نصر القفاص
حسم "محمد على" معركته مع المماليك بمذبحة "القلعة" لأنه
كان يستعد لحرب شاقة وطويلة ومهمة خارج حدود مصر..
فبعد الانتصار على الحملة الانجليزية عام 1807 طلب منه السلطان العثماني
إعداد جيش لمحاربة الدعوة الوهابية فى الجزيرة العربية – السعودية – لكنه تحجج بعد
استقرار الأوضاع فى مصر, وانشغاله بأمر "المماليك" وأزمته مع "عمر
مكرم" و"شيوخ الأزهر"..
وكانت "الآستانة" تجدد الطلب كل عام حتى وصله رسول السلطان العثماني
فى سبتمبر عام 1810, ليخبره بأنه لا مجال للتأجيل أو التسويف..
فالوهابيين أحكموا السيطرة على الجزيرة العربية, وفشلت الجيوش التركية فى التصدي
لهم أو الانتصار عليهم.. ووصل الأمر إلى تعطيل مشاعر الحج, فاهتزت صورة ومكانة
السلطان لعجزه عن القيام بأغلى مهمة – حامى الحرمين الشريفين – كانت تأخذ منها
الدولة العثمانية مكانتها بين المسلمين وباقي القوى الكبرى فى العالم.
قلب "محمد على" الأمر من كافة الوجوه.. وضع فى اعتباره أن الدولة
العثمانية تدفعه إلى حرب تطحنه وجنوده فيها.. تأمل إذا حقق الانتصار أن تستعيد
هيبتها, ولو فشل فى الحرب تتخلص منه.. لكنه فى الوقت نفسه كان يعلم أن هذه الحرب
هى قدر مصر وحاكمها, فهو كان قد أدرك أن أمن مصر ومكانتها تحققهما قدرتها وقوتها
فى محيطها.. وكان يسعى للتخلص من سيف العزل الذى تضعه الدولة العثمانية على رقبته,
وانتصاره سيعنى أن يتعامل مع الدولة العثمانية بندية.. كما أن هذا الانتصار سيحسم
معركته مع الجمود الذى يفرضه "شيوخ الأزهر" على البلاد.. فالحرب التى
سيذهب لخوضها هى مع فصائل ترفع راية التطرف الدينى والجمود, وتقاتل لفرض التخلف
باسم الدين!!
الحرب على الوهابية لم تكن نزهة.. بل كانت قاسية.. فإذا علمنا أنها بدأت
عام 1811 وانتهت عام 1819 سندرك حجم خطورتها, وتأثيرها على مصر اقتصاديا بما
استنزفته من أموال..
كما أن مصر دفعت خلالها دماء أبنائها الذين سقطوا فى ساحات المعارك بالآلاف..
ولعلنا نقدر على القول بأن الحركة الوهابية – آنذاك – كانت قريبة الشبه بما نعرفه
عن "القاعدة" وما فعلته فى "أفغانستان".. وما حدث من "داعش"
فى سوريا والعراق ومصر وليبيا وغيرها فى عصرنا الحديث.. فهى كانت حرب على "الإرهاب"
وفق مفردات الصورة فى العصر الحديث!!
يجدر بنا أن نلقى نظرة على الدعوة الوهابية, وفيها مفتاح لفهم جذور التطرف
باسم الدين الإسلامي..
أسس هذه الدعوة "محمد بن عبد
الوهاب" فى "نجد" بعد أن تلقى العلم على يد والده, وكان قاضيا.. تفرغ
لدراسة الفقه على مذهب الإمام "أحمد بن حنبل" وتنقل بين المدينة المنورة
والبصرة ومنطقة الإحساء فى المنطقة الشرقية للجزيرة العربية..
قدم نفسه على أنه يحاول تنقية
الدين الإسلامي من البدع, وبعد أن التف حوله مريدين أخذ يميل إلى التشدد فى تطبيق
التعاليم الدينية..
ثم تطورت الأمور وأصبح يرجم من يخالفه الرؤية بالكفر والزندقة, واعتبر من
يرفض أحكامه مشركا..
وبدأ يطبق أحكامه وآراءه بقوة السيف.. ووقت أن كان فى الإحساء أصدر حكما
برجم امرأة زانية حتى الموت.. كان للواقعة تأثيرا سلبيا بين الناس, وأنذره حاكم "الإحساء"
بالقتل ما لم يرتجع عن أفكاره ومنهجه..
رحل إلى "الدرعية" – الرياض الآن – وهناك رحب به أميرها "محمد
بن سعود" وأعلن مناصرته لدعوته ودعمه له..
انطلق يدعو القبائل لقبول دعوته بحد السيف.. ورغم أنه من مواليد عام 1703, فقد
استطاع أن يحقق نفوذا ضخما وتضاعف عدد أنصاره بدعم "محمد بن سعود" الذى
توفى عام 1765.. تبنى الدعوة ذاتها ابنه وخليفته "عبد العزيز بن سعود" حتى
توفى "محمد بن عبد الوهاب" عام 1792..
وعبر هذه الدعوة امتد نفوذ
الوهابيين إلى "البصرة" و"كربلاء" وسيطروا عليهما عام 1801
ودارت هناك معارك عنيفة شهدت قتلى وجرحى ونهبا لمسجد "الحسين بن على" الذى
يضم جواهر ونفائس.. وبسبب هذه الوقائع وصل إلى "الدرعية" أحد الشيعة
متنكرا, وقام باغتيال الأمير "عبد العزيز بن سعود" داخل المسجد!!
تولى الأمير "سعود بن عبد العزيز" مكان أبيه, وقرر أن يوسع ويبسط
نفوذه على الجزيرة العربية بأكملها متحالفا مع "الوهابيين" فوصلت قواته
إلى "مسقط" وسيطر على الخليج العربي قبل أن يقرر فتح الحجاز عام 1802..
وكتب إلى السلطان "سليم
الثالث" ليخبره بما ينوى الإقدام عليه, وطلب منه منع "المحمل" الذي
كان يصل إلى الأراضي المقدسة من "دمشق" و"القاهرة" وأوضح فى
رسالته أنه لن يكون للسلطان العثماني نفوذ على "مكة" وفشلت كل محاولات
ردعه أو ترويضه..
وسيطر بالفعل على "المدينة
المنورة" و"مكة" وراح يمد دعوته جنوبا فى "اليمن" كذلك
حاول السيطرة على الشام..
اضطربت الأحوال وانعدم الأمن, وتعطلت مراسم الحج, ودخل الجيش التركى فى
حروب معهم وانتهت كلها بانتصارات للوهابيين الذين سيطروا بالفعل على الجزيرة
العربية.
على هذه الخلفية.. جرت مراسم إعداد "الحملة" عام 1811 إلى
الجزيرة العربية – السعودية الآن – وكانت تضم ثمانية آلاف مقاتل من المشاة وألفين
من الفرسان.. وتولى قيادة الحملة "أحمد طوسون" ابن "محمد على"
وكان فى السابعة عشرة من عمره..
وتولى "محمد المحروقى" ابن "أحمد المحروقى" مسئولية
إدارة شئون ومهمات الحملة, التى تحركت على اتجاهين..
أولهما عن طريق البحر من "السويس" إلى "ينبع"..
والثاني عبر البر عن طريق "العقبة"..
ولما كانت مصر لا تمتلك أسطولا بحريا, فقد قام "محمد على" بإنشاء
عدد من السفن فى "ترسانة بولاق" وتولى الإشراف بنفسه على أعمالها..
وخلال عشرة أشهر فقط تم بناء 18
مركبا ضخما أقلعت يوم 30 سبتمبر عام 1811, وتحرك المشاة والفرسان بقيادة "طوسون"
يوم 6 أكتوبر.. وصحب الحملة أربعة علماء هم: "أحمد الطحاوى", "محمد
المهدى", "الخانكى", و"المقدسى" وكل منهم يمثل مذهبا من
المذاهب الأربعة!!
كل المعلومات التى جمعها "محمد على" قبل إطلاق حملته, أكدت له أن
الأمير "سعود بن عبد العزيز" رجل قوى ويجيد إدارة المعارك الدفاعية
وحوله رجال يدعمونه بقوة لأنهم جميعا مؤمنين بالدعوة الوهابية..
وعرف أن أشراف "مكة" وعلى رأسهم "غالب بن مساعد" فقدوا
تأثيرهم ونفوذهم, لأن مشاعر الحج متوقفة..
وإن كانوا سيتعاطفون مع الحملة, فهم لا يملكون قوة تدعمها.. لكن الحملة
عندما وصلت إلى "ينبع" تمكنت من السيطرة عليها دون مقاومة, وبوصول "طوسون"
وقواته اتجه إلى "المدينة المنورة" وخلال الطريق دارت معارك عنيفة..
نجح خلالها الوهابيون فى تحقيق انتصار, وقتلوا ستمائة من جنود "طوسون"
الذى خسر عتادا كثيرا فى الوقت نفسه, فاضطر إلى التقهقر إلى "ينبع".. وتلقى
"محمد على" هذه الأخبار بحزن شديد, وأرسل يستدعى القادة المعاونين لابنه
وعزلهم عن مواقعهم..
ثم شرع فى إعداد آلاف الجنود بفرض ضرائب جديدة.. وأرسل لابنه صناديق أموال
لاستمالة رجال القبائل الذين مهدوا له طريق السيطرة على "المدينة" و"مكة"!!
يذكر "الجبرتى" أنه فى يوم الثلاثاء الموافق 9 فبراير عام 1813
وردت بشائر من الأراضي الحجازية باستيلاء جنود "طوسون" على "جدة"
و"مكة" فتم إطلاق المدافع فى القاهرة احتفالا بهذا النصر وانطلقت
احتفالات استمرت لخمسة أيام..
وبعدها وصلت أخبار تمكن رجال "طوسون"
من السيطرة على "الطائف".. لكن الأمور تغيرت حين هاجمهم جيشين أحدهما
يقوده الأمير "سعود بن عبد العزيز" والثاني بقيادة ابنه "فيصل"
وألحقوا بالحملة المصرية هزيمة قاسية..
وزاد حرج القوات المصرية بتفشى المرض, وقلة المؤن والماء ووصل عدد القتلى
إلى ثمانية آلاف.. وفقدت الحملة 25 ألف رأس من الماشية, وبلغت الأموال التى تم
إنفاقها حتى هذا الوقت 175 ألف جنيه..
وكلها أخبار سيئة تلقاها "محمد على" فى القاهرة فقرر أن يسافر بنفسه
لمتابعة القتال..
تحرك فى أغسطس عام 1813 على رأس حملة جديدة, وعندما وصل ارتفعت الحالة
المعنوية للجنود.. وتعمد أن يبدأ بآداء مناسك الحج, وما إن فرغ من تأدية الفريضة
راح ينظر فيما حدث.. فكان قراره بالقبض على الشريف "غالب بن مساعد" الذى
كان يخشى الوهابيين ويدعمهم سرا, وأرسله إلى القاهرة وولى "يحيى بن سرور"
ابن أخيه مكانه.. وانطلق على رأس جيش من خمسة آلاف جندى لمواجهة الأمير "سعود".
دارت جولة جديدة من المعارك.. لكن يجدر بنا أن نتوقف للإشارة إلى أن مصر
دفعت فى هذا الوقت الدم والمال لمواجهة التطرف الدينى نيابة عن العالم مبكرا..
والمدهش أن "جهلة التنوير" الذين يدافعون عن عظمة الملكية لا
يعرفون هذه المعلومات والحقائق, لذلك يأخذوننا إلى مستنقعات جهلهم دون أدنى فهم أو
معرفة!!..
يتبع
0 تعليقات