آخر الأخبار

الحروف ... قلوب وأرواح

 

 

 

 

نعمه العبادي

 

 

 

تختلف السرديات المتعلقة بتأريخ الكتابة ومراحل تطورها، ويتفق المعظم على أن الكتابة بواسطة الصورة هي البدايات الأولى للتعبير عن الكلمات، كما أنه لا يوجد جزم مؤكد حول الفجوة الزمنية التي تفصل مرحلة وضع اللغة (ألفاظ تدل على معانٍ)، عن مرحلة التدوين والكتابة إلا أن المؤكد وجود فاصل زمني معتد به بينهما .

 

 

 

 

على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلت ، والمتعلقة بدراسة اللغة وتأريخها إلا أنه لم يتم الوصول إلى تفسيرات كاملة تقدم أسباباً وافية لهذا التزامن ما بين هذه الأشكال المحددة من الحروف والألفاظ الدالة عليها، ويزداد الأمر تعقيداً مع هذا التعدد الكبير لنماذج اللغة والكتابة بألسنة شتى، ويبقى القول بأن هناك إرتكازاً فطرياً متناسباً مع مقولة { وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} وله صلة وثيقة بمقولة { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا }، هو الأمر الأكثر قرباً للحقيقة، والأقدر على طرح رؤية مقبولة لتفسير الوضع والكتابة.

 

بعيداً عن البحث التاريخي والجدل المعرفي، فقد أنتج (فن الرسم) إبداعاً مميزاً في مجال (رسم الحروف)، ومع أن النتاج يمثل منطقة مشتركة بين الخط والرسم، إلا أن لوحة الحرف، شكلت ثيمة مستقلة في التعبير عن (المشهد) بالصورة المغمسة بالصوت، لذا فإن خصوصية (رسم الحروف) في وجود الصوت الذي تشكله صورة اللوحة، والتي توظف (الشكل والدلالة واللون)، مضافاً إلى الصوت الذي يمكن سماعه عبر المزيد من التأمل والتخيل للوحي الذي تبثه اللوحة بشكلها النهائي.

 

 

وبحسب إطلاعي المتواضع، لا أعتقد أن هناك إنجازاً معرفياً وافياً تابع الرسم بالحرف في اللغات المختلفة، وشخص مكانته في المنتج الفني لكل أمة من الأمم، ورصد المواقف من هذا التوظيف الإبداعي لمظهر الحروف في إنتاج صورة أخرى غير الصورة المعتادة التي يشكلها انتظام الحروف في الكلمات المنطوقة  في كل لغة من اللغات، كما انه لم يتم رصد القدر التعبيري الذي أنجزه هذا الفن كأحد حكايات الواقع الملونة، وهو مجال حري بالدراسة والاستقصاء والتحليل والفهم، كما أن توسيع أفق مدرسة التعبير بالحروف (رسماً)، هو الآخر بحاجة إلى جهود كبيرة.

 

 

لم يكن وحي هذا المقال منصباً على تلك الإشارات التي تقدمت إلا أني وجدت من المفيد، أن يتم استثمار هذا الوحي  تضميته هذه المقدمة المهمة، والتي أعتقد بتواضع، أنها تفتح الباب لنقاش فني ومعرفي وثقافي وحتى تأريخي، ويمكن أن تكون بوابة لتطوير هذا المسار الذي يتسع للكثير الكثير مما لم يتم إنجازه.

 

 

في لحظة ما، خطر في بالي أن أحاول التأمل في الحروف الأبجدية، متطلعاً في وجوهها، ومصغياً إلى صوتها، ومتأملاً في أرواحها، فوجدت أن لها وجوهاً وقلوباً وأرواحاً، وهي كائنات حية تنبض بالمعنى، وتتنفس الصوت، وتشعر بالدلالة، الأمر الذي أنتج بُعداً جديداً للنص المكتوب مضافاً إلى بُعد ما أنجزته الكلمات المصفوفة المشكلة للصورة والمعنى، والمتمثل بلوحة النص التي تجسد (رسمة خاصة)، تتداخل فيها المسافات وتتشابك فيها الخطوط، لذا ففي ظل هذا الفهم، فإن كل نص مهما كانت عدد كلماته وحروفه، والطريقة التي كتب بها، هو صورة كلية تجسد مشهداً حسياً ينتمي الى مقولة (البصريات)، وبالتالي فإن كل كتابة حتى وإن كانت بالآلة الطابعة هي نحو (رسم بالحرف)، وهذا الرسم يُشكل بتراص الحروف المكونة له ، كائناً مستقلاً بـ (روح وقلب ووجه) يختلف عن غيره من النصوص، وهكذا يمكن القول، أن في كل الكتاب وجوهاً بعدد صفحاته، بل بعدد المقاطع التي ينطوي كل منها على معنى متكامل من كل صفحة منه، لذلك يمكن تفكيك وتجزئة الوجه الكبير الذي يجسده النص الطويل إلى عدة وجوه بحسب حجمها، وينطوي كل وجه من هذه الوجوه الصغيرة على روحه وقلبه ونبضه وصوته ومعطاه الخاص.

 

 

ومن اللافت في الأمر، أن هناك مراتب متعددة لتجليات روح وقلب كل حرف من الحروف، ففي صورته المنفردة له دلالة صورية مختلفة، فالألف مثلاً تتضح فيه الفردانية والاستقامة والشخوص، كما أن النون تشعرك بحنوها واحتواها، وتهمس لك أن في أعماقها محتوى لا يمكن إدراكه من الظاهر، كما أن الواو التي يتضح في وجهها الضم والجمع واللم، والتي تنطوي على صورة جمعية تفوح من روحها المبثوثة في شكلها المميز، وللباء حكايته التي تكشف عن عرى الوصل بين طرفيه، كما تخفي نقطته التي يستند عليها وكأنها مركز ضبط اتزانه، معادلة مفتوحة غير متناهية من صور الربط بين وبين عبر معكوفة طرفيه ، وهكذا يمكن التأمل في وجه كل حرف من الحروف للتمتع بوحيه والاستماع الى روحه وقلبه، وبعد أن يضاف كل حرف إلى آخر، تتشكل صورة جديدة بوجه جديد وروح جديدة، فمثلاً عندما تندمج الألف واللامين والهاء وتشكل كلمة (الله)، تصبح الصورة شكلاً مختلفاً، ففرادنية الألف التي يسوقها امتدادات اللامين والنهايات المفتوحة المشيرة الى العلو للامتناهي مع تدوير الهاء الذي يمثل الإحاطة الكلية، وهكذا عندما تكون ضمن مركب من الكلمات، وفي جملة مفيدة، وكجزء من سطر، وكتركيب ضمن نص، وهو تراكم تصاعدي لعدد الوجوه التي يتمظهر فيها الحرف نفسه بعد إضافة حروف أخرى له.

 

 

 

يقدم هذا الفهم أطروحة تتمثل في إمكانية القراءة الصورية لوجوه الكلمات والنصوص من قبل الأشخاص الذين لا يجيدون القراءة والكتابة، وقد لا يكون منتج النص بحسب هذه القراءة التأملية منطبقاً مع نفس الدلالة التي تنتجها القراءة القائمة على تركيب الفهم عبر ما تحمله الألفاظ من دلالات لمن يجيد القراءة والكتابة إلا أنه نحو من الشعور والإحساس بالنص ينتجه التأمل البصري المنصب على شكل الكلمة ومظهرها الخارجي، خصوصاً عند محاولة التعمق وإمعان النظر، وتحويل الحروف إلى تخطيطات متواصلة تشكل بمجملها لوحة النص، وربما يتسنى لبعض الذين لديهم همة عالية، وموهبة فطرية للرسم، وهم لا يجيدون القراءة والكتابة، أن يخلقوا منجزاً مختلفاً للرسم بالحروف، يقوم على أساس الوجه والقلب بدون إضافة الصوت والمعنى المعهود، وهي دلالة إضافية تحايث الدلالة القائمة على أساس الوضع.

 

 

 

إن فكرة قراءة النص عبر التأمل والتبحر في مطوياتها كرسمة واحدة لا يقف عند حدود غير القادرين على القراءة والكتابة، بل أولى به الذين يجيدون القراءة والكتابة، والذين ستكون رسمة النص لديهم أكثر دلالة، خصوصاً مع إضافة إيقاع عامل الصوت مع المخرج النهائي لتشكيلة النص، لذا من الجميل والمنتج معرفياً وروحياً أن نمارس (يوغا الكلمات   والنصوص)، الأمر الذي يعيد أهمية الكتابة بواسطة اليد، والاعتناء بالمدونات الشخصية مهما كان مضمونها ونوعها، والذي يمكن تطويره إلى اداة تواصل إضافية تحمل بصمة خاصة لصانع الحرف عبر تخطيطه بكل إحساسه به، والذي يظهر جلياً عبر الكتابة بخط اليد التي تعكس صورة المشاعر والمكنونات النفسية والعقلية التي وقفت في كواليس الروح لحظة إنتاج النص.


إرسال تعليق

0 تعليقات