نصر القفاص
كانت "النخبة"
فى مصر يمثلها "شيوخ الأزهر" و"كبار التجار" حتى جاءت الحملة
الفرنسية إلى مصر.. وبعد أن حكم "محمد على" تغيرت صورة "النخبة"
وتغير مضمونها وتأثيرها فى المجتمع.. فقد ظهر "رجال الجيش" و"العلماء"
و"الأعيان" من رجال الزراعة والصناعة و"الأطباء" و"المهندسين"
ثم ظهر "المفكرون" و"المحامون" و"الصحفيون".. وفى
رحاب ثورة 1919 ظهر المبدعون من أهل "الثقافة" و"الفن".
كان المجتمع يتطور.. وبقى
"شيوخ الأزهر" حريصين على الثبات, ورافضين للتطور وتطوير أنفسهم.. باستثناء
فترة ما بعد ثورة 23 يوليو وحتى رحيل "جمال عبد الناصر" لأنه بعدها
اكتفى "الأزهر" بالانكفاء على ذاته, والحفاظ على ما تبقى له من مكانة.. ولم
يشغل "شيوخ الأزهر" تلك الجماعات التى راحت تسحب البساط من تحت أقدامهم..
تحديدا منذ أن قامت "جماعة الإخوان" ثم الجماعات "المفقوسة عنها"
وصولا إلى السلفيين ودعاة التكفير.. لأن "الأزهر" عاش فى موقع الدفاع
دائما.. رافضا الاشتباك مع أولئك الذين اجترأوا على الدين, بعد أن تأكدوا من
مهادنة قلعة الإسلام فى مصر والعالمين العربى والإسلامى.. ظل "الأزهر" محتميا
بالنظام – أى نظام – دون تورط فى خوض معارك مع هذا النظام.. وهذه الحالة جعلت من
السهل تشويههم بأنهم "رجال النظام" لأن هذه الادعاءات إن كانت قد نالت
من هيبتهم ومكانتهم.. فهى لم تنل من مكاسب الذين يستظلون بمظلة "الأزهر"
وعلى ضفافه العاملين فى "الأوقاف" والهيئات الإسلامية.
هذا يدلنا عليه
التاريخ وتفاصيله المهمة..
ولأننا دائما تأخذنا
حالة القفز للأمام.. راحت منا جذور معضلة "الأزهر" ورجاله والخطاب
الدينى الذى تجرى محاولات مناقشته أملا فى علاج حاسم للمرض, بدلا من الانشغال
بالأعراض التى تتغير فى كل مرحلة وزمن.
تقليب صفحات التاريخ
تأخذنا إلى زمن ما قبل "الحملة الفرنسية" التى هزت المجتمع المصرى هزا
عنيفا.. وكانت توابعها قد أدت إلى تغيير جذرى, فيما نسميه "مصر الحديثة"
التى وضع أساسها "محمد على" منذ أن تولى السلطة بإرادة الشعب وقيادة "رجال
الأزهر" والذين حوله.. ولعلى أقصد بالذين حوله "الأشراف" وهم ليسوا
من رجال "الأزهر" لكنهم يدورون فى فلكه.. وكان السيد "عمر مكرم"
أبرزهم وأهم من لعب دورا شديد الأهمية فى تاريخ مصر.. والمذهل أن رجال "الأزهر"
حاربوه حرصا على مكانتهم ومكاسبهم!!
لحظة أن وصلت "الحملة
الفرنسية" إلى مصر.. كان "محمد على" يعيش على أرضها كقائد لفرقة من
فرق "المماليك" العسكرية.. وكان يتابع ويرصد ما يحدث بدقة, وفى عقله
مشروع ورؤية لنفسه ولهذا الوطن – مصر – وشهد "محمد على" انكسار "المماليك"
وسقوطهم المروع.. كما شهد انتهازية حكام الدولة العثمانية, وضيق أفقهم.. باعتبارهم
لا يرجون من الدول الخاضعة لإمبراطوريتهم سوى نهبها, وتكريس الجهل والفقر والمرض
فى المجتمعات التى يتحكمون فيها.. ووسط هذا المشهد كان "الأزهر" يضم
رجالا عظاما.. وطبقة أخرى لا يهمها غير مكاسبها.. وذلك سمح لـ"الأشراف" أن
يبرزوا بقيادة "محمد البكرى" نقيب الأشراف الذى توفى عام 1793 فى مقتبل
عمره.. ليتولى "عمر مكرم أفندى" نقابة الأشراف, ومن سوء حظه أنه حمل
الراية فى وقت شديد الاضطراب..
كان "المماليك"
الذين يطلق عليهم "العسكر" هم الحكام الفعليين للبلاد, وعاثوا فيها
فسادا وظلما.. وكانوا يتصارعون على المغانم والثروة وقهر الشعب لصالح الحاكم
العثمانى.. وكان الشيخ "الشرقاوى" يتولى مشيخة الأزهر وقيادته.. ولما
نزلت "الحملة الفرنسية" إلى مصر يوم 3 يوليو 1798 وتمكنت من البلاد.. لم
يتصد لهم غير "عمر مكرم" الذى رفض الاستسلام وحمل "البيرق النبوى"
كراية للجهاد – هكذا كان اسمها – لكن صموده مع الآلاف من المصريين لم يحقق لهم
انتصارا.. فخرج "عمر مكرم" من القاهرة.. وبقى "شيوخ الأزهر" الذين
اتفقوا على قبول الأمر الواقع, والتسليم للفرنسيين باعتبارهم عبروا عن رغبتهم فى
مصادقة أهل مصر.. وأنهم أعلنوا أنهم جاءوا لتطهير البلاد من ظلم "المماليك"
وعرضوا على الشيخ "السادات" والشيخ "الشرقاوى" مشاركتهم فى
إدارة شئون البلاد.. فوافقوا!!
إستمر السيد "عمر
مكرم" ثائرا.. تمسك بموقف الرفض والجهاد, وترك القاهرة إلى "العريش"
وبقى فيها شهورا حتى وصلها "نابليون" يوم 17 فبراير 1799.. وهناك واجه
جيش الأتراك وهزمهم, فتقدم إلى "يافا" التى كان "عمر مكرم" قد
لجأ إليها ليواصل القتال.. وانتهت المعركة بانتصار الفرنسيين, وهناك التقى "محمد
على" بـ"عمر مكرم" الذى كان يسمع عنه ويعلم قيمته وأهميته بالنسبة
للمصريين.. فأكرمه وأعاده إلى مصر التى غاب عنها ثمانية أشهر.. وهنا كانت مفاجأته
كبيرة لأنه وجد أمورا كثيرة قد تغيرت, كما لو أنه غاب عن البلاد سنين.. فالحملة
الفرنسية إستقر لها الأمر.. إنهزم "المماليك" تماما وهربوا للوجه القبلى..
و"شيوخ الأزهر" دعوا الشعب إلى الهدوء.. ورغم حزنه وكمده بقيت حالة
الرفض للاستسلام داخله.. وكان يحدث الناس عن انتصار المصريين على "لويس
التاسع" وأسره, وقدرة المصريين على دحر الغزاة الذين يحاولون احتلال بلادهم.
رفض "عمر مكرم"
كل محاولات إشراكه فى حكم البلاد, لأن اشتراكه يعنى قبول احتلال "الفرنجة"
ورغم أن الفرنسيين ردوا إليه بعض أملاكه دون طلب منه.. إلا أنه استمر محرضا على
رفض الأمر الواقع.. وغادر "نابليون" القاهرة, وترك مصر بعد مقابلة وحيدة
مع "عمر مكرم" كانت حافلة بالتقدير وحضرها معه من الأزهر الشيخ "المهدى"
لكن هذا اللقاء لم يؤثر على قناعات ومواقف "عمر مكرم" وكان يدعمه فى
مواقفه "أحمد المحروقى" كبير التجار وكان يسمى "شهبندر التجار"
وعملوا على رفع معنويات الناس, ودعوتهم للثورة على الغزاة.. إلتف الناس حوله وكانت
دعواه تلقى صدى, ودعما ماديا من "أحمد المحروقى" حتى أشعلوا ثورة مصرية
كبرى, إستمرت 37 يوما متصلة بقيادة الثائر الأكبر "عمر مكرم" كما وصفه "الجبرتى"
وأطلق عليه "محمد فريد أبو حديد" فى كتابه عنه بعنوان "زعيم مصر
الأول" ونشرته "دار الهلال.. وفيه يروى بطولة أهل "بولاق" بقيادة
"مصطفى البشتيلى" الذى أذاق الفرنسيين نارا وفشلوا فى تعقبه أو الإمساك
به.. حتى أحرقوا حى "بولاق" بأكمله وحرقوا "البشتيلى" ورغم
ذلك بقيت الثورة مشتعلة.. فدعا قادة الحملة الفرنسية للصلح والمهادنة.. ذهب إليهم
الشيخ "الشرقاوى" والشيخ "المهدى" والشيخ "الفيومى"
والشيخ "السرسى" وسمعوا منهم, وعادوا للناس ليعرضوا عليهم شروط
الفرنسيين للهدنة.. فكانت المفاجأة المذهلة أن الناس عبروا عن غضبهم ورفضهم
لكلامهم, ووصل الأمر إلى حد الاعتداء عليهم وخلعوا عن الشيخ "الشرقاوى" عمامته
وفعلوا الأمر نفسه مع الشيخ "السرسى" وأعلنوا استئناف القتال والثورة.. أدى
ذلك إلى فتح النيران على الثوار وفرض غرامات ضخمة.. ونهبوا بيت "عمر مكرم"
وخربوه.. حتى سقط "كليبر" قتيلا بشجاعة "سليمان الحلبى" الذى
تم إعدامه وترك جثته للطيور الجارحة.
وكان "رجال
الأزهر" يمارسون المهادنة ويدعون الناس للهدوء.. وتسبب ذلك فى اهتزاز صورتهم
فى أعين الشعب.. وكل هذه الحقائق والتفاصيل تحفظها ذاكرة التاريخ وكتبه.. وكان "محمد
على" يتابع ويرصد ويدبر ما يمكن أن يفعله فى مستقبل كان يشغله ويخطط له..
يتبع
0 تعليقات