آخر الأخبار

ايران وكورونا









د . الهذيلي منصر

تونس.


من يتابع التطوّرات يفهم أنّ الإيرانيين مستفيدون أن لم يثبت أنّهم أبرز المستفيدين. منذ أشهر قليلة كانت الخطط أن يصفّر نفط إيران. الآن كلّ نفط العالم يصفّر ولم يخطّط الإيرانيون لذلك. لا. تداعيات ومآلات بالجملة قادت إلى وضعية أقلّ ما يقال عنها أنّها سريالية. قد يقول غيري غيبية ولكنّني لا أفهم الغيب فهما يجعل منه ذلك البعيد الغامض والموصد. الغيبي تسلسل حتميات لا نعلم عنها. هذا كلّ الأمر. هو وضع سريالي لأنّه خلاف ما توقّعناه من واقع كلّيا وتماما.


الرأسمال الأجنبي المستثمر في إيران قليل، الإيرانيون ينتجون الطعام والدواء وهم في ذلك مكتفون وينتجون سلاحهم ومحّصتهم العقود الماضية ورصّت بنيانهم وتنتشر بينهم معنويّات عالية وحسّ وطني قياسي. أرى مجتمع الإيرانيين واحدا من تلك المجتمعات القليلة النّادرة القادرة على امتصاص الأزمات والاستئناف بوقت قياسي. وجّه الخميني الإيرانيين منذ 79 نحو مواقف استقلالية حدّية بين مادّية ومعنويّة وحفّزهم لتحدّي الغربيين وبناء منظومات بعيدا عن تدخّلهم وتأثيرهم. نظر الجميع خارج إيران إلى هذا التّوجيه وحكم بأنّه توجيه حالم مغامر مقامر سيجرّ كلّ الويلات ويدمّر إيران والإيرانيين.




راهن الخميني رهان موقنين على غروب الغرب وقوّته وعلى حتميّة بروز ايران كقوّة فاعلة في المنطقة والعالم. راهن تخصيصا على العوامل المعنويّة وهي لا تُختزل في المكوّن الديني وتتجاوزه إلى تبشير بالإنسان الكريم الحرّ القويّ باتّكاله على ربّه وبمقارعته الظلم مهما كان الظالم قويّا مدجّجا. واقعا والآن يبدو مجتمع الإيرانيين أقدر على الثبات والتماسك من أقوى المجتمعات الغربية بل أنّ الحديث عن ولايات أمريكية مفكّكة بعد متّحدةً ما عاد حديثا غريبا ولن يتفكّك مجتمع الإيرانيين. ما يعنيني في تجربة الإيرانيين تثبيتهم لحقيقة كان زُهد فيها منذ عقود طويلة بفعل استعراض القوّة المادّية الذي برع فيه الغربيون بما تسبّب في فتنة عظيمة نالت من عقائد النّاس وعقولهم وقلوبهم وأذواقهم. لقد تألّهت أمريكا وهي الشيطان.


الحقيقة المثبّتة بفضل إيران بسيطة: الإنسان كائن معنوي والمادّية تشكّل كينونته وليست جوهريته وعليه فالقوّة كما الضعف يحسبان معنويّا والقيمة وخلافها ممّا يحسب معنويّا لا مادّيا والمجتمعات الإنسانية حقّا هي تلك التي تراعي حيوية الهندسة المعنويّة وما تقدّمه من ضمان للإنسان على المدى البعيد. سمّى الخميني المعنويّة التي أفصّل فيها بعض التفصيل بالقوانيين الروحية وقال سنة 1963 أنّنا، ويقصد الإيرانيين، سنعلّم العالم أنّ قوانين الرّوح أقوى من فوانيين المادّة. لاحظوا ربطه لأفكاره ورؤاه وأحلامه بالعالم لا بإيران حصرا ولاحظوا تأكيده على تلخيص الصراع والأزمة بمفردتي المادّة والرّوح.



بقي أنّ المعنويّة والروحانية لا تُختزلان في مذهب ودين وإذا كان التأصيل لهما إيرانيا مرتبطا بميراث شيعي فهذا لا يعني أنّ غير هذا الميراث يفشل ولا يُفلح في تأصيل معنوي وروحي. أصلا، لا يرقى المرء إلى معنى وروح إلا بتجاوز ضيّق ديني ومذهبي إلى واسع كوني وإنساني. لا أقول بعجز سنّي ولا بعجز هندوسي ولا بعجز بوذي عن ذلك ولا حتى بعجز فلسفات عميقة عنه.



أقول بعجز كلّي إذا لم يحصل رقيّ ذهنيّ يسمح بالإنفتاح على الروحي والمعنوي والرقيّ الذهني حاصل بين الإيرانيين بأقدار معجزة وقد رصدت منه بالتواصل مع نخب ايرانيين والبحث المتأني والمقارنات الجادّة ما جعلني أفهم لماذا تهيّأت الظروف لتضطلع ايران بهذا الدّور التاريخي الضخم والمشرّف. لم يتأهّل غيرها والذين نافسوها على هذا الدّور عربيا وإسلاميا دون ايران بكثيرا رؤية وتخطيطا وصدقا وثباتا وتضحية. يتربى أطفال ايران بين رياض أطفال ومدارس ابتدائية على أشعار مولوي وحافظ وسعدي والعطّار وإذا شبّوا نهلوا من ابن سينا والسهروردي وملا صدرا وغرقوا في بحر من ملاحم أبطالهم القوميين والدينيين. تقريبا لا ينفتح الإيراني على اداب وأفكار غيره إلا وقد تثبّت في قيمه وتاريخه ورؤاه ولن تجد ايرانيا، إلانادرا، يعتقد أنه يحتاج الآخرين ليفهم العالم ودوره فيه. ينتج عن هذا بناء خاصّ للذات ومنها بناء مختلف للمجتمع.



مجتمع ايران رصّ نوعي وسيزداد الرصّ متانة فدينامية الإيرانيين في بداياتها ولكنهم اليوم يقطعون شوطا هائلا وتثبت مسيرتهم صدقيتهم ومتانة عبقريتهم. لا أرى قدرة على وراثة الغربيين في الثقافة والأفكار والآفاق المعنوية غير الإيرانيين وأقصد وراثة مركزيتهم واشعاعهم وتأثيرهم. الصّين تنافس في الماديات بين صناعة وتجارة ومال ولكنّها لا تتوفّر على رؤى فكر وثقافة وذوق. لقائل أن يقول: في النهاية ايران من الإسلام وعليه فالإسلام هو الوارث. هذا صحيح ولكن في حدود فالاسلام في ايران مُثقفن متخلّل يسري أفقيا ويبني. هذا ليس حاصلا في غير ايران مع الأسف لأسباب تاريخية وموضوعية.



وبالعودة إلى كورونا التي تشغل العالم طولا وعرضا، من المفيد رؤية ردّ فعل الإيرانيين وتعاطيهم مع هذا الوباء وآثاره وتداعيته. منذ أسابيع قليلة كان جيران لإيران يبدون شماتة واضحة في ايران ويأملون تصريحا لا تلميحا في أن تنجح كورونا في الذي فشل فيه غيرها. أردّ هذا السلوك إلا مراهقة عقل وجهل بإيران والإيرانيين. ايران بكورونا وبعدها أقوى بكثير. هذا شعب بارع جدّا في تحويل الحسين إلى مهدي والتراجيديا إلى ملحمة والألم إلى أمل. التديّن الإيراني تقدّمي مستقبلي غير حنيني ماضوي.



يدخل الإيرانيون بابا ويقتحمون أفقا متاحا للجميع. لا لوم عليهم اذا دخلوا واقتحموا واذا كان لوم فعلى المقعدين القواعد القاعدين. اللوم اكثر على من ينتظرون أن تثبّط كورونا واقفين مقتحمين لأنهم ايرانيون أو لأنهم شيعة. كن واقفا واعبد اذا أردت البقر وسأقول فيك أجمل الشعر وأصدقه. لا حال يدوم والله غالب على أمره.

إرسال تعليق

0 تعليقات