آخر الأخبار

اليعقوبى وفقه الاعتزال









اليعقوبى وفقه الاعتزال


محمود جابر

كيف للفقير أن يكون زاهدا، وكيف للضعيف أن يكون عفوا عن المظالم، وكيف للمنعزل أن يصبر على أذى الناس، وان ينصحهم، ويؤدى حق معاشرتهم؟! ويعرف عيوب المجتمع ويعالجها، وقد روي عن رسول الله (ص) قوله: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على اذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على اذاهم) وقال (ص) لرجل أراد الجبل ليتعبد فيه: (لصبرُ أحدكم ساعة على ما يكره في بعض مواطن الإسلام خير من عبادته أربعين سنة).[1]



 من يراجع خطاب الشيخ اليعقوبى المعنون بـ "المعنى الصحيح للاعتزال" والذى افتتحه بقول الله تعالى  (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) 48: مريم .([2])




ثم يحاول أن يلتمس باقى المعانى فى خطاب آخر فى خطبته السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تحثنا على اللجوء الى الكهف المعنوي) بقوله تعالى {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا} 16: الكهف .([3])



وخاصة أن المناسبة الأخيرة جاءت فى ظل استمرار أحداث لا يستطيع أحد أن ينكرها أو يغفلها أو يغض الطرف عنها، او يقف منها صامتا ساكتا لا يأمر ولا ينهى أمام هذا الحدث، وهذا الحدث الذى سماه اليعقوبى بالانتفاضة المباركة التى انطلقت فى أكتوبر/ تشرين 2019.



فالحديث عن الاعتزال، وفقهه لا يستقيم إلا بمعرفة المقصد الكلى للكلام ذاته ....



فالإسلام دين الاجتماع والتواصل ومظاهر ذلك كثيرة كالحج وصلاة الجماعة والجمعة ومنها تشريع العيد ففي دعاء الإمام السجاد (ع) في وداع شهر رمضان عن يوم الفطر (الذي جعلته... لأهل ملتك مجمعاً ومحتشدا ) وفي الرواية عن الإمام الرضا (ع): (إنما جُعل يوم الفطر العيدَ ليكون للمسلمين مجتمعاً يجتمعون فيه ويبرزون لله عز وجل فيمجدونه على ما منَّ عليهم، فيكون يومَ عيدٍ ويوم اجتماع)([4])، وهو دين إعمار الحياة المثمرة وبناء الأمة الصالحة الوسط الشاهدة على الناس جميعاً.



إضافة إلى أن وظائف كثيرة لا يمكن القيام بها إلا بالتواصل مع الناس كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتكافل الاجتماعي وتعليم أحكام الدين.


وقد عن النبى (ص): (ليس فـي أمتــي رهبانية)([5]).



أمير المؤمنين (ع) يخاطب العلاء بن زياد الحارثي لما اعتزل الحياة وترهب: (يا عُدَيَّ – تصغير عدو- نفسه: أترى أن الله أحلّ لك الدنيا وهو يكره أن تأخذ منها؟).




وهناك درس مستفاد من السيد الشهيد الثاني (قده) هذه القصة ويبدو أنها حصلت له بعد معاناة اعتقاله عام 1974 قال: ((إنني يوماً فتحت القرآن الكريم لأجد فيه منزلتي أمام الله سبحانه أو قل – بالتعبير الدنيوي- (رأي) الله فيَّ، فخرجت هذه الآية من سورة الكهف: [وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً]، إن كل هذه الآية مفهومة لي بحسب حالي يومئذٍ إلا قصة (الكهف) الذي يكون من المطلوب أن آوي إليه، أي كهفٍ هذا؟ وذهبت إلى الحرم العلوي (على ساكنها السلام) عسى أن ينفتح لي هناك عن هذا المعنى، وبدأت بزيارة (أمين الله) حتى وصلت إلى قوله (ع): (اللهم فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك راضية بقضائك.. إلى قوله: يا كريم) وقد حصل لي في تلك اللحظة (حدس) قوي بأن الكهف الذي يجب أن أدخله هو هذا، أي أن تصبح نفسي على هذه الأوصاف وتجانب ما سواها، وقد عرضت ذلك على (مولاي) فأقرّه وقال بصحته))([6]).



وفي ضوء ما تقدم يندفع الإشكال وأن المعاشرة مع الآخرين أفضل من العزلة إذا كانت مثمرة ونافعة ويؤدي فيها الفرد وظائفه ولا تستدرجه المجاملات إلى الوقوع في المعاصي؛ لأن الاختلاط مع الآخرين يوفر فرصاً عظيمة للطاعة كقضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم وهدايتهم وإرشادهم و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك.




هذا الكلام يأتى فى ظل من اعتزال عن الأمر والمعروف والنهى عن المنكر فى وقت تحتاج العراق إلى كل يد وكل صوت وكل كلمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولم يقف هؤلاء عند حدود الإعتزال الشخصى، بل إنهم جعلوا مهمتهم فى الحياة أن يأمروا غيرهم باعتزال الانتفاضة والساحات والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وقول الحق فى موطن يتطلب قوله، الأغرب والانكت أن بعض هؤلاء ممن يقلدون سماحة الشيخ اليعقوبى، ويحاولون أن ينقلوا للناس أن هذا ما يأمر به مرجعهم!!



وبالعودة الى بقوله تعالى {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا} 16: الكهف... موضوع الخطبة الفاطمية ...



نجد اليعقوبى ينصح المحتشدين والسامعين بان يدخلوا الى كهف الله تعالى الحصين وولاية النبي وآله الأطهار (صلى الله عليهم اجمعين) والسير خلف العلماء العاملين المخلصين ونبذ الفرقة واتباع الأهواء ، طلبا للهداية وحل الأزمات وفك العقد وإصلاح ما فسد من الأمور خصوصاً ونحن نعيش في أعتى أزمنة الظلم والضلال والاستبداد والقهر والحرمان، وكيف ندفع هذا الظلم وهذا الفساد، وهذا الاستبداد ونحن منعزلين عن الناس وعن الحياة !!



إن اعتزال الفتية أصحاب الكهف كان اعتزال معنويا أكثر منه مادي، وهذا واضح من النتيجة التي توخّوها فإنهم لم يقولوا نلجأ إلى الكهف لنأمن على أنفسنا ونحفظ حياتنا من القتل - وان كان هذا حقا مشروعاً لهم -  وإنما قالوا: [فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً] فقدموا الهدف المعنوي وهو تحصيل الرحمة الإلهية الخاصة التي كانوا يطلبونها من الله تعالى ويصفونها في دعائهم باللدنية، ويسألونه تعالى أن يمنَّ بها عليهم [إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً] (الكهف : 10)، ثم إيجاد حل ينفعهم ويرفق بهم ويجعل لهم فرجاً ومخرجاً من المأزق الشديد الذي هم فيه، ويخلصّهم من الأعداء المتربصين بهم.



فالآية الكريمة التى ذكرها سماحته تعطينا درساً في الرجوع إلى الله تبارك وتعالى دائماً واللجوء الى كهفه الحصين في الأزمات والشدائد وعند اختلاط الأمور وانتشار الفتن ليشملهم برحمته الخاصة ويهيئ لهم من أمرهم رشداً، وتبيّن بأن الوسيلة إلى النجاة من بيئة النفاق والفساد والضلال والظلم والانحطاط هو باعتزالها معنوياً وتجنب التأثر بها، وليس من الضروري الانعزال  عنها والانزواء في البيت أو أي مكان آخر لوجود ضرورة لممارسة الحياة الطبيعية من حيث طلب الرزق وسدّ الاحتياجات المتنوعة والاهم من ذلك التفقه في الدين وممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الجاهل وإرشاد الضال والدعوة الى الله تتبارك وتعالى ورسوله (صلى الله عليه واله) وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) وكلها تقتضي الاختلاط بالناس والتعامل معهم، فالمهم إذن هو الاعتزال المعنوي للمفاسد، ومن أجل دفع المفاسد لابد من حضور وتغير وأمر ونهى وعمل وإلا فلن ينصلح حال الأمة إذا اعتزال الآمرون بالمعروف الحياة، لان الصر هو على الأذى ولا أذى بدون مخالطة، فالمخالطة بقصد الإصلاح هى ابلغ مصاديق المؤمن وإلا فلا إيمان، وقد قال الله تعالى (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ) العنكبوت .

وهذا درس كبير فى فقه الاعتزال







[1] - ميزان الحكمة: 6/19.

[2] - الخطبة الأولى التي ألقاها سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) لصلاة عيد الفطر السعيد يوم الجمعة عام 1434 الموافق 9/آب/2013 م.
[3] - الخطاب السنوي الفاطمي الذي القاه سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي يوم 4/ جمادي الثاني/ 1441 الموافق 29/1/2020 قبل الانطلاق بالتشييع الى حرم امير المؤمنين (عليه السلام)
[4] - من لا يحضره الفقيه: 1/522، ح 1485.
[5] - بحار الأنوار: 70/115 عن الخصال للصدوق: 1/138.
[6] - قناديل العارفين: 153.

إرسال تعليق

2 تعليقات