نصر القفاص
لم يقل الشاعر "إسكب
على الأرض دواء الجهول" من فراغ..
فالشاعر نفسه قال:
"اشرب نقيع السم من عاقل" وهذه المعانى عبر عنها المفكر المبدع "علاء
الدين سويلم" حين تناول المسافة بين علم جاءت به الحملة الفرنسية إلى مصر, وجهل
كان يتحكم فى مقدراتها وفى شعبها..
وحرضتنى هذه الرؤية
على العودة إلى كتاب "لمحة عامة على مصر" الذى كتبه "كلوت بك"
قبل نحو مائتى عام, وترجمه "محمد مسعود" لتنشره "دار الموقف العربى"
وهو كتاب رائع يساعدك على فهم تطور مصر وشعبها فى العصر الحديث.
يروى المؤلف – كلوت
بك – حكاية الحملة الفرنسية قبل وصولها إلى مصر, فيقول أن روسيتى" قنصل
النمسا فى مصر ذهب لمقابلة "مراد بك" زعيم المماليك وحاكم القاهرة.. وحدثه
بأن "نابليون بونابرت" استولى على جزيرة "مالطا" وسيتجه إلى
الإسكندرية للسيطرة على بر مصر.. ونصحه بأن يتخذ وسائل الحيطة, ويستعد للدفاع عن
البلاد..
فكان جواب "مراد
بك" أن ضحك وقهقه.. ثم قال لا تحاول أن تخيفني من الفرنسيين.. فلو جاءوا حتى
بمائة ألف رجل, سأرسل لهم بعض تلاميذ المماليك ليقطعوا رقابهم.. وفشلت كل محاولات "روسيتى"
لإقناع المتحكم فى شئون البلاد!!
وصل الفرنسيون إلى
الإسكندرية ودكوها بالمدافع, وسيطروا عليها ثم أخذوا طريقهم إلى القاهرة..
هنا استدعى "مراد
بك" صديقه "مسيو روسيتى" وحدثه بغضب قائلا: "هؤلاء الفرنسيين
الوقحاء اجترأوا على تدنيس أرض مصر, لذلك أطلب منك أن تخاطبهم وتقول لهم على لسانى
بأننى أسألهم الجلاء عن أرضنا"!!
ففوجىء بأن "روسيتى" يرد عليه بقوله:
"لكنهم لم يأتوا يا مولاى إلى هنا ليعودوا كما جاءوا بمجرد أن أنقل لهم الطلب
على لسانك".
فاندهش "مراد بك" وأصابته خيبة أمل..
ثم سأله: "وماذا
يريد هؤلاء الكفار منا"!!
وأضاف قائلا: "إن كانوا طامعين فى مال, فأنا
مستعد أن أرسل إليهم بكذا ألف من البطاق – صرة تساوى خمسين ألف فرنك – ليرحلوا عن
بلادنا" فسمع من "روسيتى" ما كان يجب أن يسمعه: "هذا المبلغ
يا مولاى لا يعادل أجرة شحن أصغر سفينة نقلتهم إلى مصر.. والأولى بكم أن تأخذوا
عدتكم للدفاع عن مصر".
كانت هذه عقلية "مراد
بك" الذى نصبته الدولة العثمانية "متحكما" فى شئون مصر مع غيره من
المماليك الذين كان يطلق عليهم وصف "عسكر" وهؤلاء كانوا ينهبون ثروات
البلاد لحساب الإمبراطور فى الآستانة – اسطنبول – ويحرصون على أن يستمر الجهل
والفقر والمرض, ينهش فى لحم وعظام المصريين..
ولك أن تتخيل أن
تعداد مصر كان يتناقص لدرجة أن وصل إلى 2,5 مليون نسمة بعد أن كان أربعة ونصف
مليون نسمة.. وكان ذلك أعظم إنجاز للدولة العثمانية على أرض مصر, منذ أن احتلوها
عام 1517.. المهم أن "مراد بك" ورجاله من "العسكر" تركوا
البلاد وهربوا إلى الوجه القبلى, وتركوا الشعب يواجه الحملة الفرنسية.. فكان ما
تعرفه من معلومات عن مقاومة الشعب.. وثورتى "القاهرة الأولى" و"القاهرة
الثانية" حتى فرضوا على الفرنسيين أن يرحلوا بعد ثلاث سنوات.
كان هناك رجل اسمه "محمد
على" على رأس فرقة مسلحة ضمن القوات التى استجلبتها الدولة العثمانية.. لكنه
مختلف عن غيره من "العسكر" لأنه أدرك قيمة هذه البقعة الجغرافية السحرية,
وفهم الذين يعيشون على أرضها وتكونت لديه عقيدة نسميها بلغة زمننا هذا "الوطنية"
وشرع فى التقرب إلى الشعب وكباره.. حتى نصبوه رغما عن أنف الامبراطور العثمانى, حاكما
على البلاد بقوة فعل وقدرة "عمر مكرم" وعزلوا آخر حاكم لمصر بإرادة
الباشا القاطن "اسطنبول" وكان اسمه "خورشيد باشا" والطريف أن
الشعب حاصره فى قصره بالقلعة لمدة 48 يوما.. ويوم رحيله كان فرحا عارما, ودعه
الشعب بهتاف "يا خورشيد يابن المرة.. يللا روح على أنقرة"!!
حتى ركب سفينة من
ميناء "بولاق" وغادر البلاد.
منذ أن تولى "محمد
على" حكم مصر, كان عليه أن يقاتل "العسكر" ليتخلص منهم.. وهم
حاولوا زعزعة أركان دولته وإرهابه.. واستمر الصراع لست سنوات, حتى كانت "مذبحة
القلعة" وبعدها حاول "محمد على" تكوين جيش يحمى البلاد بعقيدة
وطنية.. لم يكن الأمر سهلا.. بل تطلب سنوات واجتهادات.. كانت أبرز محطاتها عام 1815
حين حاول تكوين نواة الجيش, فزرعوا حوله الفتن وحاصروه بالشائعات والأكاذيب لتفشل
المحاولة.. وكررها عام 1820 حين استقبل "الكولونيل سيف" أو "سليمان
باشا الفرنساوى" وكلفه بأن يبدأ فى إنشاء الجيش, واختار مدينة "أسوان"
لتكوين أول مقر لأول مدرسة – كلية – حربية.. وتخرجت أول دفعة من الضباط عام 1823..
وبعدها اتجه إلى إنشاء مدرسة لإعداد الجنود.. واختار لها مدينة "منفلوط"..
ولما أصبح للبلاد جيش
دارت عجلة النهضة.. فكان إنشاء مدارس – كليات – الطب والصيدلة والألسن والمحاسبة, ثم
مصانع البارود والذخيرة والسفن التى اكتملت بإنشاء ترسانة الإسكندرية عام 1831.. وأصبحت
مصر دولة أكبر وأقوى وأكثر تقدما من الإمبراطورية التى كانت تتبعها.
كان الجيش هو أساس
النهضة الحديثة.. وكانت قوته وما امتلكه من قوة وعلم, سببا فى تحالف الإمبراطورية
العثمانية مع الإمبراطورية البريطانية وبدعم من القوى العظمى لهذا الزمان.. أملا
وطمعا فى تحطيم هذا الجيش كمدخل لتحطيم البلاد.. تكررت المحاولات.. وتكرر فشلها
رغم أن تلك القوى فرضت ما يسمى بمعاهدة 1840 التى أنقذت الإمبراطورية العثمانية من
السقوط أمام الجيش المصرى.. ولم يهدأ الطامعون فى البلاد, حتى تمكنوا من احتلال
مصر عام 1882.. وكان أول قرار بسلطة الاحتلال هو حل الجيش المصرى!! وعادت مصر
مستعمرة للانجليز.. ولم تنل استقلالها إلا عندما ظهرت نواة جديدة لاستعادة الجيش
المصرى.. وكانت هذه النواة هى الطليعة التى تحركت بقيادة "جمال عبد الناصر"
لتفرض استقلال مصر وتحررها.. ثم كانت عجلة الأحداث التى نعرف فقط عناوينها, بسبب
الفصل بين الشعب وتاريخه.. ثم تعرضنا لحملات تزوير وتشويه للتاريخ, لدرجة أنهم
استغلوا الخونة والمتآمرين والسذج لكى يحاولوا الفصل بين الجيش والشعب.. بل حاولوا
التقليل من شأن الجيش بإطلاق وصف "العسكر" على رجاله.. والحقيقة أن جيش
مصر هو الذى خلصها من العسكر!!
كل هذه حقائق
ومعلومات وتفاصيل يجب أن نفتح الكتب لنعرفها وندرسها ونفهمها.. ولأن "علاء
سويلم" لا يؤذن فى "مالطا".. فقد جاءت لحظة "الاختيار" لكى
يستعيد الشعب وعيه.. وجاءت لحظة تتشكل فيها نخبة جديدة, تعرف وتدرك أننا أمام لحظة
فارقة فى عمر هذا الوطن.. هذه اللحظة تفرض علينا أن نلتف حول هذا الجيش وقيادته.. وإذا
كان فيلم "الممر" قدر حرك ساكنا.. فإن مسلسل "الاختيار" خلق
الحالة التى لا يجب أن نفرط فيها.. وذلك يتطلب وقفة حاسمة لإعادة صياغة آلات
وماكينات صناعة الوعى, وأقصد بها الثقافة والإعلام.. فالحقيقة أن كل الاجتهادات
على مدى سنوات سابقة أكدت سذاجة التعامل مع هذه الملفات المهمة والخطيرة.. فإذا
كانت المشروعات القومية والإنجازات التى تحققت فى مجالات التنمية الاقتصادية
والاجتماعية, غير مسبوقة.. فالشعور بها أقل من حجمها لأن مصر تعيش حالة عشوائية
إعلامية وثقافية غير مسبوقة.. ولن أضيف حديثا عن الوفاة الإكلينيكية للأحزاب
السياسية التى أنتجت برلمانا هزيلا.. وهذا موضوع آخر!!
لكن المهم أن "كلوت
بك" يقول فى روايته: "هكذا كان غرور المماليك بأنفسهم, وجهل الذين
يقبضون على دفة إدارة الحكم فى الدولة العثمانية.. حتى ظهر محمد على ليقلب الصورة
بالعرق والدم والعلم.. عندما نجح فى بناء نخبة قوية ساعدته فى بناء نهضة محفورة
على جدران التاريخ"!!
0 تعليقات