آخر الأخبار

الأزهر.. أصل الحكاية (10)




 

 

 

نصر القفاص

 

 

 

كانت حرب "محمد على" فى الجزيرة العربية – السعودية – ضد "الوهابية" هى أول حرب فى العصر الحديث, ضد التطرف الذى يرفع راية الإسلام..

 

 

كانت أول حرب ضد ما نسميه فى زمننا بالإرهاب.. استمرت هذه الحرب ثمان سنوات, ودفعت مصر ثمنا فادحا خلالها من دم أبنائها وأموال شعبها وثرواتها.. ولأنه تم دفن هذا التاريخ, لم يستفد من دراستها وفهمها غير الطامعين فى ثروات المنطقة بأسرها..

 

 

 

استفاد الاستعمار من درس "محمد على" ولم نستفد, فتم إعادة إنتاج التطرف والإرهاب..

 

 

وفى كل مرحلة من مراحل الزمن يتم تطوير هذا السلاح الفتاك.. حدث ذلك تحت سمع وبصر "شيوخ الأزهر" الذين وجدوا لأنفسهم نصيبا فى هذا الاستثمار!!

 

عاد "محمد على" وقواته من الجزيرة العربية – السعودية – بعد أن أحكم سيطرته على ربوعها وصولا إلى ساحل "سلطنة عمان" و"اليمن" وحتى الخليج العربي..

 

 

وصاغ إستراتيجيته لحفظ الأمن القومي المصري, وهى قديمة قدم تاريخ مصر.. لكنه جددها وبلورها.. وبما أنه أعاد "الإسكندرية" عام 1807 لجسم الوطن, ثم أعاد الوجه القبلي بعد حسمه معركة "المماليك" عام 1810..

 

 

كان قد تبقى له جزء مهم.. لا تندهش إذا قلت لك أنه الصحراء الغربية, كانت خارج سيطرة الدولة المصرية.. فقد كانت تسيطر عليها قبائل متناحرة من البدو.. لذلك اتجه "محمد على" إلى حسم هذا الموضوع.. جهز جيشا من 1300 جندي فقط, وأسند قيادته إلى "حسن بك الشماشرجى" أحد قادة الجيش المصري.. الذى اتجه لتنفيذ المهمة فى شهر فبراير من عام 1820.. ونجح فى تأمين الحدود الغربية بإنشاء سلطة للدولة فى "واحة سيوة" لأول مرة منذ أن سقطت مصر تحت الحكم العثمانى.

 

 

 

عندما ذهب "محمد على" بقواته للجزيرة العربية, اصطحب معه أربعة من كبار المشايخ فى الأزهر يمثلون المذاهب الأربعة.. كان يعتقد فى أنه يمكن لهم القيام بدور تنويرى يسهل دوره فى حسم المعركة ضد "الوهابيين" فاكتشف أنهم لا يملكون هذه القدرة.. أو قل أنهم يرفضون المغامرة, بمواجهة الذين يمارسون التطرف والإرهاب تحت راية الإسلام.. لذلك عقد العزم بعدم الاعتماد عليهم فى بناء الدولة الحديثة..

 

 

 

بقى احترامه وتقديره لصديقه "عمر مكرم" باعتباره يمثل طرازا مختلفا من الرجال.. تركه منفيا فى "دمياط" مع رعاية كان يراها واجبة.. وبعد ثلاث سنوات حاول التخفيف عنه, فحركه ليعيش فى "طنطا" التى قضى فيها سنوات أخرى.. ولما أسعد "عمر مكرم" انتصاراته على "الوهابيين" وكتب له رسالته.. أعاده إلى القاهرة فى يناير عام 1819, حتى يستعد لأداء الحج برعاية "الباشا" الذى لم يفاجئه استقبال أهل العاصمة لبطلهم "الثائر" العظيم والمحترم..

 

 

أقام المواطنون الأفراح ونظم الشعراء القصائد فرحا بعودة "عمر مكرم".. لكن الرجل الذى غادر القاهرة منفيا قبل ثمان سنوات وبضع أشهر, كان غير الذى عاد..

 

 

 

 ومصر التى كانت وقت نفيه, أصبحت غيرها بعد عودته.. بل أن الذين خذلوه وباعوه من "شيوخ الأزهر" كانوا قد غادروا الدنيا واحدا بعد الآخر.. فقد مات الشيخ "الشرقاوى" عام 1812.. ومات الشيخ "السادات" عام 1813.. ومات الشيخ "المهدى" عام 1815.. ومات الشيخ "الدواخلى" عام 1818..

 

 

 لكن السنوات التى عاشها كل منهم وغيرهم, بعد نفى "عمر مكرم" كانت خالية من هذه الهيبة والمكانة فى نظر الشعب..

 

 

والأكثر قسوة أنهم لقوا تجاهلا وعدم تقدير من "الحاكم" وصل إلى حد التنكيل أحيانا..

 

 

 فلما مات الشيخ "الشرقاوى" اكتفى "الباشا" بالترحم عليه!!

 

 

ولما مات الشيخ "السادات" أمر "محمد على" بمصادرة أملاكه وأمواله, وعندما ذهب إليه بعض المشايخ.. فاجأهم حين قال لهم عنه:

 

 "لا أريد إهانة أهله.. لكنه كان طماعا.. جماعا للمال.. طالت حياته فحاز أموالا وعقارات, حرم أهله منها وتركها كلها لجاريته التى تزوجها!! وخزينة الدولة أولى بهذه الأموال"!!

 

 

وبعد فترة من رحيله أعاد أمواله لأهله وإخوته..

 

 

أما الشيخ "المهدي" فقد فشلت محاولاته فى أن يكون شيخا للأزهر, فانصرف للتجارة وجمع المال.. ورضي بتجاهل "الباشا" له..

 

 

 وعن الشيخ "الدواخلى" فقد تولى نقابة الأشراف بعد رحيل الشيخ "السادات" لكنه تجاوز مرة مع بعض رجال "الباشا", فأمر بنفيه إلى "دسوق" وعاش يتوسل برفع العقوبة عنه.. وعندما تدخل "أحمد المحروقى" وافق "محمد على" على أن يعيش فى "المحلة الكبرى" منفيا حتى مات.

 

 

هذه الصورة كانت واضحة بتفاصيلها أمام "عمر مكرم" لذلك اختار أن يعيش متجنبا الناس بمنزله فى "مصر القديمة" واكتفى بما لاقاه من تقدير واحترام واضحين عند الناس ولدى الحاكم.. كان يتابع الأحداث وتطوراتها.. يسمع عن حالة غضب هنا أو هناك من قرارات يصدرها الحاكم.. ويرفض العودة للمشاركة فى التفاعل مع ما يحدث..

 

 

اقتصرت لقاءاته على عدد قليل من الأصدقاء والمقربين, أصبح رافضا للوجود بين الجماهير.. لكن اسمه كان دائما يتردد على ألسنة الناس, كلما حدث ما يجعلهم يبحثون عن نصير وزعيم شعبى.. ولما كان عام 1822 وصدر قانون بالضرائب على المنازل والعقارات, حاولوا الشكوى واستجاروا بالشيخ "محمد العروسى" وكان يتولى مشيخة الأزهر.. لكن الرجل لم يقدر على أكثر من رفع الشكوى, وإبلاغ الناس بأنه حاول فقط.. وتم تنفيذ الأمر الصادر عن الحاكم, كغيره من الأوامر التى كانت قوانينا فى الوقت نفسه!!

 

 

كان عدد من رجال "الباشا" يزعجهم هذا التقدير من جانبه لشخص "عمر مكرم" فحرصوا على رفع تقارير بأن سيرته لا تتوقف على ألسنة الناس.. راحوا يحذرون "محمد على" من أن وجود "عمر مكرم" فى القاهرة قد يؤدى إلى التفاف الجماهير حوله من جديد, وأن ذلك يمكن أن يعيد الاضطراب والفوضى!!

 

 

وحدث أن خرج جمع من المعترضين على الضريبة العقارية, فى "باب الشعرية" وهتفوا باسم "عمر مكرم" ولما بلغ الأمر "الباشا" قرر إعادة نفيه إلى "طنطا" من جديد.

 

 

يوم 5 إبريل عام 1822 ذهب ضابط ومعه عدد من الجنود, إلى منزل "عمر مكرم" فى "مصر القديمة" وكان نائما فأيقظوه.. وقف أمامه الضابط بكل أدب واحترام.. وعندما مد يده لمصافحته انحنى الضابط وقبلها..

 

 

سأله "زعيم مصر" عن سر حضوره قائلا: "خيرا إن شاء الله".. فأجاب الضابط: "سيدى.. الباشا يأمر بسفركم إلى طنطا" فأجاب "عمر مكرم" بأنه جاهز للسفر متى انتهى من إعداد سفينة تحمله إلى هناك.. فقال له الضابط: "كل شيء جاهز يا سيدي"!!

 

 

 فهز الشيخ "عمر مكرم" رأسه وأجاب: "إذن هيا بنا"!!..

 

 

وعاش فى "طنطا" أيامه الأخيرة حتى توفى فى العام نفسه, وبكاه الناس و"الباشا" وكل من سمع سيرته.

 

 

بعد عودته من حرب "الجزيرة العربية" قام "إبراهيم باشا" بمتابعة أحوالها, والإشراف على أهم وأعظم قرار اتخذه "محمد على" وهو بناء جيش وطني من المصريين تجمعه عقيدة الوطن والدفاع عن استقلاله..

 

 

وبدأت هذه الخطوة فى سرية شديدة عام 1820, واختار لتنفيذ المهمة الكولونيل "سيف" الذى نعرفه باسم "سليمان باشا الفرنساوي".. وتم تجهيز أول مقر لإعداد ضباط الجيش الجديد فى "أسوان" واستمر العمل الشاق لمدة ثلاث سنوات حتى تخرجت أول دفعة من ضباط الجيش المصري الحديث عام 1823, وبعدها مباشرة كانت مهمة إعداد أول دفعة من الجنود المحترفين.. واختار لها "محمد على" أن تكون فى "منفلوط" فى أسيوط حتى كان عام 1825, لتأخذ الدولة العثمانية وغيرها من القوى العظمى المفاجأة بأن مصر أصبحت تملك جيشا وطنيا نظاميا حديثا.

 

 

كان عمل "محمد على" لا يتوقف فى بناء الدولة الحديثة..

 

 

اتجه إلى تحديث وتطوير الزراعة, وعلى جانبها اهتم بالصناعة والتعليم..

 

 

وكل مشروعاته كان عمودها الفقري هو الجيش الذى نجح فى بنائه, فقادته هم الذين تولوا تطوير كافة المشروعات.. بل هم الذين تولوا بناء نهضة علمية, كانت أساسا لما جاء بعدها.. ولأن طموح "محمد على" كان أكبر بكثير من أن يكون حاكما.. فقد اتجه إلى العلم والبحث عن مصادره.. شرع فى إرسال البعثات العلمية إلى "فرنسا" التى أدركت أن علاقتها مع مصر تتعمق عبر بوابات العلم والثقافة..

 

 

ولحظة أن وجد "محمد على" ضالته فى رجل الدين والشيخ الذى يقبل الانفتاح على العلم والثقافة.. كانت رعايته له واهتمامه بالشيخ "رفاعة الطهطاوى" الذى أسهم بأدوار رائعة فى بناء نهضة مصر الحديثة, وكان شريكا فى المشوار بأكمله.. وانكسر "رفاعة الطهطاوى" برحيل "محمد على" لأن "عباس الأول" الذى حكم مصر بعده, أبعده إلى "السودان" فعاش فيها أربع سنوات.. وعاد "رفاعة الطهطاوى" بتولى "سعيد باشا" الحكم.. وكان معه كتابه الرائع "المرشد الأمين للبنات والبنين" والذى حمل أفكاره حول ضرورة تحرير المرأة وتعليمها.. وهى الأفكار التى طورها واعتنقها "قاسم أمين" بعدها بسنوات طوال, وذاع صيت "قاسم أمين" على أنه الرجل الذى حرر المرأة.. وبقى كتاب "رفاعة الطهطاوى" وأفكاره فى انتظار أن نعيد إليها الاعتبار.. لكن الشيوخ لم يفعلوا.. ولن يفعلوا.. لأن معركتهم مع أفكار الرجل ستكون أصعب باعتباره أحد أبناء الأزهر.. أما معركتهم مع "قاسم أمين" فهى الأسهل, فقرروا أن يخوضوها ومازالوا يحاربونه!!..

 

 

ويستحق الشيخ "رفاعة" أن نتوقف أمام سيرته بتفاصيل هى حق له وواجب علينا..

 

 

 الأزهر.. أصل الحكاية!! (9)

 

 يتبع


إرسال تعليق

0 تعليقات