نصر القفاص
نسفت "دولة
الخلافة العثمانية" كل الجسور التى تربط بين الشعب المصري وتاريخه.. وكان ذلك
– فقط – سبيلها فى السيطرة على البلاد, والتحكم بمقدراتها بتكريس الجهل وتوطين
الأمراض وفرض الفقر على الجميع.. إستثنى السلطان القاطن فى "اسطنبول" فئات
محدودة.. كان أولها "المماليك" باعتبارهم وكلاء المستعمر فى السيطرة على
البلاد.. إضافة إلى كبار التجار الذين يمثلون أحد جناحى "النخبة" ومعهم "شيوخ
الأزهر" باعتبارهم الجناح الثانى.. ولما جاءت "الحملة الفرنسية" بدأت
حالة من الوعى تتشكل بقيادة "عمر مكرم" نقيب الأشراف.. وتسبب ذلك فى كراهية
شديدة له من جانب "شيوخ الأزهر" لكنها لم تؤثر عليه أو فيه لانحياز "أحمد
المحروقى" كبير تجار مصر إليه.. وأدى ذلك إلى إيقاظ الوعى الشعبى, فكانت
ثورتى القاهرة ضد "نابليون" ثم ضد "كليبر" ولما فشلت محاولات
ترويض الشعب وخداعه.. تظاهر "مينو" قائد الجيش الفرنسى بحبه للمصريين
واحترامه لدينهم.. أشهر إسلامه وتزوج بنت "على الرشيدى" أحد أشراف مدينة
"رشيد" وسمى نفسه "عبد الله جاك مينو" وكانت عقيدته ضرورة
بقاء فرنسا فى مصر واحتلالها, عكس كبار مساعديه من القادة الذين كانوا يتعجلون
الرحيل بعد ما ذاقوه من أهوال وأمراض.
خارج حدود مصر كان
السلطان العثمانى يحاول استعادة سيطرته عليها, لأن فقدان مصر يعنى انهيار
الإمبراطورية العثمانية.. وكانت الإمبراطورية البريطانية مفتوحة العينين ورافضة
التفريط فى فريستها – مصر – مهما كلفها الأمر.. لذلك اتفق الطرفان على تحالف – مؤقت
– لإنهاء الوجود الفرنسى.. دفعت بريطانيا بجيش كبير إلى الإسكندرية وصلها آخر مارس
عام 1801, وتقدم نحو القاهرة التى وصل ضواحيها يوم 15 مايو عام 1801.. وأرسلت
الدولة العثمانية جيشا آخر زحف بريا وبحريا حتى وصل إلى "إمبابة" فوجد "مينو"
أنه أصبح محاصرا بين جيوش بريطانيا والدولة العثمانية, فضلا عن الرفض الشعبى من
جانب المصريين للغزاه الأجانب.. وكان الشعب يعتقد أن بلاده جزء من دولة الخلافة.. ويوم
12 سبتمبر عام 1801 غادر جنود الحملة الفرنسية البلاد, وعادت مصر مرة أخرى ولاية
عثمانية – تركية – وعند هذه اللحظة كان اسم "عمر مكرم" ووزنه الشعبى
وقيمته الوطنية قد تضاعفت.. كذلك أضاف "أحمد المحروقى" لمكانته الكثير..
وفرض هذا التغيير على "شيوخ الأزهر" الالتفاف حول الرجلين, حفاظا على
مكانتهم التى اهتزت كثيرا.. وكان السبب أنهم سلموا بالأقدار وهادنوا الحملة
الفرنسية.
خلال سنوات الحملة
الفرنسية.. تقرب عدد كبير من "شيوخ الأزهر" لقادة الحملة, وظهر ذلك أمام
الشعب بما لا يحتمل تأويلا أو تشكيكا.. وسجله المؤرخون داخل مصر, كما سجله عدد من
علماء الحملة الفرنسية الذين اصطحبهم "نابليون" معه.. فيحكى "مسيو
مارسيل" فى مذكراته – كذلك سجل الجبرتى – أن الشيخ "المهدى" وهو
أحد علماء وكبار الأزهر كان يتردد عليه.. ويقول عنه: "رجل عميق الفكر.. حسن
الفكاهة.. طيب القلب.. شاركنى الشراب – النبيذ – وداعبته مرة بسؤال عن شربه للخمر
مع أن الدين الإسلامى يحرم شرابه.. فأجابنى الشيخ أن سبب التحريم هو السكر.. لكن
هذا لا يسكرنى.. فضحكت طالبا زجاجة أخرى"!! وفى حكاية أخرى قال: "دعا
القائد الشيوخ إلى وليمة.. فقام الخدام بوضع زجاجة نبيذ أبيض أمام كل منهم.. فطن
أحدهم واعتقد أن هذا نوع من السخرية منهم والتقليل من شأنهم.. فتدخل الشيخ المهدى
لتهدئة الحضور, وقال لهم أن هذا ليس أكثر من عصير فاكهة.. وبما أننا لا نعرف هذا
الشىء, فلا إثم علينا.. بل الإثم على فاعله.. وشرب كأسا.. فضحك الشيوخ واتبعوه, وهدأت
حالة الغضب"!! ويسجل كل مؤرخى هذه المرحلة أن الشيخ "المهدى" كان
الأكثر قربا من قادة الحملة الفرنسية.. وبعد ذهابهم كان مقربا لحكام الإمبراطورية
العثمانية.. واستمر كذلك حتى صدمه ونكل به "محمد على" بعد سنوات من
تسلمه السلطة والحكم.
كان "محمد على"
يعيش فى القاهرة خلال هذه الفترة كقائد لمجموعة من "العسكر" الذين
تستعين بهم "دولة الخلافة" لإحكام القبضة على مصر.. تابع ورصد وشاهد, وباتت
الصورة واضحة أمامه.. إضافة إلى أن السنوات التالية, كانت تضيف لمعرفته وفهمه ما
هو أكثر.. لأنه برحيل "الحملة الفرنسية" إكتفى "عمر مكرم" باستعادة
موقعه كنقيب للأشراف, وحرص على الابتعاد عن أهل الحكم.. وإن كان قد حافظ على
لقائهم فى المناسبات, وعندما كانوا يدعونه للمشورة.. وابتعد كذلك "أحمد
المحروقى" وتفرغ لتنظيم أمور التجار وتجارته.. لكن السنوات التالية لخروج
الفرنسيين كانت عاصفة.. شهدت صراعات على الحكم.. واكتفى السلطان بإدارة الصراعات
بين "المماليك" فحكم مصر "خسرو باشا" لعامين ضعيفا.. وبعدها
عاد "الألفى بك" من انجلترا التى كانت تدعمه, ودخل فى صراع مع "البرديسى
بك" المدعوم من فرنسا.. وعاشا يحاولان خداع كل منهما الآخر للانفراد بالسلطة..
وكان الشعب المصرى هو فريستهم الذى يتم نهبه وفرض الضرائب عليه لإسكات جنودهم.. وإذا
غضب الشعب أو تبرم يطلقون عليه جنودهم ليسرقوا وينهبوا ويهينوا من يواجههم.. ولعلنا
نتذكر ما بقى من أثر هذه الفترة عبر هتافى "إيش تاخد من تفليسى يا برديسى"!!
كان الشعب قد تعلم أن
له حقوق على أرضه وفى بلده, فتكررت نوبات التعبير عن الرفض لوكلاء الاستعمار
العثمانى.. وكان "عمر مكرم" يتدبر الأمر أملا فى الخروج من هذه الدائرة
الجهنمية.. وكان "محمد على" يحاول أن ينجو بنفسه ممن التورط فى الصراعات,
ولما كان يحدث يتفنن فى الخروج بأقل قدر من خسارة الشعب الذى راح يتقرب إليه عبر "عمر
مكرم" وكذلك "شيوخ الأزهر" وكبير علمائه الشيخ "عبد الله بن
حجازى" ولقبه الشيخ "الشرقاوى" والذى أصبح شيخا للأزهر.. وكانت له
مواقف عظيمة فى الدفاع عن الشعب وحقوقه, حتى جاءت "الحملة الفرنسية" وذهب
بعد تمكنها من البلاد, للقاء "نابليون" على رأس وفد من العلماء والأعيان..
وخرج من اللقاء موافق على أن يكون عضوا فى "الديوان الوطنى" الذى شكله "نابليون"
لإدارة شئون البلاد.. ووضع الشارة المثلثة الألوان – علم فرنسا – على صدره, وكان
ينزعها كلما خرج على حشد من الناس!! واكتفى بعد ذلك أن يكون وسيطا بين الشعب وقادة
الحملة خلال ثورتى القاهرة.. واستمر دائما عضوا فى "الديوان الوطنى" الذى
حقق أعضاؤه نفوذا وثروات طائلة.. ولم يتأثر نفوذ "الشيخ الشرقاوى" بخروج
الحملة الفرنسية, لأنه كان مقربا من "يوسف باشا" الوزير الذى عينته
الإمبراطورية العثمانية لاستعادة قبضتها على مصر.. وأهداه كتابا عبر فيه عن
السعادة والسرور باستعادة الحكم التركى لشئون مصر.. وعلى دربه سار عدد كبير من "شيوخ
الأزهر" يذكر منهم "الجبرتى" أسماء: "الشيخ المهدى" و"الشيخ
الصاوى" و"الشيخ السرسى" و"الشيخ خليل البكرى" وآخرين.
يذكر "محمد فريد أبو حديد" فى كتابه "زعيم مصر الأول.. عمر مكرم" أن مصر كانت فيها طائفتان من الأعيان.. أولهما أولئك صائدى الوجاهة والثروة.. والثانية هى كبار العلماء وشيوخ الأزهر.. وبينهما كان "عمر مكرم" الرجل الذى لا تهمه الثروة ولا يعنيه النفوذ.. لذلك كانت عين "محمد على" عليه باستمرار..
يتبع
0 تعليقات