علي أبو الخير
مسلسل "الاختيار"
دراما رائعة، تتناول حياة الشهيد أحمد منسي ورفاقه في درب الشهداء، وهو يستحق كل
إشادة؛ لأنه جعل المصريين يتابعون الحلقات بشغف، رغم أن الأحداث تتناول أحداثًا
حقيقة بأسماء الأبطال الحقيقيين، لم يمر على استشهادهم سوى أعوام قليلة، ولكن
المسلسل تعرّض إلى فكر "تقي الدين أحمد بن تيمية"، الذي يأخذ منه كل
الإرهابيين أفكارهم الدموية في القتل والسبي والحرق، وقد استضاف المسلسل في الحلقة
العشرين الشيخ المستنير رمضان عبد المعز، الذي خاطب الجنود وحدثهم عن استخدام التكفيريين
لفتاوى ابن تيمية في التكفير، وقال: "إن الإرهابيين ينتزعون الفتاوى من
سياقها، حسب أهوائهم... وأنهم يستندون إلى فتاوى ابن تيمية، والله ظلموا الرجل
معهم وهو منهم بريء، وفتواه صدرت في وقت كان فيه هجوم عنيف على الإسلام والمسلمين،
فكان يجب الدفاع عنه.. وأنه عندما ذهب ابن تيمية إلى التتار لرد الأسرى، قال له
قائد التتار سنرد إليك أسرى المسلمين، فقال له ابن تيمية سنأخذ أسرى المسيحيين
واليهود قبل المسلمين، هكذا دافع ابن تيمية عن أهل الكتاب.. وأن هناك ما يسمى بـ(بيئة
الفتوى)، أي الفتاوى التي تخرج في أوقات معينة تحت ظروف معينة، وهكذا فتاوى ابن
تيمية صدرت في ظروف معينة كان فيها أعداء كثيرون يهاجمون الإسلام والمسلمين؛ لذلك
خرجت هذه الفتاوى منه، ولذلك لابد أن نأخذ في الاعتبار أن هذه الفتاوى كانت لظروف
بعينها".
هذا ملخص ما قاله
الشيخ الجليل، وهو ما نرى أنه جانب الصواب، ولا يحتاج إلى كثر من التفنيد، ربما
حاول الشهيد منسي والقيادة نزع سلاح التكفيريين الفكري من الشيخ ابن تيمية، الذي
يسندون إليه دمويتهم. قد يكون فيه بعض الحق لا الحق كله؛ ولكننا لو عُدنا إلى حديث
الشيخ رمضان عبد المعز، من أن ابن تيمية أصر على تحرير الأسرى اليهود والمسلمين لم
يحدث لسببين؛ الأول أن ابن تيمية في موسوعة الفتاوى الكبرى قال نصًّا: "قد
ثبت في الكتاب والسنة والإجماع أن مَن بلغته رسالته، صلى الله عليه وسلم، فلم يؤمن
به فهو كافرٌ، لا يُقبل منه الاعتذارُ بالاجتهاد، لظهور أدلة الرسالة وأعلام
النبوة.. وإن اليهود والنصارى كفارٌ كفرًا معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام"،
فهو يكفر أهل الكتاب، وبالتالي لن يكون حريصًا على تحريرهم، هذا بالإضافة أن
اليهود والمسيحيين لم يكونوا يشتركون في الحروب من الأساس، يدفعون الجزية مقابل
عدم اشتراكهم بالجندية، هذا بالإضافة إلى أن ملك التتار "محمود قازان" نفسه
كان مسلمًا، وابن تيمية كفَّره، وهو التكفير الذي سار منهجًا دمويًّا تاريخيًّا.
لم يقتصر تكفير ابن
تيمية لأهل الكتاب، فقد كفّر كل المسلمين من صوفية ومعتزلة وأشعرية وشيعة، وقد
حدثت مذبحة مسجد الروضة في بئر العبد بسيناء يوم 24 نوفمبر 2017 وقتل فيه 305، هم
كل الموجودين آنذاك في المسجد، وتم القتل بناء على تكفير أهل التصوف بفتوى ابن
تيمية وما تلاها من فتاوى الوهابيين التي تكفّر المتصوفة عمومًا، وقد قتلوا الشيخ
المسن الصوفي سليمان أبو حراز بسيناء في نوفمبر 2016؛ بسبب نقده منهجهم الدموي،
وهي الفتاوى التي اعتمد عليها الإرهابيون، فابن تيمية يقول في كتاب "منهاج
أهل السنة": "قد علم من ضرورة دين الإسلام أن النبي لم يأمر، ولا شرع
لأمته مناسك عند قبور الأنبياء والصالحين، بل هذا من دين المشركين"، وقال
أيضًا: "اتفق السلف وأئمة الدين على أن أهل مدينته لا يزورون قبره، بل ولا
يقفون عنده للسلام إذا دخلوا المسجد، وخرجوا وإن لم يسم هذا زيارة، بل يكره لهم
ذلك عند غير السفر، كما ذكر ذلك مالك وبيّن أن ذلك من البدع التي لم يكن صدر هذه
الأمة يفعلونه: علم أن من جعل زيارة قبره مشروعة كزيارة قبر غيره فقد خالف إجماع
المسلمين"، فهو يحرّم زيارة قبور الأولياء والصالحين وكذلك الأنبياء، ومنهم
رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد أثبت فتاويه في كل كتبه؛ خصوصًا كتاب "التوسل
والوسيلة"؛ حيث تنتهي كل فتوى بالقتل وسفك الدم، مثلًا: "من لم يقل إن
الله فوق سمواته على عرشه، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.. من قال لرجل: توكلت
عليك أو أنت حسبي أو أنا في حسبك، يستتاب فإن تاب وإلا قتل.. مَن اعتقد أن أحدًا
من أولياء الله يكون مع محمد كما كان الخضر مع موسى، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا
ضربت عنقه.. الرجل البالغ إذا امتنع من صلاة واحدة من الصلوات الخمس أو ترك بعض
فرائضها المتفق عليها فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل.. من قال لأخيه بعد الصلاة
حرمًا أو تقبل الله يستتاب أو يُقتل.. قتل أسرى المسلمين عندما يتخذهم العدو
دروعًا بشرية جائز شرعًا، حتى لو كانوا من المدنيين، وهي الفتوى التي يعتمدها الإرهابيون
في قتل المسالمين من المدنيين إذا تترست خلفهم قوات الجيش والشرطة".. وغيرها
من فتاوى سفك الدماء، ومن ضمن أفكاره أن رأس الحسين في مسجده بالقاهرة غير موجود،
وأن الموجود إما رأس يهودي وإما رأس حمار، وأن القصد والسفر لزيارة قبر النبي نوع
من أنواع الشرك، وهو ما اعتبره شيوخ عصره سوء أدب في جانب النبي عليه السلام، كما
كان ابن تيمية أّول من فرَّق بين الربوبية والإلوهية، رغم أن آيات سورة الناس "قل
أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس"، لا تفرق بين ما ادعاه الرجل، ثم
الوهابيون والإرهابيون المعاصرون، وبناء على تلك التفرقة، فقد تم تكفير كل مَن
يقول بتوحيد الربوبية والإلوهية، ثم بين الذات والصفات، في فذلكة فكرية دموية رغم
عدم عقلانيتها.
ولقد أخذ بفكر ابن
تيمية كل الإرهابيين، أخذ منها أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي وسيد قطب في
معالمه في الطريق، ومحمد عبد السلام فرج في كتيبه "الفريضة الغائبة" التي
قتلت الرئيس أنور السادات ومن بعده فرج فودة، وأيمن الظواهري وأسامة بن لادن وهشام
عشماوي، ولم يشذ إرهابي الاعتماد على فتاوى ابن تيمية، ومن يقدس فكره من الشيوخ
المعاصرين من أول محمد حسين يعقوب حتى شيوخ جماعة الإخوان المسلمين، مرورًا
بالحويني والقرضاوي.. وغيرهم يفوق الحصر.
الملاحظ في فتاوى ابن
تيمية أنه يردد دائمًا: "اتفق العلماء أو اتفق أهل العلم أو الجمهور، دون أن
يذكر أسماء هؤلاء العلماء، وهو تدليس في العلم، يعرفه كل دارس لفكر ابن تيمية،
ولقد حدثت محاكمة لابن تيمية في حياته؛ بسبب حديثه عن التفرقة بين الإلوهية
والربوبية والذات والصفات، واتهم شيوخ الأزهر الشريف بالمعطلة، أي الذين يعطّلون
صفات الله، قال ابن أيبك الدواداري في كتابه (كنز الدرر وجامع الغرر) في حوادث عام
(705هـ) ما ملخصه: "لما كان يوم الإثنين 8/ رجب/ 705هـ: "وكان التقي ابن
التيمية في هذه المدة قد سلط لسانَ قلمه، ومد عنان كلمه، وتحدث في مسايل الذات
والصفات، ونص في كلامه على أمور منكرات، وتكلم في ما سكت عنه الصحابة والتابعون،
وفاه بما يخفيه السلف الصالحون، وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الإسلام، وانعقد على
خلافه إجماع العلماء والحكام، وأشهر من فتاويه في البلاد ما استخف به عقول العوام،
فخالف في ذلك علماء عصره، وأئمة شامه ومصره، وبعث رسائله إلى كل مكان، وسمى فتاويه
بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، ولما اتصل بنا ذلك، وما سلك مريدوه من هذه
المسالك، وأظهروه من هذه الأحوال وأشاعوه.. حتى اتصل بنا أنهم صرحوا في حق الله
سبحانه بالحرف والصوت والتجسيم، قمنا في الله تعالى مستعظمين لهذا النبأ العظيم،
وأنكرنا هذه البدعة.. فإنه جل جلاله تنزه عن العديل والنظير (لا تدركه الأبصار وهو
يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) وتقدمت مراسمنا باستدعاء التقي ابن التيمية
المذكور إلى أبوابنا عندما شاعت فتاويه شامًا ومصرًا، ولما وصل إلينا الجمع أولوا
الحل والعقد، وذوو التحقيق والنقد، وحضر قضاة الإسلام، وحكام الأنام، وعلماء
الدين، وعقد له مجلس شرع، فثبت عند ذلك عليه جميع ما نسب إليه بمقتضى خط يده، الدال
على منكر ومعتقده، وانفصل ذلك الجمع وهم لعقيدته منكرون، ولما ثبت ذلك في مجلس
الحكم العزيز المالكي، حكم الشرع الشريف بأن يسجن هذا المذكور، ويمنع من التصرف
والظهور، فليُلزَم كلُّ واحد من الحنابلة بالرجوع عما أنكره الأئمة من هذه
العقيدة، والخروج من هذه المشتبهات الشديدة، ولزوم ما أمر الله به من التمسك
بمذاهب أهل الإيمان الحميدة ، فإنه من خرج عن أمر الله تعالى (فقد ضل سواء السبيل)...".
وهي المحاكمة التي
سجنت ابن تيمية، حيث مات في السجن، ولكن أفكاره لا تموت؛ لأن الفكرة كالثمرة لا
تموت ما دامت وجدت مَن يسقيها ويرعاها، وهو ما حدث لفكر ابن تيمية الدموي.
حفظ الله مصر وكل
الإنسانية من شرور التكفير والدم.
0 تعليقات