د. عبد الفتاح مطاوع
بين الحين والحين، نسمع تسريبات
جديدة عن سد النهضة، وكثيراً ما نقرأ عن تسريبات مكررة، ولكننا لم نرى أي كرامة من
كراماته حتى الآن، إلا لو كانت البوليتيكا والحروب الكلامية والدعائية كرامات، بل
نجد أن معظم المعلومات الواردة عن هذا السد منذ بذرة فكرته، مروراً بالإعلان عنه،
ثم زيادة سعته عدة مرات، ومراحل إنشائه التى لم تنته حتى الآن، ومواعيد تشغيله
التجريبية لعدد ٢ تربينة كهرومائية، بعد مرور تسع سنوات على وضع حجر أساسه، وعدم
وضوح الرؤية حول اكتمال بنائه حتى الآن، كلها تشير إلى أن مشروع سد النهضة كان
حلماً فخاطراً فاحتمالاً، ولم يصبح بعد واقعاً، بل خيالاً حتى الآن.
قرارات إثيوبية صعبة في زمن صعب:
فهناك العديد من القرارات الصعبة التي على الحكومة الإثيوبية أن تتخذها
سريعاً جداً، وقبل الانتخابات الداخلية التي كان مقرراً لها سبتمبر من هذا العام،
وأجلت إلى أجل غير مسمى بسبب جائحة كورونا، وربما لأسباب أخرى، ومن هذه القرارات
الصعبة المفاضلة بين تدبير الموارد المالية اللازمة لاستكمال بناء السد، أم تدبير
تلك الموارد اللازمة لغذاء الإثيوبيين والحفاظ على صحتهم، أم تدبيرها لتشغيل شبكات
الطاقة، أم لتشغيل العمالة العاطلة والمهددة بالبطالة بسبب كورونا، وتلك إجابات
ينتظرها رجل الشارع الأثيوبي.
وهناك قرارات إثيوبية صعبة أخرى على المستويين الإقليمي والدولي، ومنها مدى
جاهزية النظام الحاكم الآن، في التعامل مع ما تحت السطح من توترات عرقية وقبلية و
صراع وتنافس على الثروة والسلطة، وفي نفس الوقت المغامرة بالدخول في نزاعات
وصراعات غير محسوبة وغير محمودة العواقب للنظام، إذا ما استمر عناده وشروعه فى
بداية ملء السد قبل توقيعه على وثيقة واشنطن، وكيف ستكون صورته أمام المجتمع
الدولي؟ حيث شعب يعانى من العديد من الأزمات و نظام فاقد للرؤية.
وما هي قدرة النظام والشعب على الصمود فى ظل استمرارية الوضع على ما هو
عليه؟ خاصة و أن إثيوبيا مر عليها ثلاثة أنظمة مختلفة خلال الست سنوات الماضية،
اعتلى فيها سدة الحكم ثلاثة رؤساء وزراء من أعراق مختلفة.
سد النهضة كنموذج جيد للفشل:
ولا عجب ولا عجاب أن يكون سد النهضة نموذجاً (جيداً) للفشل، إذا ما تم
تدريسه كحالة دراسية فى الجامعات ومراكز البحث العلمي، أيا كان تخصصها في العلوم
السياسية أو الاقتصادية أو الفنية التكنولوجية أو القانونية أو النظم الإدارية
والمؤسسية.
و أعتقد أن هذا ما اكتشفه فريق وزارة الخزانة الأمريكية و البنك الدولي،
عندما تقدمت الدول الثلاثة بمقترحاتها للملء الأول والتشغيل والإدارة وآلية حل
المنازعات.
فكيف لسد لتوليد الطاقة الكهربائية بقدرة ١٢٠٠ ميجا وات و بسعة تخزينية
للمياه ١٤ مليار م٣ و بتكلفة تقديرية قرابة مليار دولار امريكي واحد، أن يتحول في
خلال أقل من عام إلى سد عملاق بقدرة ٦٠٠٠ ميجا وات و بسعة تخزينية للمياه ٧٤ مليار
م٣ وبتكلفة تقديرية أكثر من ٤,٨ مليار دولار أمريكي؟
الطامة الكبرى، هي أن قدرة السد على توليد الكهرباء عند اكتماله، وحسبما
جاء على لسان و مقالات وكتب الكثير من الخبراء، لن تكون أكثر من ١٨٠٠ ميجا وات
فقط، فبأي منطق يا سادة يا كرام لزيادة مقدارها ٦٠٠ ميجا وات أن تزيد تكلفة إنشاء
المشروع ٣,٨ مليار دولار أمريكى تم جمعها من عرق الإثيوبيين؟ وتم إنفاقها فى صفقات
يندى لها الجبين، وكان من نتائجها فيما هو معلن اغتيال مدير المشروع، و تقديم
العديد للتحقيق فى إدارة بعض الصفقات و المقاولات.
حروب كلامية وإعلامية:
المدهش والغريب والعجيب، أنه تصدر بين الفينة والأخرى بعض التصريحات ممن
يعلمون ببعض الحقائق، وممن لا يعلمون، وآخرها تصريح حول النجاح في جمع التبرعات من
الشعب الإثيوبي لمبلغ ١٦ مليون دولار أمريكي، خلال الشهور الثلاثة الماضية،
لاستكمال أعمال الإنشاءات الخاصة بالسد، وهو مبلغ ضئيل مقارنة بتكاليف السد
المقدرة بأربعة مليارات و٨٠٠ مليون من الدولارات الأمريكية، عندها قيل ان نجاح
عملية لم الفلوس او جمعها كانت بسبب الانحياز الأمريكي لمصر فى صياغة وثيقة واشنطن
في فبراير الماضي، و أن إثيوبيا ستمضي في ملء السد، متى؟ بداية من يونيو ويوليو
عام ٢٠٢١ ، أي العام القادم ولمدة ثلاثة سنوات متتالية لملء خزان السد و توفية حصة
السودان، ومنع المياه من الوصول لمصر مدة سنوات الملء الثلاثة.
ما العمل الآن؟
و بناء علي ما تقدم، فإنني أرى ألا يتم التعليق على أية تصريحات أو تسريبات
أو حروب كلامية، تأتى من البر أو الشاطئ الآخر لمدة شهرين على الأقل، و لننظر إلى
الأمام، و لنتأمل ما الذي تخبئه الأيام القادمة لإثيوبيا و للشعب الإثيوبي الصديق
دائما ؟.
أما بالنسبة لنا فى هذه المرحلة، فعلينا التركيز فى المياه الموجودة في
المحفظة المائية فى بحيرة ناصر الآن، و تصريف جزء منها لمنخفضات توشكى و للبحر
الأبيض لأجل أمان السد العالي، و استخدام جزء منها فى زيادة مساحة الأرز والذرة
لصيف ٢٠٢٠ ، لزيادة مخزون الحبوب فى مخازن غلال مصر و محفظتها الغذائية، حيث أن
تلك المياه سوف تتزايد في بحيرة السد خلال موسم الفيضان الحالي و القادم، لأسباب
تتعلق بزيادة مياه بحيرة فيكتوريا و غيرها من مياه الهضبة الاستوائية و النيل
الأبيض.
و كذلك التركيز فيما يجب أن نصنعه إذا ما تكررت سنوات الفيضان العالية
ببحيرة ناصر؟ وفيما يجب أن نفعله لتعظيم محفظتنا المائية والغذائية في عالم كورونا
وما بعدها، والتركيز أيضاً فيما يجب أن نفعله حفاظاً على حقوقنا المائية، و ما يجب
أن نفعله كثير، و تلك رواية أخرى، سنرويها لك عزيزي القارئ في وقت قريب.
* خبير المياه
0 تعليقات