نصر القفاص
قبل أن تصل الحملة
الفرنسية إلى مصر.. كانت البلاد قد بلغت أقصى درجات ضعفها وتفككها.. فالاستعمار
العثمانى كان قد مزقها ليضمن استمراره.. نصب "المماليك" حكاما على مناطق
ليتحكم كل منهم فى منطقة نفوذ.. وكان حاكم العاصمة – القاهرة – أقرب إلى المراقب
أو الراصد لما يجرى فى أنحاء الوطن, وينقل الصورة إلى السلطان فى "اسطنبول"
وهو صاحب الأمر والنهى والقرار.. سلطته أن يعين هذا ويعزل ذاك.. ومصلحته خلق
الصراع بين "المماليك" وبعضهم.. وتسليطهم على الناس لجمع الأموال
وإرسالها لحكام الدولة العثمانية.. للتجار أن يفعلوا ما شاءوا.. شرط أن يدفعوا!! ولشيوخ
الأزهر أن ينعموا بالأمان وجزء من الثروة, مقابل إقناع الناس بطاعة أولى الأمر!!
انتقلت قوة ونفوذ
الدولة العثمانية, إلى سطوة الحملة الفرنسية وقائدها – نابليون – وأعانه على تنظيم
شئون البلاد وإدارتها "نخبة" هذا الزمان ممثلة فى التجار وشيوخ الأزهر..
وهرب المماليك إلى الصعيد ومدن الوجه البحرى.. وبقى "عمر مكرم" خارجا عن
هذه الدائرة.. رافضا.. ثائرا.. كان مقتنعا بأن مصر جزء من "دولة الخلافة"
– العثمانية – لكنه اكتشف بعد رحيل الاحتلال الفرنسى, أن الأتراك لا يختلفون عن
الفرنسيين.. وكليهما تسابقهم انجلترا التى جاءت للمشاركة فى الحرب على الحملة
الفرنسية.. تأكد ذلك فى رفضهم الجلاء عن البلاد بعد رحيل الفرنسيين.. وعندما دب
الخلاف بين الدولة العثمانية والإمبراطورية البريطانية.. وانعكس ذلك على الأوضاع
فى مصر التى عاشت عواصف وأهوال وعدم استقرار.. خرج الانجليز نهائيا عام 1803.. بعد
أن رتبوا مع حليفهم "محمد بك الألفى" ليكون حاكما.. بينما الفرنسيين
يحاولون تنصيب "البرديسى".. وبينهما ارتبكت الدولة العثمانية, فلم تنجح
فى الوصول إلى حاكم يقدر على إدارة شئون البلاد واستعادة استقرارها.
اختار "شيوخ
الأزهر" الانكفاء على ذواتهم, بعد أن تسببت أحداث سنوات الحملة الفرنسية فى
شرخ صورتهم وكسر هيبتهم.. لكنهم كانوا مضطرين للتورط فى الانحياز لهذا أو ذاك من "المماليك"
وهو ما سجله "الجبرتى" فى "عجائب الآثار فى التراجم والأخبار"
بتفاصيل واضحة وركز على أبرزهم أمثال الشيخ "الشرقاوى" والشيخ "خليل
البكرى" والشيخ "سليمان الفيومى" والشيخ "المهدى" والشيخ
"الدواخلى" وغيرهم.. ورسم صورة البؤس التى كانت قد بلغتها مصر بدقة
شديدة.. أما التجار فقد تمكن "أحمد المحروقى" من إعادة ترتيب أمورهم, لكنه
بقى مرتبطا بقوة مع "عمر مكرم" لفرط ثقته فيه.. وأصبح واضحا أمام الشعب
أنه يمثل طوق النجاة بالنسبة له.. ولأنه كان قد بات مقتنعا بأن المصريين, عليهم أن
يقولوا كلمتهم فى مصيرهم.. وافق على أن يتقدم ويقود حركة الناس, مدافعا عن طموحهم
وآمالهم.. وتقرب "محمد على" من "عمر مكرم" الذى راهن عليه.. وهنا
تحركت الدولة العثمانية لإبعاد "محمد على" عن مصر, بعد أن تأكدوا من
خطورة تحالفه مع الزعيم الشعبى – عمر مكرم – فقرروا منحه لقب "باشا" وتعيينه
حاكما على "جدة" وطالبوه بأن يغادر مع فرقته مصر.. وهو من جانبه تظاهر
بالموافقة, ورهن ذلك بحصول جنوده على متأخرات مرتباتهم حتى لا ينقلبوا عليه.. وأرسل
إلى "عمر مكرم" ليؤكد له رغبته فى البقاء فى مصر..
وكانت ثورة الشعب على
"خورشيد باشا" مشتعلة.. جمع "عمر مكرم" العلماء وشيوخ الأزهر
والتجار فى "بيت القاضى" قرب "الأزهر" واقترح على الجميع رفع
التماس للباب العالى اعتراضا على رحيل "محمد على" الذى تأكدت جدارته بأن
يكون "واليا" بقرار تعيينه والى على "جدة".. اعتبر السلطان فى
"اسطنبول" ذلك تحديا لسلطته وتمردا, وأرسل أسطولا إلى الإسكندرية لفرض
كلمة السلطان وتقليد "موسى باشا" واليا على مصر, وحمل قائد الأسطول
الإنذار للشعب و"محمد على" فما كان من "عمر مكرم" إلا أن أعاد
الجمع يوم 13 مايو عام 1805, وأعلن هو والشيخ "الشرقاوى" أن "محمد
على" أصبح واليا على مصر وحاكما للبلاد بإرادة الشعب.
استعاد الشعب المصرى
الزمام يوم 13 مايو عام 1805 وفرض إرادته, رغما عن أنف إمبراطورية تحكمت فى أقداره
منذ عام 1517.. ولأن الدولة العثمانية كانت تعانى من أزمة فى علاقتها ببريطانيا, فقد
جعلهم ذلك يغضون الطرف عن التمرد المصرى على الدولة العثمانية.. أما فرنسا فقد
اختارت أن تمد يد العون للحاكم الجديد, نكاية فى بريطانيا والدولة العثمانية!! ولأن
"محمد على" كان يدرك الموقف وواعيا لتفاصيل الحالة المصرية منذ أن وصل
البلاد.. قرر قبول قرار الشعب, وشارك فى حصار "خورشيد باشا" بالقلعة حتى
غادر مصر.. واضطر السلطان العثمانى إلى قبول الأمر الواقع, وأرسل تصديقه على قرار
الشعب المصرى يوم 9 يوليو عام 1805.. ومن هنا أصبح "محمد على" واليا على
مصر.. وأصبح "عمر مكرم" زعيما للشعب يتم إصدار القرارات باسمه مع ذكر
العلماء – شيوخ الأزهر – فى محاولة لإعادة التقدير لهم بأعين الشعب!! وتم الإعلان
رسميا عن المرسوم "العثمانى" بتنصيب "محمد على" والى "جدة"
السابق حاكما على مصر إعتبارا من يوم 18 يوليو لتقام الأفراح والاحتفالات بانتصار
إرادة الشعب الذى هزته بعنف "الحملة الفرنسية" وأدرك أن بلاده تعيش
احتلالا مريرا منذ سقطت تحت حكم "دولة الخلافة العثمانية".. لكن الأمر
لم يستتب, والأحوال لم تستقر.. لأن الدولة العثمانية قبلت تجرع هذه المرارة مرحليا..
وانتفضت بريطانيا خشية أن تضيع منها الفريسة – مصر – التى تتربص بها من سنوات طوال..
وأصابت "المماليك" حالة ذهول لكونهم سيفقدون تلك الدجاجة التى كانت تبيض
لهم ذهبا!!
فتحركوا يوم 16 اغسطس عام 1805 متظاهرين
بالمشاركة فى احتفالات "وفاء النيل" واتجهوا إلى بيت "عمر مكرم"
أملا فى أن يدعمهم.. لكنه رفض وأخطر "محمد على" بما يحدث.. فتحرك الحاكم
مع جنوده وحاصرهم عند "باب زويلة" لتشهد القاهرة فى هذا اليوم مذبحة, كاد
أن يصاب خلالها "محمد على" الذى انتصر ورجاله.. فهرب قادة "المماليك"
خاصة "محمد بك الألفى" الذى اتجه إلى "دمنهور" بينما هرب "البرديسى"
تجاه الوجه القبلى.
ظهر مرة أخرى "عمر
مكرم" وكانت كلمته مسموعة فى الوطن كله, وناشد أهالى "البحيرة" أن
يتصدوا لجنود "محمد الألفى" فتحرك الشعب ليقاوم ويلبى نداء الزعيم.. وتولى
"محمد على" مطاردة جنود "البرديسى" فى الوجه القبلى.. وهنا
حاولت الدولة العثمانية استثمار الموقف, فأصدر السلطان قرارا بنقل "محمد على"
واليا على "سالونيك" فى اليونان.. أدرك "محمد على" أن
المواجهة مع السلطان والدولة العثمانية أصبحت حتمية, فقرر أن يواجهه عسكريا مع
استخدام الحيلة – السياسة – معتمدا على تأييد شعبى عارم.. وقال وفق ما ذكره "عبد
الرحمن الرافعى" فى كتابه "عصر محمد على" الصادر عن "دار
المعارف" قولة يجب أن نضع خطوطا تحتها لأهميتها.. فقد قال: "إننى أعرف
الترك وأعرف الطريقة التى تنجح معهم.. إنها الرشوة.. السلاح الفعال فى مواجهتهم"!!
فأرسل الرشاوى للقادة,
وحمل ابنه الفى كيس من الأموال للسلطان فى الآستانة.. جمعها له التجار والمواطنين!!
وأثمر ذلك عن تراجع للسلطان.. وانقلب الموقف على ضفاف "البوسفور" من
عداء مطلق إلى هدوء وقبول للحاكم الذى جاء مفروضا عليهم من "الفلاحين الرعاع"!!
وأسهم قنصل فرنسا فى "الآستانة" بدور فى إقناع السلطان بقبول "محمد
على" لكن ذلك أدى إلى اشتعال النار فى بريطانيا, التى قررت التحرك عسكريا
لاحتلال مصر وعزل "محمد على" قبل أن تستتب له الأمور.
التفاصيل مهمة
وضرورية.. لأن تاريخ مصر يستحق أن نقرأه بصوت عال, ونفهم التحديات المفروضة عليها..
ففى التاريخ مفاتيح الحاضر بكل أزماته التى تفور وتهدأ.. ثم تموت!! فحكاية "الأزهر"
جزء من تاريخ وطن حافل بأحداث كاشفة, ستتضح كلما عدنا إلى صفحاته..
يتبع
0 تعليقات