محمد كاظم خضير
كاتب ومحلل سياسي
عقب كل تكليف رئيس الوزراء في العراق ، تَظهر العوارض المرضية لداء النظام
العراقي ، وتتجلى هذه العوارض بـ"غيبوبة" تشمل كافة مؤسسات الدولة،
وخصوصاً على مستوى السلطتين التنفيذية والتشريعية، فالسلطة التنفيذية تدخل في
مراحل التكليف والتأليف وصولاً إلى صياغة البيان الوزاري، حيث يتوقف الزمن، ويُصبح
الرئيس المكلف رهينة بين مِطرقة التعقيدات الدولية والإقليمية، وسِندان الصلاحيات
والأعراف الدستورية والمحاصصات الطائفية والسياسية المختلفة التي تُحاول أن تتناتش
"جنَّات" الوزارات الموعودة من وزارات "سيادية" وأخرى "خدماتية"…
في بلد يرزح مواطنوه في "جهنَّمَ" واقع اجتماعي واقتصادي يكاد يلتهم
بنيرانه "السفينة" ومن فيها. هذا الأمر ينعكس أيضاً على السلطة
التشريعية التي يطالها الشلل، فهي تربط نفسها بواقع النصوص القانونية التي ترى
بعدم وجوب التشريع في ظل غياب السلطة التنفيذية.
وبين هذه السلطة وتلك، يعيش المواطن زمناً طويلاً من الانتظار، كون الدستور
والقوانين تُلزم الرئيس المكلف بوقت محدد في تشكيل حكومته ، إضافة إلى هدر الوقت
في زمن أصبح فيه الجزء من الثانية لا يُقدَّر بثمن، ناهيك عن استنزاف الخزينة
العامة بمبالغ طائلة يتقاضاها النواب والوزراء "العاطلون عن العمل" بملايين
الدولارات.
وتَنافُس القوى السياسية على الحصص والحقائب الوزرارية، يُذكرنا بسلوك
القبائل العربية قبل الإسلام، التي كانت تتنازع على الماء والغذاء لضمان بقائها
واستمراريتها، فتُغير إحداها على الأخرى الأضعف منها بهدف سلبها، والاستحواذ على "الغنائم"
دون شفقة أو رحمة، والغنائم في واقعنا هنا وإن اختلفت التسمية هي جنّة الوزارات "السيادية"
المتمثلة بوزارات: الخارجية ـ الدفاع ـ الداخلية ـ المالية، ومن ثمَّ تأتي بعدها
بالأهمية الوزارات "الخدماتية" كالأشغال والتربية… تثير هذه الوزارات
شهيَّة "العشائر " السياسية وأمراء العشائر ، لأنَّ الاستيلاء عليها
يعني بقاءها واستمراريتها، وهي لا تعير أهمية كبرى لـ"فُتات" الوزارات
الأخرى كونها "لا تُسمن ولا تُغني من جوع"، فوزارات كالبيئة والسياحة
والرياضة والشباب والثقافة والشؤون الاجتماعية… ليست بالأهمية نفسها، بل هي عبارة
عن "كمالة عدد". لقد غاب عن بال زعماء "العشائر " بأنَّ تلك
الوزارات تُعتبر من أهم الوزارات في الدول المتقدمة، بل هي الأساس في التنمية "البشرية"،
لأنّها تتوجه إلى الانسان باعتباره الثروة الحقيقية للدولة – الأمة "الجامعة"،
وبها تتعزز الهُويَّة الوطنية.
فعلى المستوى البنية التحتية تُجابهنا أمُّ الأزمات التي تؤرقنا حالياً،
وهي أزمة الخدمات التي فضحتنا وجعلتنا مثالاً للبلد الفاشل.
وعلى المستوى السياحي، نرى بأنَّ معظم دول العالم بدأت تعتمد على قطاع
السياحة والخدمات كرافعة لاقتصادها، حيث استثمرت في هذا القطاع من خلال شقّ
الطرقات، وتطوير المواصلات، وتعزيز القضاء، والمحافظة على الأمن، وتوطيد النظام،
والشراكة مع القطاع الخاص… أمَّا نحن فقد تعلمنا، وما زلنا نُعلم أبنائنا، كما ورد
في كتاب الجغرافيا، بأنَّ العراق هو "همزة الوصل بين الشرق والغرب" وبأنّه
يتميز بـ"طقس معتدل" ، وبغناه بالأنهر والينابيع، وبأنَّه خزَّان مياه "الشرق
الأوسط"، وأنَّ السياحة هي قوام اقتصاده". ولكن لا شك بأنَّ من يقرأ هذا
الكلام ينتابه شعور بالغضب والسخرية في آن، إذ أنَّ أمراء "القبائل" ،استولوا
على مناطق السياحية وبنوا "مستعمراتهم" كمنتجعات سياحية وتركوا "المواطن"
يسبح في بحر قاتم ملوث بمياه المجارير التي ترسو على ضفافه، وهذا ما ينطبق أيضاً
على جميع الأنهر الملوثة التي تروي ما نأكله ونشربه… فأين نحن اليوم ومن "همزة
الوصل بين الشرق والغرب"! كلها أوهام في ظل العقلية القَبَلِيَّة الرجعية.
أمّا على مستوى الشباب والرياضة، فقد قامت العديد من الدول باستثمار طاقات
شبابها، فهي تقوم بتشجيع الأندية الاجتماعية والرياضية التي تحتضن الشباب وترعى
النُخب وتحافظ على المبدعين، كما تشجع على بناء الملاعب وتساهم في صيانتها، لأنها
أدركت بأنَّ الرياضة أصبحت تقوم عليها اقتصاديات دول كبرى، في حين أضحت ملاعبنا
الرياضية، بسبب الاهمال، مهجورة كأنَّها مسكونة بالأشباح. وعلى الرغم من كل ذلك،
فقد استطاع عدد من الرياضيين في العراقيين الوصول إلى العالمية بجهد فردي خاص
وبتصميم وإرادة ذاتية، في ظل تدخل خجول للدولة لأن الوزارة "غير سيادية"،
مع أنها تصنع لنا السعادة.
لن نطيل في ضرب الأمثلة التي لا تعد ولا تحصى عن تجارب بلدان متقدمة وأخرى
في طور النمو كان العراق رائداً وسباقاً عليها…
إنَّه لأمر محزن حقاً أن تصل الأمور في هذا البلد لما آلت إليه اليوم، في
بلد "الانتظار من دون طائل"، في بلد طارد لكفاءاته، نابذ لشبابه،
ومتبرىء من كهوله، و"نافض يديه" من متقاعديه كونهم "غير منتجين".
وفي ظل هذا "الانتظار القاتل" تستمر أزمات الدولة جلية بحياديتها
القاتلة :
ـ فهي تقف على حياد قاتل بين أساتذة يطالبون بإنصافهم في زيادة الرواتب "السم"
الذي اخترعته، وبين ذوي الطلاب وإدارات المدارس.
ـ حياد قاتل بين مافيات المولدات الكهربائية، ومواطنيها، وكأن لا شأن لها
بتأمين هذه الخدمة أو حلها حلاً "جذرياً".
ـ حياد قاتل بتركيب النصوص القانونية المجحفة التي نهبت حقوق أبنائها
المتقاعدين وتركتهم لقدرهم.
ـ حياد قاتل في انهيار المؤسسات والمصانع والمتاجر.
ـ
ـ حياد قاتل حول غلاء الدواء ومخالفات اللوحات العمومية وادخال مئات آلاف
الدراجات النارية واستعمالها من دون حسيب ولا رقيب، ودون أدنى معايير السلامة
العامة والالتزام بقانون السير الجديد "القديم".
وبعد هذه القراءة، هناك من يسأل ويقول: هل نحن إذاً أمام أزمة حكم.. أو
بالأحرى أزمة نظام؟! لا ندري ما هو الجواب، خصوصاً أنَّ دستور 2005 لم يُطبَّق
بالشكل الصحيح لغاية تاريخه، ولكنَّ الإجابة الأكيدة هي أنَّنا أمام أزمة هويَّة
وانتماء، أزمة شباب ضائع فقد الأمل بوطنه، لأنّه رأى كيف أمضى آباؤه وأجداده
حياتهم بالانتظار، انتظار "اللاشيء"، لذلك فهم لا ولن يألو جهداً عن
الخروج منه تحت وطأة الضغوط العسائرية الطائفية – السياسية المتصارعة، فهم يحلمون
بموجة كبيرة تأخذهم كسندباد من أرض البؤس والشقاء لتقذفهم على شاطىء بلاد الأمل،
بلاد تقدّر الوقت وتعظّم شأن العلم والمعرفة، وتعرف قيمة الشباب، حيث وزارات "الأحلام"
و"الانسان" تنتظرهم لتتلقف طاقاتهم وابداعاتهم.
0 تعليقات