آخر الأخبار

العلماء المعارضين فى دولة ولاية الفقيه رضا الصدر نموذجا (2)












محمود جابر


فى الحلقة الماضية عرضنا سيرة آية الله السيد رضا الصدر، ودراسته، واجتهاده، ومؤلفاته، وجزء من جهاده ضد الشاه ومناصرة الثورة، وكذلك معارضته لسلوك السلطة وما ناله جراء تلك المعارضة ...

وهذه الحلقة ننقلها من كتابه السيد رضا نفسه ...

اعتقال رضا الصدر

بعدها يقول رضا الصدر: "في الصباح وصل سماحة السيد صادق خلخالي من طهران وجاء لزيارتي في البيت..

 سألتُه: هل تريدون أن نذهب معاً إلى بيت السيد شريعتمداري؟


 قَبِلَ ذلك فذهبنا سوياً بمعيَّته نحو المكان. حينما وصلنا عند بداية الزقاق المؤدّي إلى بيت السيّد (شريعتمداري) واجَهَنا شابٌ بدين وقصير القامة من الحرس الثوري... وقَطَعَ علينا الطريق!


أردتُ أن أرفع الحاجز من أمامنا قائلاً له: علينا أن نَمُرّ. فبدأت المشاجرة والنزاع بيني وبينه، وقد سبَّبَت مقاومتي وممانعته اجتماع الناس من حولنا، مما أثار مخاوف الحكومة، فتدخَّلَتْ قوى الأمن لتفرِّق المجتمعين.


أجتمع الناس مرة أخرى وكان يزداد عددهم شيئاً فشيئاً فيما رجال الأمن يسعون لتفريقهم.


في هذه الأثناء قلتُ لذلك الشاب (الذي كان قد اعترض طريق رضا الصدر): ما أروع عملك المقدَّس، أتريد أن تكون عاقبة أمرك خيراً (عند الله)!!


 فاحمرَّت وجنتاه وكانت تزداد احمرارا مع مرور الوقت.


 في النهاية جاءت الموافقة من مخفر القيادة (قيادة الحرس الثوري) التي كانت تقع في آخر الزقاق، فأزيل الحاجز ودخلتُ مع السيد الخلخالي إلى بيت أصحاب العزاء وواسيناهم.


لماذا منعونا من الذهاب؟! هل المشاركة في مصيبة المصابين حرام؟!".


هنا تقرَّر اعتقال الإمام رضا الصدر، إذ يتابع سرد ما حدث فيقول: "لم تكد تمضي لحظات على جلوسنا في المكان (أي في منزل شريعتمداري) حتى جاء السيد العباسي (أحد أقرباء الراحل) وأبلغني رسالةً شفهية.


 الرسالة كانت من الحرس (الثوري).


هل كان مُجْبَراً على إبلاغها؟!


وهل كان يجرؤ أصلاً على الامتناع عن إبلاغها؟!


 كان نص الرسالة كالتالي: عندما يخرج السيد (رضا) الصدر من المنزل (منزل شريعتمداري) فلنا شغلٌ معه!!


والمراد من الشغل كان واضحاً تماماً: كلُّ مَنْ يأكل البطيخ لا بد أن يتحمَّل تبعاته (وفق المثل الإيراني).


خرجتُ من المنزل (منزل شريعتمداري) وجلستُ على السلَّم.



 قلتُ لهم: قولوا ماذا تريدون؟!



قالوا: تفضَّل إلى ذلك المكان، وأشاروا إلى غرفة صغيرة كانت مقراً للقوى الأمنية المحاصِرة لمنزل السيد شريعتمداري.


 ذهبتُ إلى هناك وجلستُ وقلت: ماذا تريدون مني؟!


 قالوا: رئيسُنا يريد أن يلتقي بك.


قلت: عليه أن يأتي إلى هنا ويقول ما يشاء.


 قالوا: لا يمكن ذلك، وعليك أن تذهب إليه.



قلت: لن أذهب! 


فإذا كان الغرضُ اللقاءَ أو الزيارةَ فليأتِ إلى هنا، أما إن كنتم تريدون اعتقالي فذلك شيءٌ آخر.


 قالوا: نعم هو كذلك.

وهنا تكلَّمَ شابٌ ضخمٌ وبدين وجسيم من الحرس الثوري بكلامٍ قبيح وتغالظ عليَّ فلم أُجِبْهُ.


أتوا بسيارة "بيكان" وأجلسوني على الكرسي الخلفي فيما جلس جنديٌ أمامي وآخر بجانبي، وأما السائق فكان رئيسهما إذ كانا تحت إمرته...


عَبَرَ البيكان الأسود من شارع "إرم" ووصل إلى شارع "الساحلي".


 الشارع (أي شارع الساحلي) كان سابقاً يحمل إسم والدي (آية الله صدر الدين الصدر) ولكنهم بعد الثورة محوا اسمه وأبدلوه بإسمٍ آخر.


 عندما عبرنا من على جسر النهر قال لي السائق: اخلع عمامتك.



 قلت: لا يمكن ذلك وأنا لن أخلعها، وإذا أحببتم فارفعوها أنتم (عن رأسه). في الحقيقة، إنهم كانوا يخافون أن يراهم الناس يقتادونني، أما أنا فلم أخف من أحد. عصياني ولَّد غيظاً في نفس الآمر (السائق)، ولكنه لم يُظْهِرْهُ.



وبعد فترةٍ من الزمن قال لي من جديد: أنحن إلى الأمام، ولكني لم أمتثل لأمره.


 إنَّ هؤلاء الذين يقولون: نحن في قلب الشعب، لماذا يخجلون من ركوبي في سيارتهم؟!


 هؤلاء هم أنفسهم الذين استقبلهم الشعبُ قبل أعوام وكانوا في قلوب الناس، وأما اليوم فإنهم يخافون من الناس!".


ثم يتابع الإمام رضا الصدر قائلاً: "وصلت سيارة البيكان إلى أمام محطة القطار وإلى المكان الذي كان سافاك الآريا مهري (سافاك الشاه) مستقِراً فيه واليوم صار مقراً لسافاك ولاية الفقيه، وما أَقْدَسَ هذا المكان!!...


أنزلوني (من السيارة) وركض رجلٌ وأغمض عينيَّ بمئزر الحمّام! كأنهم لا يحبّون الأعين الناظرة ومطلبُهم هو العمى...


ثم أخذ السائق بيدي وسحبني كالأعمى إلى المكان الذي يريده.



 بعد قليل من المشي قال: ههنا كرسي، إجلسْ.


حسب الظاهر كان يريد أن يطبِّق أحكام الإسلام!!


 في الفضاء الطلق وتحت المطر جلستُ على الكرسي. 



كان الجو بارداً ورطباً رغم أنه لم يمضِ على تخلُّصي من مرض الربو سوى فترة قصيرة حيث كنتُ قد بَرِئْتُ من هذا المرض للتو.


 شعرتُ بالبرودة وكنتُ أُبصر خطر الزكام رغم أنهم قد وضعوا الرباط على عينيّ.



مع ذلك لم أقل لهم شيئاً.


 إنهم أغلقوا عينيَّ وأنا أغلقتُ لساني.


 لم أرَ أحداً حتى أتكلَّم معه.


لعلَّني كنتُ مستحقاً لهذا التعذيب لأنني شاركتُ في مأتم العظماء وعزَّيتُهم وأخمدتُ ثورةً على ثورة وحِلْتُ دون وقوع نزاع (بين ذوي شريعتمداري وأنصاره وبين نظام الخميني)".



يتابع الصدر: "بعد مضي فترة من الزمن أتى السائق مرة أخرى وأخذ بيدي وقال: تفضَّلوا.


على حالة العمى كنتُ أخطو خطواتي نحو جهةٍ ما إلى أن وصلنا إلى مكان.


 قال (السائق): هنا سُلَّم.


 فوضعتُ قدمي عليه، وما أن وضعتُ قدمي على الدرجة الثانية حتى دخلت إلى غرفة.


 قال (السائق): هنا كرسي فاجلسوا عليه.


جلستُ..

كان الحارس في الغرفة فرفع المئزر من على عينَي وأغلقهما مرة أخرى بعصبة سوداء. لم أعرف السبب لترجيحهم العصبة على مئزر الحمّام!



هذه المرة الثانية التي كانوا يغلقون عينَي ويأخذون بصري منّي. لعلهم كانوا يريدون أن أكون مثلهم ويحرموني من نعمة البصيرة!



 لكن من المستحيل أن يأخذوا منّي بصيرتي. أو لعلهم لم يريدوا أن أعرفهم لأنهم يخافون أن يُعْرَفوا. لماذا؟!


مع أنَّ الإنسان مجبولٌ على حبّ إظهار النفس وتعريف الذات، ولهذا السبب تراه يستخدم شتى الوسائل الفردية والاجتماعية لإرضاء هذه الرغبة.

 إذاً، فَلِمَ لا يريدون أن يُعْرَفوا؟!

 لم يصدُر من بصري أيُّ ذنبٍ حتى يُغلقوه!

وأنا الذي حبسوني أيضاً كنتُ بريئاً.. بعينَيَّ المعصَّبتين كنتُ أُبصر البعيد، كنتُ أشاهد المستقبل. ولكن هل كان لديهم هذه القدرة؟!



 مع أنهم يملكون أنواع وصنوف القدرات، فلو كان لديهم كمّاً من هذه القدرة لما وقعوا في هذه المشاكل والمعضلات. هل يزعمون أنَّ "العنف" يحلّ كلَّ مشكلة ومعضلة؟!


يا لها من خطيئة فادحة.


العنف لا يحلّ المشاكل. رفعتُ العصبةَ بيدي قليلاً لأنَّ اليدَ تهدي العميان.. رأيتُ قدمين واقفتين عند الباب. لعلَّهما كانتا للشخص نفسه الذي أغلق بيده عينَيّ. بِمَ كان يفكِّر، وبِمَ كنتُ أنا أفكِّر؟! كان واقفاً وأنا كنتُ جالساً. كان مأموراً ويرى نفسَه معذوراً، ولعله كان يفكِّر في أنه يخدم الإسلام! ولكن ماذا أنا جنيتُ على الإسلام؟!

كان مأموراً معذوراً وكنتُ أنا مسجوناً غير معذور. أتى إلى هناك بالرضا والرغبة ولكن أتوا بي من دون رضى ولا رغبة. هل هنا اجتمع النقيضان؟! لأنهم جلبوا الرضا من دون رضى!

مَنْ منّا سيربح في هذه المنافسة؟!

هل هو أم أنا أم الذي كان يأمره؟!"


ثم يقول الإمام رضا الصدر: "مضت لحظات وأنا معصوب العينين. وإن كانت العينان مغلقتين ولكنَّ عين القلب مبصرة. الباري جلَّ وعلا كان يراني.. الباري جلَّ وعلا كان يرى ماذا فعلوا بإسم دينه وماذا يفعلون. ذاتُهُ المقدَّسة غير محدودة وصبرُهُ أيضاً غير محدود. مضت فترة من الزمن إلى أن دخل السائق إلى الغرفة وأخذ بيدي وأخرجني منها وأوصلني إلى غرفة أخرى وقال: الآن تستطيعون أن ترفعوا العصبة من على عينيكم...



 رحتُ أتفقَّد الغرفة. في الجهة اليمنى نظرتُ إلى الأرض فوجدتُ قطراتٍ من الدم، وربما كان لوناً... في الجهة اليسرى كان على الجدار صورة باهنر (رئيس الحكومة الذي قُتل عام 1981) والسيد الخميني. مرةً أخرى شعرتُ بالبرد..


 رفعتُ البطانية البولندية التي كانت على المنضدة وتغطَّيتُ بها وجلستُ على الأرض.. بقيتُ ساعةً بتلك الحالة، ثم رفعتُ القرآن الكريم.

في البداية قرأتُ سورة يوسف وبعثتُ ثوابَ قراءتها إلى نبيّ الله يوسف..


هذا النبي العظيم أيضاً سُجِنَ مثلي وذاق طعم الحبس.


الفرق الوحيد هو أنه – عليه السلام – سُجِنَ في سجن الكافر وأنا سُجنتُ في سجن المسلم!..


 ثم قرأتُ سورة الإسراء.. وبعثتُ ثواب قراءتها إلى الإمام موسى بن جعفر الكاظم (الإمام السابع عند الشيعة الإثني عشرية).. لأنه (أي موسى الكاظم) ذاق طعم السجن.. إذ أنهم سجنوه بإسم الإسلام. ذلك الإنسان العظيم (أي موسى الكاظم) سُجِنَ في سجن الخلافة (العباسية) وأنا سُجنتُ في سجن ولاية الفقيه!".


وللحديث بقية ....





إرسال تعليق

0 تعليقات