذه المعلومات (التي تلقيناها من أهل التخصص) غير مهمة، مع أنها في الواقع مهمة.


فدور التركيز على هذه الأصول، توفير الوعي اللازم للتعامل الدقيق مع المعلومات المتخصصة.


أما لماذا لا نوكل التركيز على هذه الأصول إلى حين عملية الاستنباط؟

فيجاب: صحيح أن هذه الأصول قد يتوجه ويتحرك نحوها انتباه الفقيه أثناء الاستنباط ، إلا أنه بشكل نوعي أو في جملة من الأحيان يتم نسيانها أو يتم تهميشها حين الاستنباط، لذلك يجب أن نتخذ هذه الخطوة (إعطاء القالب الفقهي الى الموضوع) بحزم، ويجب ألا نربط مصيره بموقف غير مضمون.، وهذا يتطلب أن نخصص لهذه الخطوة موقفا مستقلا.


وصفوة القول: يجب ألا نتسرع في الاستنباط دون التدقيق في الموضوع، ودون الاهتمام بالأصول التي تحكم المسألة.



وفيما يلي أتناول ثلاثة من هذه الأصول وتطبيقها على موضوع كورونا:

الأصل (١): التحقق من درجة اهتمام الشارع به:


الأصل يقول: يجب التحقق مما إذا كان الموضوع محلا للاهتمام الشديد للشارع،

والمقصود ضرورة التحقق مما إذا كانت على الموضوع علامة الخط الأحمر الديني، انطلاقا من هذا الأصل انه علي الفقيه من البداية (وقبل دخوله في الاستنباط)، أن يفكر وينظر حول هذا الموضوع - الذي يريد استنباط حكمه- هل هو داخل في الموضوعات التي وضع الدين عليها علامة الاهتمام الشديد (أو فقل: علامة الخط الأحمر الديني) أم لا؟


إذا كان الموضوع من هكذا موضوعات، فيجب عليه - أي: الفقيه- مراقبة عمليته الاستنباطية، والتحكم في هذه العملية وأجزاءها حتى لا يدخل في أجواء الخضوع لاتجاهات وتوجهات وتوجيهات، تجرّه الى تجاوز هذا الخط الأحمر (الذي يكون المفروض أن الدين وضع علامته عليه).


وخطر عدم التركيز على هذا الأصل وعدم الانطلاق منه، واضح، وهو وقوعه في مشكلة ان يعمل المستنبط على وفق سليقته وفكرته في إعطاء الأولوية حول الموضوع لمعايير أخرى.



▪ تطبيق هذا الأصل على موضوع كرونا:

وإذا أردنا تطبيق هذا الأصل على موضوع فيروس كورونا ، يجب أن نقول إن هذا الفيروس بما أن له التأثير السلبي الواسع والخطير على حياة الإنسان، فهو من الموضوعات ذات الأهمية الشديدة لدى الشارع.


والذي يزيد في الالتفات الى ذلك، انه ليس تأثيره السلبي هذا، على مجموعة من الناس فقط، بل على حياة مجموعات ضخمة ومتراكمة منهم، بحيث يجعل الكثير منهم يتعرضون للموت ويجعل آخرين منهم يعانون من الآلام، ومن جهة أخرى لا يتم هذا التأثير السلبي مرة واحدة بل يحصل بصورة متكررة ومتزايدة.


ولو ركّز فقيه مّا على هذا الواقع المرير والخطير في قضية فيروس كورونا، فإنه يضعه من البداية في دائرة الموضوعات المميزة بالخط الأحمر الديني، وبالتالي يراقب عمليته الاستنباطية بطريقة جادة وحساسة، حتى لا يُصدر فتاوى حول هذا الموضوع تسير بالناس الى الهلاكة والموت.

الأصل (٢): تَجنُّبِ المحاكاة:
الأصل يقول: معرفة الموضوع بموضوعية وتَجنُّبِ المحاكاة ضروري، وفقا لهذا الأصل يجب أن نتجنب محاكاة الموضوع المستجد ( الذي نريد استنباط حكمه) لموضوعات أخرى ، فمثل هذه المحاكاة - لو وقعت- تدفعنا نحو أن نصبح بعيدين عن واقع ذلك الموضوع. والابتعاد عن واقعه يتجسد في أن نغفل أو نتجاهل أو أن نهمل المعلومات الدقيقة للموضوع.


قد يظن البعض أن هذا الأصل ليس له أهمية كبيرة ، في حين يجب القول إن تجاهل هذا الأصل يعد فخًا كبيرًا في طريق استنباط أحكام الموضوعات المستجدة.

▪ تطبيق هذا الأصل على موضوع كرونا:
إذا أردنا تطبيق هذا الأصل على فيروس كورونا، يجب أن نتجنب محاكاة هذا الموضوع بالزكام والأنفلونزا، وحتى بفيروس السارس؛ ذلك أن هذا الفيروس يتميز بأنه يوسع نطاقه على نحو متزايد ، مثل العنكبوت الذي يصنع الخطوط باستمرار حول نفسه وينشئ شبكة. انها ليست مثل الانفلونزا.


بل كما اشرنا، ليس - حتى- صحيحاً اعتباره مشابها لفيروس السارس، حيث إن لكورونا خصائص تجعلها تنتشر بسرعة وبسعة، من اهمها انتقاله الصامت، فهو لذلك يمتد من مدينة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر.
من هذا المنطلق، إذا قام الفقيه بمحاكاة هذا الموضوع حتى بفيروس السارس، فإنه بذلك يغلق أمام نفسه أبواب معرفة واقع هذا المرض.



الأصل (٣): التحقّق من فردية أو اجتماعية الموضوع:

الأصل يقول: يجب التحقق كي نرى هل الموضوع من الموضوعات ذات الصبغة الفردية أو ذات الصبغة الاجتماعية؟

▪ تطبيق هذا الأصل على موضوع كورونا:

إن "إلقاء الفقيه النظرة الفردية على كورونا" يعني أن يتوجه في الاستنباط الى طرح مجموعة من الأسئلة تتمحور حول مسائل إصابة الشخص بهذا الفيروس، بغض النظر عن كون إصابته جزءً من ظاهرة العدوى الجماعية الضخمة.

إذا أردنا إعطاء مثال على هذا النوع من الأسئلة (التي تركز على الجانب الفردي)، فيمكننا تقديم المثال التالي:

ما هو حكم حضور الشخص في الاجتماع فيما لم يطمئن ان حضوره فيه، يعرضه للإصابة، أو لا يطمئن أن الفيروس يصبح نشطًا في جسده، أو لا يطمئن أن ينتهي به الى مشاكل؟

فالفقيه الذي لا ينظر إلى هذا المرض كظاهرة ذات طبيعة اجتماعية، إذا أراد الإجابة عن هذا السؤال (الذي يتمتع بصبغة فردية)، يقول: إنه لا حرمة في الحضور حسب الفرض (الذي ليس له الاطمئنان بوقوعه في الخطر ) أي: طالما لا يوجد له الاطمئنان بأن هناك خطرا يقع فيه، فإن حضوره ليس ممنوعًا.


ومثل هذا الجواب صحيح، في اطار هذه النظرة؛ حيث انه بطبيعة الحال، إذا تم إعطاء النظرة الفردية للموضوع ، فإن الإجابات الفقهية للأسئلة تتمحور حول قوة أو ضعف الاحتمال في كل من الافتراضات الثلاثة (التعرض للفيروس، وصيرورة الفيروس نشطا، وانتهاء الفيروس إلى مشكلة مّا)، فلو كان الاحتمال بالغا حد الاطمئنان، فيحكم بالحرمة....

ولكن إذا وصل الفقيه - وفقًا للمعلومات المتخصصة لموضوع كورونا - إلى أن هذا الموضوع اجتماعي، فإنه لا يعتمد حينئذ في الاستنباط على عنصر الاطمئنان بالشكل الذي صورناه وذكرناه، فلا يفتي بجوازه حضوره في الاجتماعات؛ لأن الشخص (حسب هذه النظرة الاجتماعية) حتى لو اطمئن أن الفيروس لا يصبح نشطًا في جسده أو أنه لا ينتهي به الى مشكلة لنفسه، يحرم حضوره في الاجتماعات؛ ذلك أن ظاهرة التفشي (التي يتسبب منه موت الكثير) ليست سوى ظاهرة اجتماعية معقدة، تحدث نتيجة لحضور مجموعة الأشخاص، فلم يعد الفقيه يصدر فتوى تسمح للناس بحضور الاجتماعات.



* * آية الله أحمد مبلغي مرجع إيراني

إرسال تعليق

0 تعليقات