محمود جابر
الخلاف الذي كان فى
مسألة الخلافة أو الإمامة بما له من أبعاد نصوصية أو شورية فقد دخل حيز آخر من
الخطورة حتى وصل إلى العقيدة ونشأ علم "التوحيد" ليكون مجالاً للخصومة
لا الدراسة والعلم0
وكان أول مسألة أثيرت
فيه – مسألة مُرتكب الكبيرة، أثارها الخوارج وسيوفهم فى أيديهم، والخصام بين
المسلمين قد بلغ غايته حتى أنهم كانوا يرعون دم الذمي، ولا يرعون دم المسلم ابن
جلدتهم، لأنهم ذهبوا وبئس ما ذهبوا إليه أن مرتكب الكبيرة كافر مستباح الدم0
ثم تجددت هذه المسألة
بين الحسن البصري وتلميذه ابن عطاء، فجعلت التلميذ يضاد شيخه ومعلمه، ويعتزل
مجلسه، ويكون مجلساً آخر يتصدر فيه برأيه الذي ظن أنه مختلف، وقد كان واصل يرى أن
مرتكب الكبيرة ليس مؤمنا ولا بكافر، وإنما بمنزلة بين المنزلتين، بمعنى أنه (فاسق)
ولكن كان يرى أنه مخلد فى النار وهو رأى الخوارج من قبل وكان الحسن البصري يرى أن
مرتكب الكبيرة (منافق)!!!
ثم جاءت مسألة أخرى
عن خلق القرآن فزادت النار اشتعالاً وقد كان هذا وقت زادت فيه نار الفتنة بين
الأمة من المعتزلة ومن خالفهم فى ذلك، وتعصب المأمون ومن أتى بعده لرأى المعتزلة
وانقسمت الأمة على نفسها حتى إذا ما جاء المتوكل أحد ملوك بنى العباس انتصر لرأى
أحمد بن حنبل وجماعة معه لتدور الرحى مرة ثانية من القتل والسجن والتعذيب0
وظل الحال كما هو
عليه حتى بعد أن حاول أبو الحسن الأشعري محاولة التقريب بين المعتزلة وأهل السنة
ولكن قامت خصومة شديدة بينه وبين المعتزلة من جهة وبين الحرس القديم لأهل السنة من
جهة أخرى0
وفى عهد الملك طغر
لبك السلجوقى انتصر الكرامية (المعتزلة) فى خراسان وغيرها، فعذب الأشاعرة وأهل
السنة وفروا إلى الحجاز0
وفى عهد الوزير نظام
الملك ناصر الأشاعرة وعذب غيرهم وشردهم حتى طغى مذهب الأشاعرة على غيره ، وذاقت
المعتزلة الاضطهاد حتى انمحى آثارهم ، ولم يعد هناك مذهب غير مذهب الأشعرية فى
التوحيد حتى يومنا هذا0
وتطور هذا الخلاف إلى
ما هو أخطر من هذا، فقد عمد البعض على أن يقيم هذه الخصومة على أساس من الدين،
لتكون الخصومة مشروعة لا إثم فيها، ويثاب أصحابها ويكونوا من الفرقة الناجية،
ويكون كل من عاداه وخالفه هالك معذب0
بنوا تلك الفكرة على
حديث مشهور بينهم، دون مراجعته فى متنه وسنده والذي لا يتلاءم مع طبيعة الإسلام،
وما هو معلوم من الدين، فقد ذهب أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي صاحب كتاب (الفرق
بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم) وقد عقد الباب الأول من كتابه فى بيان
الحديث المأثور فى افتراق الأمة0
فساق الحديث من طرقه
الثلاث، ثم رتب عليه ما أراده فى الباب الأول وطرقه الثلاث هي:-
1- أخبرنا أبو سهل
بشر بن أحمد بن بشار الاسفاريين، قال: أخبرنا عبد الله بن ناجية، قال: حدثنا وهب
بن بقية عن خالد بن عبد الله عن محمد بن عمرو عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
"افترقت
اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي
على ثلاث وسبعين فرقة"
2- أخبرنا أبو محمد
عبد الله بن محمد بن على بن زياد السهذى المعدل الثقة، قال: أخبرنا أحمد بن الحسين
بين عبد الجبار، قال: حدثنا الهيثم بن خارجة قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد
الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
"ليأتين على
أمتي ما أتى على بنى إسرائيل، تفرق بنوا إسرائيل على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق
أمتي ثلاثة وسبعين ملة، تزيد عليهم ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة"، قالوا:
يا رسول الله، وما الملة التي تغلب؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي".
3- أخبرنا القاضي أبو
محمد عبد الله بن عمر المالكي، قال: ثنا أبى، عن أبيه، قال: ثنا الوليد بن مسلم،
قال: ثنا الأوزاعى، قال: ثنا قتادة، عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
"إن بنى إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين
فرقة، كلها فى النار إلى واحدة وهى الجماعة" ثم ذكر أسانيد كثيرة0
إن للحديث الوارد فى
افتراق الأمة أسانيد كثيرة، وقد رواه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جماعة من
الصحابة، كأنس بن مالك، عامر بن واثلة، وأبو هريرة، وأبى الدرداء، وجابر بن عبد
الله، وأبو سعيد الخدرى، وأبى بن كعب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو أمامة
وغيرهم، ثم ذكر أبو منصور البغدادي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يريد
الفرق المذمومة التي هي من أهل النار، بل فرق الفقهاء الذين اختلفوا فى فروع
الفقه، مع اتفاقهم فى الأصول، لأن المسلمين فيما اختلفوا فيه على قولين:
الأول: قول من يرى تصويب المجتهدين كلهم فى فروع
الفقه0
الثاني: قول من يرى تصويب واحد فى كل فرع من
المختلفين، وتخطيئه الباقين من غير تضليل للمخطئ فيه0
فلا يريد النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم)على ما زعم أبو منصور البغدادي إلا فرق أصحاب الأهواء الضالة
الذين خالفوا الفرقة الناجية فى أبواب العدل والتوحيد والخير والشر، والوعد
والوعيد والقدرة والمشيئة وغيرها من الأبواب التي اتفق فيها على أصل واحد، وقد
خالفهم فيها أصحاب الأهواء الضالة وغيرهم من فرق الضلال، وبهذا صح عنده تأويل ذلك
الحديث0
ولكن ما يراه أبو
منصور البغدادي من صحة هذا الحديث غير مسلم به، فقد قال ابن حزم فى كتابه الفصل: ذكروا
حديثا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة،
وحديثا آخر تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة كلها فى النار حاشا واحدة، وهذان
حديثان لا يصحان أصلاً من طريق الإسناد، وما كان هكذا فليس بحجة عند من يقول بخبر
الواحد، فكيف بمن لا يقول به؟
وقد قال ابن الوزير
فى كتابه العواصم والقواصم:
إياك أن تغتر بزيادة
(كلها فى النار إلا واحدة) فإنها زيادة فاسدة، ولا تبعد أن تكون من دسيس الملاحدة0
وما طعن به فى سند
الحديث أن فيه محمد بن عمر الليثى، وهو مما أخرج له الشيخان فى المتابعات فقط ،
ومثله لا يحتج به إذا لم يتابع، وقد قال فيه الذهبي: محمد بن عمرو الليثى لم يحتج
به منفرداً ، ولكن مقروناً بغيره ، وكذلك فى بعض سنده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم،
وفى بعضه كثير بن عبد الله وفى بعضه عباد بن يوسف، وراشد بن سعد، وفى بعضه الوليد
بن مسلم وفى بعضه مجاهيل كما يظهر من كتب الحديث والرجال0
وقد أخرج صاحب مسند
الفردوس قال: أخبرنا أبو ثابت بن منصور أخبرنا جعفر بن محمد بن الحسن الأبهرى، ثنا
صالح بن أحمد الحافظ، ثنا إبراهيم بن محمد بن يعقوب ثنا الحسن بن زولاق، ثنا نعيم
بن حماد، ثنا يحيى بن يمان، عن ياسين الزيات، عن سعد بن سعيد أخي يحيى، عن أنس،
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "تفترق أمتي على بضع وسبعين
فرقة، كلها فى الجنة إلا الزنادقة"0
وقد قال الشمس بن
محمد بن أحمد البشارى المقدسى فى كتابه (أحسن التقاسيم) بعد أن عدد الفرق وذكر
حديث (اثنتان وسبعون فى الجنة وواحدة فى النار)، وحديث (اثنتان وسبعون فى النار
وواحدة ناجية) هذا أشهر، والأول أصح إسناداً وهناك من ينتصر لزيادة "كلها فى
النار إلا واحدة" وقد رأى هؤلاء أن يوفقوا بين الروايتين، حتى لا تبطل
الزيادة بالتعارض، فحمل أحدهما على الابتداء والآخر على الانتهاء0 الجنة فى
النهاية0
وبهذا يتضح عور من
يحمل اختلاف الأمة على الضلال سواء كان فى الأصول أو الفروع لأن جمهور المسلمين
ذهبوا إلى أنه لا كفر مع التأويل ولو خرق الإجماع0
وأنه إذا كان فى
الشرع أشياء أجمع المسلمون على حملها على ظاهرها وأشياء أجمعوا على تأويلها0
وأشياء اختلفوا فيها، فهل يجوز أن يؤدى البرهان إلى تأويل ما أجمعوا على ظاهره أو
ظاهر ما أجمعوا على تأويله؟ ثم أجاب عن هذا بأنه لا يصح ذلك إذا ثبت الإجماع بطريق
يقيني، وإذا كان ظنياً فقد يصح خرق الإجماع، ولهذا قال الغزالي وإمام الحرمين: إنه
لا يقطع بكفر من خرق الإجماع بالتأويل فى أمثال هذه الأشياء0
أما قضية المذاهب
الإسلامية والفرق فيجب أن نتعامل معها من منظور رحب داعين إلى وفاق لا خصام، وإلى
اجتماع والتئام وليس إلى قطيعة وانفصام 0 وثمة نقطة جوهرية هنا، تتصل بمنهج
التعامل مع هذه القضية أن هناك نقاط اتفاق ونقاط اختلاف ونحن لا نريد أن ننتصر
لمذهب على مذهب أو لفرقة على أخرى، نحن نستهدف وحدة أمة ومستقبل دين0
0 تعليقات