بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
ما كان أحدٌ منا أو من أسلافنا السابقين لنا، عرباً كانوا أو فلسطينيين،
مسلمين أو مسيحيين، من الذين عاصروا النكبة وشهدوا النكسة، وعاشوا مرارة الهزيمة
وغصة الانكسار، عندما ضاعت فلسطين وفقدت، وهوِّدت أرضها ودُنِّست، وأعلنت الحركة
الصهيونية فيها تأسيس كيانها وبناء دولتها المزعومة "إسرائيل"، بعد أن
طردت سكانها وهجرتهم، واحتلت ديارهم واغتصبت بيوتهم، وصادرت أرضهم وممتلكاتهم
واستولت على حقوقهم، فبادرت بجريمتها النكراء العرب والمسلمين جميعاً بالعداء، ثم
اعتدت بعد فلسطين على أرضهم، وانتهكت سيادتهم، واحتلت أجزاءً من أرضهم، وقتلت
جنودهم وخربت بلادهم، وقوضت بنيانهم، وما زالت تمارس عدوانها عليهم، وتوجه سهامها
إليهم، ولا تنفك تعتدي عليهم.
غدت الدولة العبرية بجريمتها النكراء وأهدافها العدوانية العدو الأول للأمة
العربية والإسلامية، فلا عدو يشبهها ولا خصم يسبقها، ولا اعتراف بها أو تسليم لها،
ولا سلام معها أو أمن لها، ولا أولية تتقدم عليها أو مسألة تشغل الأمة عنها، فقد
اتحد العرب والمسلمون جميعاً ضدها، واتفقوا على مواجهتها، واستعدوا لقتالها،
وهيأوا الأسباب للنيل منها ومقاومتها، حتى أصبح الفدائيون فخر العرب وزينة شبان
الأمة، ومحط تنافس أبنائها وتميز رجالها، والمجال الأرحب للتعبير عن إرادتها
وتصوير حقيقتها، حيث كانت المقاومة شرفاً والقتال مفخرةً، والشهادة في سوح
المقاومة وميادين الجهاد فوزاً، وكان اليقين بالنصر كبيراً والأمل في العودة
والتحرير عظيماً، وكانت المقاومة قويةً برجالها، عزيزةً بمبادئها، ثابتةً بحقها،
يتشرف كل من يتعاون معها أو يرتبط بها، وتزهو نفس وتسمو روح كل من دعمها وساندها،
وأيدها ووقف معها.
ما كان أحدٌ من كل هؤلاءِ وغيرهم يتوقع أن يأتي يومٌ فيه تهرول حكوماتهم
وتركع قياداتهم، ويخنع بعض مواطنيهم، ويضعف قريقٌ منهم، ويسلمون الراية عن قصدٍ
وعمدٍ للكيان الذي قاتلهم واعتدى عليهم، ويقبلون به جاراً وصديقاً، وحليفاً
وشريكاً، يتفقون معه ويتعاونون وإياه، ويشطبون ماضيه ويغفرون له ما مضى، ويبرؤون
صفحته ويسطرون معه صفحاتٍ أخرى تناقض حقيقته، وتخالف طبيعته، إذ لم يعد في منظورهم
هو العدو أو الخصم، بل هو الجار الأهم والشريك الأفضل، والحليف الأقوى، والمغيث
الأقرب، والمعين الأصدق.
فضلاً عن أنه الأكثر تطوراً والأفضل تكنولوجياً والأقوى سلاحاً، وهو يمتلك
مفاتيح المنطقة وبوابات الاستقرار فيها، وعنده مكامن القرار وأسرار البلاد، وتربطه
بدول العالم الكبرى وفي المقدمة منها الولايات المتحدة الأمريكية علاقات تحالفٍ
استراتيجي لا تنفك عراها، ولا تنقض بنودها، ولا تنقلب شروطها، ولا تضعف أطرافه
وتنهار أركانه.
نسيت بعض الأنظمة العربية والإسلامية عدائها للكيان الصهيوني الغاصب، ولم
تعد تعترف به عدواً يتآمر عليها ويهدد أمنها، ويستهدف شعوبها ويعرض مستقبلها
للخطر، وانقلبت على نفسها وارتدت على أدبارها، وخانت دينها وتنكبت لقيمها، وغيرت
مفاهيمها، واستبدلت عدوها السافر اللعين بمن يقف في وجهه ويتصدى له، ويقاومه
ويقاتله من أجل استعادة حقوقه وتحرير بلاده، وشرعت تطبع علاقتها معه وتتقرب منه
وتلجأ إليه وتتحالف معه، وتنسق معه وتطلب العون منه، في الوقت الذي أخذت فيه تضيق
على المقاومين الثابتين على الحق، والصامدين على الدرب، المضحين بحياتهم ومستقبلهم
من أجل أمتهم، وفي سبيل دينهم ورفعة شعوبهم واستقلال بلادهم.
لست أدري كيف باتت هذه البلاد العربية، الناطقة بضادها والمؤمنة بكتاب
ربها، والمسلمة لله في دينها، تصنف المقاومة إرهاباً، وتصف تنظيماتها بالمجرمة،
وتنعتها بالضالة، وتضيق على أبنائها وتعتقلهم، وتعذبهم وتحاكمهم، وتجردهم من
حقوقهم وتطردهم، إرضاءً لعدوٍ لم يشبع من دمائهم، ولم يؤمن حدودهم ويحترم سيادتهم،
وما زال يتآمر عليهم وينقلب ضدهم، ويتربص بهم الدوائر، ولن يرض عنهم مهما عملوا له،
إلا أنه سيمضي في استخذائهم، وسيواصل استعمالهم، وسيعمل على استعبادهم لخدمة
مشاريعه وتنفيذ أهدافه والوصول إلى غاياته، فهلا استفاقوا من غفلتهم، ونهضوا من
كبوتهم، واستعادوا رشدهم وعقلهم، وعادوا إلى نهج ربهم وهدي نبيهم، فليس أشد عداوةً
على هذه الأمة من بني إسرائيل.
العدو الإسرائيلي فرحٌ اليوم ومزهوٌ بما حقق وأنجز، فقد نال أكثر مما تمنى،
وحصل على أكثر مما كان يظن ويتوقع، فهذه البلاد التي كانت عمقاً للمقاومة ودرءاً
لها، وسنداً يحميها وملجأً يحفظها، وكانت مع الشعب الفلسطيني تمده بالمال وتشتري
له السلاح، وتدافع عنه في منظمة الأمم وتفرض وجوده في المؤسسات، ها هي اليوم تتخلى
عنه وتنقلب عليه، وتتنكر لحقوقه ولا تعترف بها، وتطالبه بالتنازل عنها والكف عن
المطالبة بها، بل تمارس الضغط عليه وتهدده كي ينسى ويخضع، ويقبل ويخنع، وإلا فإنها
ستمارس ضد المزيد من العقاب والحصار، حتى يجوع ويعرى، أو يقبل بالفتات فيشبع
ويغنى، وترضى عنه الحكومات وتغدق عليه بالنعم والمكرمات، لا حباً فيه أو حرصاً
عليه، بل قربى لعدوه ليأمن ويطمئن، فلا يخاف من مقاومةٍ تقض مضاجعه، ولا من
صواريخها ترعب مستوطنيه وتسرق النوم من عيونهم.
لأن المقاومة شرف ولأنها نبلٌ وشهامةٌ، وقيمٌ وأخلاقٌ وطهارة، وثقافةٌ
ودينٌ وعبادة، فإنها لن تضل الطريق، ولن تحيد عن الدرب، ولن تخطئ الهدف، ولن تصاب
بعمى القلب والبصيرة، وسيبقى مقاوموا الأمة جميعاً ينظرون إلى أن الكيان الصهيوني
هو عدوهم، وهو هدف نضالهم الذي تتجه صوبه بنادقهم، وتنطلق إلى نحره صواريخهم، إلى
أن يأتي اليوم الأغر الذي فيه يندحرون ويتفكك كيانهم ويزول ملكهم، ويعود
الفلسطينيون إلى أرضهم ووطنهم، ويرفعون في العلياء رايتهم، ويرفف فوق السواري
والتلال علم بلادهم.
0 تعليقات