آخر الأخبار

عبادة القطب والجدل الفقهي (2)











علي الأصولي


أجاب الشيخ اليعقوبي على فرض السؤال السابق بما حاصله:


أن وقت الصوم محدّد بين الفجر والغروب فلا يجوز الإفطار قبل الحد المقرّر شرعاً أما ما قيل من رجوع الساكنين في البلدان ذات النهار الطويل إلى البلدان المتعارفة كالعراق فهذا غير صحيح لما قلناه في بحث (الصوم والصلاة في المنطقة القطبية) من (أن الرجوع إلى المتعارف إنما يصح في تفسير العناوين والمفاهيم المجملة كنفقة الزوجة أو إطعام الكفارة ونحو ذلك أما إذا كان العنوان محدداً ومعيناً وإنما تختلف الأفراد والمصاديق في انطباقه عليها فهنا يلتزم كل فرد بحدود العنوان المنطبق عليه، كحدود ما يغسل من الوجه في الوضوء وانه بين قصاص الشعر الى الذقن طولاً فقد يكون لشخص وجه طويل ولآخر قصير فهنا لا يرجعان إلى المتعارف وإنما يطبق كل منهما العنوان الجاري عليه بغضّ النظر عن الآخر).


وأضاف في الإجابة: والصوم من هذا القبيل لأنه محدد من الفجر إلى المغرب فيعمل أهل كل بلد بحدود الوقت عندهم.. نعم من كانت هذه المدة حرجية عليه فله أن يتناول من الماء أو الطعام ما يرفع الحرج به ويستمر في صومه ويقضي ذلك اليوم، أو يقطع مسافة السفر (22 كيلومتر ذهاباً وإياباً) ليفطر عن عذر، أو يتخذ التدابير اللازمة لإتمام الصوم كقضاء النهار بالراحة أو يذهب إلى بلد معتدل ويصوم فيه ونحو ذلك، انتهى.


ولم يختلف رأي الشيخ اليعقوبي عن نظيره الشيخ قاسم الطائي، بدعوى، ما دام الليل محدودا بالتفصيل، ووفق المواقيت المنضبطة مع تلك البلاد، فلا أثر للرجوع للبلدان القريبة، ومن لم يستطع الصوم لطول النهار فعليه القضاء ( بعد قطع المسافة للتخلص من الإفطار العمدي ) في أيام قصر النهار.

و للسيد السيستاني رأي غريب نوعا ما، سوف انقله بالمضمون، ومفاده: على فرض السؤال السابق، في الصلاة فالاحوط لزوما ملاحظة أقرب الأماكن التي بها لليل ونهار معتدل،


وأما في الصيام فيجب عليه الانتقال من هذه الأماكن حتى لا يقع في إشكال ترك الصوم ونحو ذلك،


وعلى ما يبدو لي بإنه لا يؤمن ( بالحيلة الشرعية ) التي حاول بعض الفقهاء التمترس خلفها لإمضاء جواز الإفطار،


ووجه الغرابة: ليس في موضوعة انتقال المكلف من موطنه ذلك مع ما فيه من مشقة وكونه ليس حلا عمليا بل ربما تقريبا بل تحقيقا يسبب مشاكل ونحو ذلك لا اقل من ناحية السكن والعمل والارتباطات وما أشبه ذلك،

وجه الغرابة ليس في ما ذكرته أعلاه بل يكمن في وجه التفريق ( و هذه الشبهة المفهومية ) بين الصلاة والصيام بالنظر إلى أقرب الأماكن !


على أن انطباق المحمول على الموضوع هو واحد على المفهوم من حيث الحكم بصرف النظر عن المصداق، والمفروض ما يقال عن الصلاة يقال عن الصوم بلا تفريق يذكر !

وحاول السيد محمد علي الطباطبائي الكاظمي، الاستفادة من خطوط العرض والطول في الجواب،


بلحاظ أن الكرة الأرضية لها خطوط طول وخطوط عرض، وخطوط طولها هو خط ( غرنتيتش ) المقدر ( ٣٦٠ ) درجة،


والكرة الأرضية تنتقل من الشرق إلى الغرب بين خط وأخر، أربع دقائق، فلو كانت الشمس في خط مدينة ما، على ذلك الخط فهذا يعني وسط النهار سواء تم مشاهدة الشمس أو لم تتم، وإذا انتقلت عن ذلك الخط ب (١٨٠) درجة فهذا يعني أن الأرض أيضا لها خطوط عرض، موازية لخط الاستواء والشمس تميل مرة في شمال خط العرض حيث أكثر أهل المعمورة في الصيف، وأخرى تقابل جنوبه هذه الخطوط العرضية، في الشتاء، وأكثر ميل الشمس شمالا وجنوبا، هو ( ٥،٢٣) درجة فلذلك نرى الدول التي تقع ما بين خط الاستواء إلى خمسين درجة توقيتهم طبيعي، وما زاد عن الخمسين من تلك البلدان إلى التسعين، حيث القطب الشمالي، يكون توقيتهم غير طبيعي، فيكون ليلهم قصيرا ونهارهم طويلا،


والعكس صحيح أيضا، وحتى في القطب الشمالي يطول الظلام شهورا والضياء شهورا اخرى، فهؤلاء يتبعون العلم الحديث، انتهى.

وكما تلاحظ اعتبر أن المسألة من الموضوعات الخارجية التي لا يحددها الفقيه بمفرده والمرجع في التحديد العلم الحديث،

وبعد استعراض أهم الآراء الفقهية حول المسألة، وترك آراء الآخرين لأنها بالمحصلة ترجع لنفس الآراء التي طرحت في البحث، لنقف قليلا على ما سطره السيد الصدر الثاني (رض).


وانقل وما يخدم المقام، إذ قال في كتابه ( ما وراء الفقه ) بعد كلام له: (إذ بعد كل الذي عرفناه يمكن أن نقسم حالات الفرد غالى عدة أقسام:


القسم الأول: ان يوجد الليل والنهار في القطب على شكل متميز، سواء كانا متساويين او غير متساويين. والمهم هو حصول الشروق والغروب فعلا.


عندئذ تكون الصلاة والصوم في القطبين كسائر بلاد الله اعتيادية. كل ما في الأمر إن الصلاة في النهار القصير تكون متتابعة نسبيا ويكون الصوم قصير المدة طبعا وهذا لا إشكال فيه.


القسم الثاني: عند وجود النهار الدائم أو الطويل في الصيف فحركة الشمس خلال كل يوم من الشرق الى الغرب (وان لم تدخل تحت الأفق)، تجعلها تعبر دائماً دائرة نصف النهار من الشرق الى الغرب. فيحصل الزوال بوضوح وتجب صلاتي الظهر والعصر.


ويكون أقصى وصولها الى جهة الغرب بمنزلة أول الليل، فتجب صلاتي المغرب والعشاء.


وبعدها بقليل تبدأ الشمس بالاتجاه المعاكس من الغرب الى الشرق، وهو بمنزلة الليل في البلدان الأخرى، إذ يكون النصف الشمالي للكرة الأرضية عندئذ في الليل.


ويبقى وقت صلاة المغرب وصلاة العشاء، نافذ المفعول لبعض الوقت خلال هذا (الليل). بل الى (نصف الليل) وهو الزوال المعاكس، عندما تعبر الشمس دائرة نصف النهار متجهة من الغرب الى الشرق.

وتجب صلاة الصبح بعد ما تنتهي الشمس من هذه الحركة، اعني من الغرب الى الشرق وتبدأ بالرجوع من الشرق الى الغرب. فان هذا بمنزلة الفجر في البلدان الأخرى من نصف الكرة المماثل وينبغي المبادرة للصلاة عندئذ لعدم انضباط ما يوازي وقت (طلوع الشمس) في البلدان الأخرى، وهو وقت انتهاء وقت الصلاة عادة.

وهذا الذي قلناه، وان كان لا يخلو من ( الجدل الفقهي)، فانه مخالف لظاهر الأدلة: إذا غربت الشمس فصل وإذا طلع الفجر فصل. الا ان جوابه: ان تنزيل حركة الشمس كما شرحناه منزلة الفجر والغروب مما لابد منه. وهو أقصى ما يستطيعه الناس هناك. وهو أيضا موازي مع حصول هذه الأوقات في النصف المماثل للكرة الأرضية، على خط الطول نفسه الذي يكون عليه الفرد.،


( ثم ختم ) بالقول:

ويطبق الفواصل بين مجموعات صلواته، او قل: يبدأ بتطبيق هذه الأربع وعشرين ساعة وتكرارها أياما من أيامنا (خارج الدائرة القطبية): يطبقها ابتداء من زمان وضوح حركة الشمس الى زمان خفاء حركتها، اعني كونها تبدو واقفة وسط السماء، ثم الى زمان وضوح حركتها من جديد. حينما يكون أكثر من نصف هذا النهار الطويل قد انصرم.

القسم الثامن: عندما يسيطر الليل شتاء، ولا يبدو في الأفق أي ضوء. يطبق المكلف ما قلناه في الصورة، انتهى.

ويمكن أن يقال: بضرورة العمل وفق انطباق العنوان، بدعوى عندما نزل القرآن الكريم وأمر بالصيام، فهو لم ينزل على عرب الجزيرة فحسب، بل لم ينزل على جماعة أو أمة دون أخرى ؛ وعندما أمر بالإمساك عن المفطرات فالشارع قد حدد الوقت وعينه ولم يجعله بيد العرف ولم يجعل القياس أو الاستحسان إليه سبيلا، بعبارة أخرى : الشارع لم يأمر بهذا الفعل ( الصوم ) بلا تخصيص وبلا تعيين حتى يصار الى الأمر على الطبيعة بعمومها بقول مطلق ؛ بل أمر هذا الفعل مع التدخل في التعيين والتحديد، غير أنه لم يلحظ طبيعة البلدان وطبيعة الأفراد ؛ مما يفهم منه كونه الأصل هو الفعل ؛ ومن هنا من ذهب إلى ملاحظة اقرب البلدان في مسألة الصيام فذهابه هذا زائد عن المؤونة ( ومن هنا قلنا هو راجع أما إلى الاستحسان أو الى القياس ) وكيفما اتفق نحن من نطالبهم لبيان الدليل على الزائد وإلا فالأصل هو كما ذكرنا أعلاه، علاوة على ذلك ؛ إن من ذهب إلى ضرورة الصيام مع ملاحظة توقيتات كربلاء مثلا غفل عن لازم فتياه هذه ؛ فهو قد وجه إشكالا على نفس القران الكريم وكون نصه بشريا لا سماويا ؛ يعني النص القرآني وغفلته عن المناطق القطبية في مسألة الصيام حسب هذا الفهم فهو يؤكد على جهل الشارع وعدم تغطيته لتلك المناطق والاهتمامات محصورة وفق هذا المنطق بجزيرة العرب أو لا اقل في المناطق المعتدلة ( الليل والنهار ) ولا اعرف هل يلتزم من أفتى بذلك بهذا اللازم الباطل !


والغريب عن ما بعض أهل العلم قد غفل عن هذا المشكل وتمسك ( اجتهادا أو تقليدا ) مع أصل الغفلة عن الإشكال المثار على النص كونه بشريا أو سماويا !


وعلى كل حال ؛ عندما يأمر الشارع بأمر ما ؛ فلا معنى لإهمال الانطباق العنواني عليه بصرف النظر عن مصاديقه وأفراده والذهاب نحو ( القياس أو الاستحسان ).

إذن نحن أمام جملة من الإجابات،

أما أن تقول بسقوط الصلاة والصوم في تلك المناطق، باعتبار أنها أنما تجب عند حصول أوقاتهما، فان لم تحصل لا تجب!

إلا أن هذا ممنوع شرعا، لان عدم تحصيل الأوقات لا يلزم منه السقوط، سقوط أصل الوجوب إذ أن وجوبها مأخوذ على نحو تعدد المطلوب وبعد سقوط شرط الوقت يبقى الوجوب الإجمالي،

وإما أن تتم الصلاة والصوم على البلدان الأقرب، المعتدلة بتنظيم الأوقات بتميزها،

ولكن هناك صعوبة في وصول أخبار تلك المناطق المعتدلة وزمن دخول وخروج الأوقات، وأن كانت هذه المشكلة تحل بالاتصالات الحديثة، إلا أنها تبقى مشكلة قائمة لا اقل والانشغال بها على طول خط الإقامة هناك ونحو ذلك،

وإما أن يقال، أن الصلاة تطبق وفق أوقات البلد الرئيسي للساكن هناك فإذا كان الفرد عراقي فيرجع لأوقات العراق وإذا كان الفرد باكستاني يرجع لباكستان وهكذا،

وهذا الفرض فيه جملة من الصعوبات على ما ذكر السيد الشهيد الصدر الثاني، منها صعوبة الاتصال اليومي، ومنها أن الأفراد قد يكونون مجتمعين هناك من بلدان مختلفة من العالم فتختلف وتشوش أوقات صلواتهم وصومهم إلى درجة مزعجة ملفتة للنظر، وليس المفروض في المجتمع المسلم الواحد حصول مثل ذلك التشويش.






إرسال تعليق

0 تعليقات