نصر القفاص
وقت أن كانت "الحملة الفرنسية" تغادر مصر مهزومة.. مكسورة.. كانت
مدينة "طهطا" التابعة – آنذاك – لمدينة "جرجا" تستقبل طفلا
ملأ مصر علما ونورا وثقافة..
ولد "رفاعة بدوى على رافع" والذى ذاع صيته, واقترن اسمه بمدينته..
ظهرت عليه علامات النبوغ من طفولته, بحفظه للقرآن ورغبته فى القراءة.. لفت ذلك نظر
أقاربه وأهله, فتولى أخواله رعايته.. وبوفاة والده عام 1817 جاء إلى القاهرة, والتحق
بالأزهر.. ومن حسن حظه – وحظ مصر – أن تولاه بالرعاية الشيخ "حسن العطار"
الذى تولى قيادة الأزهر..
وكان الشيخ "حسن العطار" مثقفا ومبدعا وعالما كبيرا.. كان يحب
قراءة الأدب ويغوص فى علم الجغرافيا والطب وله فيها كتب – لا يدرسها الأزهر – ولفت
تلميذه "رفاعة" نظره, فقربه منه وكان يسمح له بالتردد على بيته ليوجهه
إلى قراءة الأدب والجغرافيا والتاريخ, إلى جانب العلوم الفقهية والشرعية.
سنوات قليلة من وجوده فى الأزهر, ذاع بعدها اسمه وصيته.. انتقل من الدراسة
إلى التدريس فى سن مبكرة.. كان يتميز ببلاغته البسيطة, وجاذبيته فى الحديث مع قدرة
على خطف عقول من يدرسون على يديه.. وضح انصرافه للعلم والمعرفة, ورغم أنه كان أقرب
للفقر.. لم يفكر فيما يمكن أن يفعله لكسب المال..
رشحه شيخ الأزهر عام 1824 لكى يعطى
دروسا لضباط الجيش الجدد.. أعجبته حياة هؤلاء المقاتلين الجدد, حاكاهم فى الانضباط
بعد أن عرف أن الحياة العسكرية تختلف عن الحياة المدنية.. تعلم منهم كما علمهم..
وفى عام 1826 كان "محمد على" قد قرر إيفاد البعثات إلى فرنسا.. طلب
من الشيخ "حسن العطار" ترشيح أربعة من شيوخ الأزهر لمرافقة أول بعثة
علمية, فوضع "رفاعة" على رأسهم – أربعة شيوخ – وسافر كإمام وخطيب للبعثة..
من اللحظة الأولى بدأ تعلم لغة قوم هو فى طريقه لكى يعيش بينهم.. بل راح
يدرس نظام هذه البلاد وحياة أهلها بالقراءة عنهم.. دفع راتبه ثمن دروس اللغة
الفرنسية, وعندما أجادها انفتح على هذا المجتمع.. راح يتعرف على العلماء والمثقفين
والمبدعين, دون أن يكتفى بقراءة إنتاجهم..
وقال فى كتابه "تخليص الإبريز فى تلخيص باريز" أنه أجاد اللغة
الفرنسية – قراءة وكتابة – خلال ثلاث سنوات..
قرأ مؤلفات "فولتير" و"جان
جاك روسو" و"مونتسكيو" و"راسين" وأعجبه "مونتسكيو"
لسابق قراءته وإعجابه بـ"ابن خلدون".. وأخذ بنصيحة أستاذه وشيخه "حسن
العطار" الذى أشار عليه بتسجيل رحلته ورؤيته وتفاصيلها, فكانت هى مادة كتابه –
العمدة – "تخليص الإبريز" واستثمر إجادته للغة بترجمة ما كان يقرأ من
كتب عسكرية وفى الجغرافيا والتاريخ والفلسفة والسياسة.. تواصل مع "المستشرقين"
وراح يحاورهم باحثا عن الفهم والمعرفة.. ترك ذلك أثرا عميقا لديهم, فتابعوه بعد
ذلك وكتبوا عنه ودرسوا سيرته وكتبه, ومازال "رفاعة الطهطاوى" ومؤلفاته
مادة دراسة فى "فرنسا".. لكن الأزهر لا يلقى بالا له ولا لإنتاجه الفكري!!
سافر الشيخ "رفاعة" إلى فرنسا عام 1826, وعاد أستاذا كبيرا عام 1831..
خمس سنوات أنجز خلالها ما يصعب على غيره إنجازه فى أكثر من عشر سنوات..
عاد راغبا فى تعريب ونقل عشرات الكتب التى كان يرى أن شباب بلده يجب أن
يقرأها..
تفرغ لذلك وراح يسابق الزمن لإنجاز كتاب بعد الآخر.. أسندوا له تدريس اللغة
الفرنسية فى أول مدرسة للطب – أبو زعبل – وبعدها بعامين انتقل إلى مدرسة المدفعية –
الطوبجية – فى "طرة" ليقوم بتدريس ما ترجمه فى الهندسة والعلوم العسكرية..
واستمر يواصل العطاء حتى تقدم
باقتراح إلى "محمد على" بإنشاء مدرسة "الألسن" فوافق "الباشا"
واختار لها "سراي الألفي" بجوار قصر "زينب هانم" ابنته – فندق
شبرد حاليا – وانطلق مشواره لتخريج عشرات المترجمين المبدعين عام 1836..
اختار من طلبة الأزهر 50 تلميذا فى العام الأول, وراح العدد يتزايد حتى
وصلوا إلى 150 طالب علم.. درسوا الشعر والأدب واللغة حيث ركز على اللغات الفرنسية
والتركية والإيطالية والانجليزية..
أهتم بتعليم تلامذته التاريخ والجغرافيا وعلوم الشريعة الإسلامية.. فأصبحت
مدرسة "الألسن" النواة الأولى لدراسة علوم الإدارة والآداب والحقوق..
ويروى "على باشا مبارك" فى مذكراته أن الشيخ "رفاعة" كان
يمضى ثلاث وأربع ساعات واقفا خلال تدريسه لطلابه.. وتمتد علاقته معهم بعد ذلك فى
مجالستهم فى بيته..
ويروى عنه "صالح بك مجدى" فى مذكراته أنه كان كريما, لا تشغله
الأموال أو الثروة.. كان بسيطا فى هندامه وملابسه, ونهما فى القراءة والترجمة.. لم
تغيره عطايا "الباشا" له.. بل أن كل من اقتربوا منه, قالوا أنه لم يشعر
بما كان يحصل عليه ولم يطلب يوما.. لذلك انعم عليه "محمد على" بقطعة أرض
250 فدان وأهداه "إبراهيم باشا" حديقة نادرة مساحتها 36 فدان.. وأنعم
عليه "سعيد باشا" بمائتى فدان.. كما أنعم عليه الخديوى "إسماعيل"
بمائتين وخمسين فدان.. لكنه لم يتحدث عن غير علمه وإنتاجه الفكري ورغبته فى
التحصيل والعلم حتى آخر لحظة فى عمره.
عاش الشيخ "رفاعة" مرحلة مهمة فى تاريخ فرنسا, التى شهدت عام 1830
واحدة من أهم ثوراتها فى التاريخ الحديث.. شغلته أسبابها ونتائجها وكتب عنها..
وإذا كان البعض ينظر إلى تكريمه
وتقديره من جانب الحكام بداية من "محمد على" وحتى عصر الخديوى "إسماعيل"
فهناك محطة مهمة..
كئيبة فى حياته.. فبرحيل "إبراهيم
باشا" و"محمد على" تولى الحكم "عباس الأول" وكان يكره
العلم والعلماء ولا يقدر الثقافة أو الإبداع..
فشهد عهده إغلاق العديد من المدارس
العليا وديوان الترجمة الذى يرأسه الشيخ "رفاعة" وذهب إلى حد نفيه إلى "السودان"
بحجة إدارة مدرسة ابتدائية أمر بإنشائها هناك..
والمدهش أنه أبعد معه "محمد بيومي أفندي" كبير أساتذة الهندسة
والرياضيات فى مصر – آنذاك – ومعهما "أحمد طايل أفندى" أهم أساتذة
الرياضيات, مع عدد آخر من المبدعين والعلماء..
وهناك مات عدد منهم, وصمد الشيخ "رفاعة"
خمس سنوات.. يرى عدد من المؤرخين أن كتابه "تخليص الإبريز" كان سببا فى
نفيه, لكن ذلك غير ثابت لأن الكتاب كان مطبوعا ومقروءا قبلها بسنوات.. لكن هؤلاء
يستندون إلى أن "عباس الأول" لم يكن على دراية به, بل التفت إليه حينما
تمت إعادة طباعته فى بداية حكمه!!
نفى "عباس الأول" عالما كبيرا ومرموقا – رفاعة الطهطاوى – وقت أن
كان يدير بعد أن أسس العديد من المدارس العليا – الكليات – أى أنه كان أقرب إلى
رئيس جامعة فى زمننا..
أبعد "الحاكم" الجديد
الرجل الذى قدم لمصر أربعة أجيال من أهم علمائها بينهم "محمد على البقلى باشا"
أبو الطب الحديث و"عبد الله أبو السعود أفندى" مؤسس جريدة "وادي
النيل" كأول صحيفة مستقلة.. و"خليفة أفندى محمود" أهم من ترجم
مجلدات بأكملها.. مئات من العلماء والمثثقفين والمبدعين تعلموا على يد "رفاعة
الطهطاوى" وذكرهم بالتفصيل "صالح مجدى بك" وقدم كل منهم وفضله على
نهضة مصر الحديثة, وأدوارهم فى تنوير وطن كان قد سقط فى غياهب الجهل مئات السنين
فى ظل الاستعمار العثماني.
لم يتحمل عدد من العلماء الحياة فى المنفى.. لكن "رفاعة الطهطاوى"
صنع من المحنة منحة.. علم العشرات من أبناء السودان.. ترجم العديد من الكتب.. وهناك
انتهى من كتابه الرائع "المرشد الأمين" المصدر الأول لتحرير المرأة قبل "قاسم
أمين".
وهناك كتب شعرا رائعا لا يقل عما
قدمه "أحمد شوقى" فيما بعد.. وكان معظم شعره يدور حول مصر وحبه لها, ويفيض
بمعان الوطنية التى راح يؤصلها فكتب رؤيته للمواطن الوطنى قائلا:
"الوطنى المخلص فى حب الوطن, يفدى
وطنه بجميع منافع نفسه.. ويخدمه ببذل إنفاق جميع ما يملك ويفديه بروحه.. يدفع عنه
كل ما يعرضه للضرر, كما يدفع الوالد عن ولده الشر.. ينبغى أن تكون نية أبناء الوطن
دائما متوجهة فى حق وطنهم إلى الفضيلة والشرف.. وينبغى أن يحرص الوطنى المخلص على
حق وطنه وأهله ويقدم لهم كل ما فيه النفع والصلاح.. وعلى أبناء الوطن أن يتعاونوا
لإصلاح وطنهم كأنه الأب والأم" وأفاض فى الشرح فضرب مثلا يكشف قيمة الوطنبة, فقال:
"عندما فهمت أمة الرومانيين معنى حب الوطن وتشبثت به, تسلطوا – حكموا – على
الدنيا بأسرها.. وعندما انسلخت عنهم صفة الوطنية فسد حالهم وانحل عقد نظامهم
وانهارت دولتهم"!!
تعلم الشيخ "رفاعة" فى الأزهر واستفاد من قربه للمؤسسة العسكرية
حين ذهب ليدرسهم علوم الدين.. وتعلم من المجتمع الفرنسى, وترك فيهم علمه وكتبه
وسيرته التى يفخرون بها كونه كان بينهم خمس سنوات..
وأعطى لأهل السودان من علمه وترك بينهم من يذكرونه حتى الآن.. وذاق مرارة
الإبعاد والنفى, دون أن تتأثر نفسه.. لأنه حين عاد بتولى "سعيد باشا" أستأنف
العطاء والبناء والتنوير, وأضاف إبداعا والتاريخ يذكر له أنه المؤسس الأول للفكر الدستوري
فى مصر, وكان وراء تأسيس أول مجلس نيابي فى عصر "إسماعيل" كما ذكر "عبد
الرحمن الرافعى" فى كتابه عن هذا العصر..
ومازالت سيرة "رفاعة الطهطاوى" فيها الكثير مما يجب أن نشير إليه..
ومازال اسمه وعلمه وسيرته لا يتعامل معها "الأزهر" بما يستحق, ويجوز
القول بالتجاهل!!
والمذهل أن وزارة الثقافة مازالت لا تعرف قدر الرجل وقيمته.. لكننا مازلنا
فى سيرته..
يتبع
0 تعليقات