آخر الأخبار

الأزهر.. أصل الحكاية (7)






 

نصر القفاص

 

المواجهة بين "محمد على" و"عمر مكرم" دارت على أرض واقع شديد الصعوبة والتعقيد فى الوقت نفسه.. فالوطن الذى تولى "محمد على" مسئولية حكمه كان مهلهلا بالمعنى الحقيقي للكلمة.. والشعب الذى يدافع عنه "عمر مكرم" كان قد تجرع مرارة الفقر والجهل والمرض والإذلال حتى الثمالة.. صحيح أن كليهما امتلك إرادة استعادة الوطن وأمجاده.. وقد يكون كليهما لديه حلم إنصاف الشعب, الذى سلبته الدولة العثمانية سيادته على أرضه ومقدراته.. لكن زاوية رؤية كل منهما كانت مختلفة.

 

 

لحظة المواجهة بين "الحاكم" و"الثائر" كان أمامهما ضرورة تفرض الإجابة على السؤال الصعب.. بل الحتمى.. ويجوز القول أنه السؤال الذى يجدد نفسه.. أيهما له الأولوية.. هل هى حقوق الناس والترفق فى حكمهم واحترام إنسانيتهم.. مع أهمية وضرورة أن يشاركوا بالرأى فيما يمس حياتهم.. أم تعمير البلاد وتنظيم شئون الدولة بإعادة بنائها, مع فرض الأمن والاستقرار لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية؟! اجتهاد ورؤية كل طرف فرض المواجهة, التى حسمها "الحاكم" بإبعاد "الثائر" ولأنه السؤال المتجدد.. يجب علينا أن ندقق النظر فى حقيقة الأوضاع التى كانت قائمة.

 

 

عندما صدر قرار نفى "عمر مكرم" إلى "دمياط" كان "محمد على" يعيش صراعا لم ينته مع "المماليك" ويعانى من ضغوط السلطان العثمانى, بأن يقود جيشا من مصر لمواجهة "الدعوة الوهابية" فى أرض الجزيرة العربية – السعودية – وهذه الضغوط بدأت فى أعقاب الانتصار على الانجليز عام 1807.. وتصاعدت عاما بعد آخر, دون أن تفلح محاولات التسويف والتأجيل, بسبب عدم القدرة الاقتصادية على تحمل نفقات مثل هذه الحرب.. فضلا عن نقص الجاهزية العسكرية, فى ضوء انتصارات عرف تفاصيلها "محمد على" حققتها الجماعات "الإرهابية" المسلحة على جيوش الدولة العثمانية.

 

 

يعتقد بعض من يعرفون من التاريخ عناوينه أن تخلص "محمد على" من "المماليك" فى مذبحة "القلعة" كان أمرا سهلا أو هينا.. ويرى هؤلاء مثل هذه اللحظات الحاسمة لا تتطلب أكثر من حيلة أو قدرة على اتخاذ القرار.. لكن الخوض فى قليل من التفاصيل, سيكشف أن "محمد على" كان طريقه إلى "مذبحة القلعة" طويلا وشاقا وشديد الوعورة.. وقل أنه كان مملوءا بالألغام!!

 

 

رحل الانجليز عن مصر.. وبقى فيها حوالى ألفى وخمسمائة – 2500 – من "المماليك" المسلحين والمقاتلين, كما ذكر "مسيو مانجان" فى كتابه "تاريخ مصر فى عهد محمد على" وهؤلاء كانوا يحكمون قبضتهم على الوجه القبلى, وبعض المناطق حول العاصمة وفى محافظات قريبة منها مثل الجيزة والقليوبية.. والسيطرة كانت اقتصادية وأمنية واجتماعية بقوة السلاح.. فرضت هذه الأوضاع اللجوء إلى الحيلة "السياسة" حينا, والمواجهة بالسلاح أحيانا.. واستمرت لعدة سنوات حتى وصل إلى "مذبحة القلعة"!!

 

 

مات "محمد بك الألفى" وترك "شاهين بك الألفى" ليخلفه.. ولما كان يملك القوة الأكبر, سعى "محمد على" إلى استمالته حتى أقنعه بأن يستقر قرب العاصمة.. وأهداه قصرا فى "الجيزة" وفوضه فى أن يجنى إيرادات إقليم "الفيوم" وجزء من إقليم "بنى سويف" على أن يترك مقاتليه "البحيرة" وضواحي الإسكندرية, مقابل أن يدفع الضرائب عن هذه الإيرادات.. وتم توقيع اتفاق بذلك خلال حفل شهده منزل ابنه "طوسون" وترتب على ذلك قبول عدد كبير من "المماليك" الذين كانوا يتحصنون فى الصعيد بالمصالحة.. حدث ذلك عام 1808.. وبقى "إبراهيم بك" و"عثمان بك حسن" وهما خليفتا "البرديسى بك" وكانا لا يثقان فى "محمد على" ويرفضان أى اتفاق معه رغم ضعف قدراتهما العسكرية.. لذلك تعامل "الباشا" مع أبرز مقاتليهما بالاتفاقات السرية.. وعرض على "إبراهيم بك" تعيين ابنه حاكما لإقليم "جرجا" لتهدأ الأمور قليلا.. وتم الاتفاق على ما يدفعه من ضرائب, لكنهم لم يلتزموا بالاتفاق وشرعوا فى إعداد العدة لاستئناف القتال..

 

 

 

أدى ذلك إلى إعداد "محمد على" جيش لقتالهم فى أكتوبر من عام 1809, وقبل أن يتعرضوا لهزيمة ساحقة.. رفعوا "الراية البيضاء" وطلبوا الصلح.. فكانت شروط "محمد على" الجديدة أن يغادروا الصعيد ويعيشوا إلى جانبه فى القاهرة.. أذعنوا وتم توقيع اتفاق بذلك فى "أسيوط" خلال شهر نوفمبر عام 1809.. وحدث أن "إبراهيم بك" حين وصل مع مقاتليه إلى "الجيزة" لم يجد الاستقبال الذى كان يتوقعه.. قرر بسرعة نقض اتفاقه والعودة للصعيد, واعتماد منهج القتال.. وكانت المفاجأة التى أذهلت "محمد على" أن "شاهين بك الألفى" ترك هو الآخر القاهرة وانضم إلى المتمردين.. أصبح القتال مفروضا دون تردد من جانب "محمد على" الذى قاد جيشا طاردهم به حتى "أسوان" فعاد "شاهين بك الألفى" يطلب العفو والمصالحة.. عفا عنه "محمد على" وأعاده ليعيش فى قصر بضاحية "الأزبكية" واستعاد "محمد على" لأول مرة سيطرة حاكم مصر على الصعيد منذ أن احتلتها الدولة العثمانية عام 1517.

 

 

 

استعاد "محمد على" الإسكندرية" عام 1807 واستعاد الصعيد عام 1810 وفرض سيطرته على الوطن بحدوده التى كانت على مر التاريخ.. وأغدق على من هادنوه وتصالحوا معه من "المماليك" الكثير من القصور والأموال, وكان يطمئن كلما وجدهم قد ركنوا لحياتهم الجديدة.. فقد انشغلوا بالقصور وتأثيثها, وأفرطوا فى تنظيم السهرات والحفلات ليتأكد أنهم فقدوا الذاكرة تجاه القتال!!

 

 

 

يتفق المؤرخون على أن "محمد على" تخلص من الضغوط الشعبية واحتمالات الثورة الشعبية بنفى "عمر مكرم" وأصبح أكثر اطمئنانا تجاه خطر "المماليك" بينما كان يعد العدة لإعداد الجيش الذى سيغادر مصر لتأديب "الوهابية" بإصرار من جانب السلطان العثمانى.. لكن تركيبته وعقليته, لم تكن تترك شيئا دون حسم تماما.. لذلك راح يفكر فى التخلص نهائيا من "المماليك" ووجد ضالته فى احتفال تفرضه ظروف مغادرة الجيش إلى الجزيرة العربية – السعودية – فرتب لهذا الحفل أن يكون أول مارس عام 1811, وكان هو اليوم المشهود.

 

 

دعا "محمد على" كبار رجال الدولة والأعيان والشيوخ ليشهدوا احتفاله بتنصيب ابنه "طوسون" كقائد للجيش الذى سيوفد إلى الجزيرة العربية.. مثل هذه الاحتفالات كانت الجماهير تحتشد خلالها فى الشوارع, لتشهد المواكب وابن الباشا الذى سيتقدم موكبا ضخما يشارك فيه "المماليك" وقادتهم!! وكان "الباشا" يستقبل ضيوفه فى قاعة كبرى بقصر الحكم فى "القلعة" وسمع من الذين حضروا من "المماليك" تهانيهم له وشكره وتقديرهم على تسامحه معهم.. وقرعت الطبول ودقت الموسيقى, وتأهب الموكب للتحرك.. هنا وقف "الباشا" ليصافح ضيوفه ويشهد تحرك الموكب.. اجتازت طليعة الموكب باب القلعة وكان قادة "المماليك" خلفه.. عددهم كان يتجاوز الأربعمائة – 400 – مقاتل.. وفى اللحظة الحاسمة إرتج الباب الضخم بعد نداء على على الصف الأول من "المماليك" وكلهم كانوا فى طوابير محكمة التنظيم.. أدركوا أن شيئا ما سيحدث.. طالعوا المكان فوجدوه جاهز بالمقاتلين من كل جانب..

 

 

دوى صوت الرصاص ليسقط العشرات, وكان كل من يجرى لينجو بنفسه تتلقفه رصاصات من هذا الجانب أو ذاك.. وسقط "شاهين بك الألفى" صريعا لم ينج غير بضع أفراد.. فمن لم يمت بالرصاص, مات تحت أقدام المذعورين..

 

 

وصبيحة اليوم التالى عرف الناس أن 470 مملوكا قتلوا.. ويذكر المؤرخون أن أربعة فقط من مساعدى "محمد على" وأخلص رجاله هم من كانوا يعرفون بالأمر.. ليس بينهم أحد من أبنائه.. ولم ينج سوى مملوك واحد اسمه "أمين بك" تمكن من الهرب, ولجأ إلى الآستانة وعاش فيها بقية عمره, وقربه السلطان العثمانى إليه.. وقام جنود "محمد على" بتولى الآخرين الذين لم يحضروا الحفل واعتذروا عن الحضور.. وهرب بعضهم إلى النوبة والسودان وسوريا مشردين!!

 

 

 

انتهز جنود "محمد على" المكلفين بملاحقة "المماليك" الذين تخلفوا عن الحضور الفرصة, فراحوا يقتحمون البيوت وينهبون ما تطالهم أيديهم من مجوهرات وأموال.. بل أقدم بعضهم على اغتصاب النساء, وبلغ عدد البيوت التى نهبوها حوالى خمسمائة بيت كما قدرهم "عبد الرحمن الرافعى" وهذه الحالة فرضت على "محمد على" أن ينزل بنفسه لردع المجرمين, وأصدر أوامره بقطع رأس كل من اعتدى على الناس ونهب وسرق أو اعتدى على النساء.. وكان يشاركه فى هذه الحملة ابنه "طوسون".

 

 

الحقيقة أن المذبحة كانت تكرارا لواحدة سبق أن أقدم على ارتكابها مع "المماليك" "حسين قبطان باشا" القائد العثمانى تنفيذا لأوامر السلطان العثمانى عام 1804 وقت أن كان "المماليك" يعيثون فسادا فى القاهرة.. لذلك صمت السلطان, ولأن جيش "محمد على" فى طريقه لتخليصه من تمرد "الوهابيين" فى الجزيرة العربية..

 

 

وبقيت "مذبحة القلعة" بقعة سوداء فى تاريخ "محمد على" لكنها تجد من يؤيدها, ويرى أنه لم يكن لديه بديل لفرض الاستقرار والأمن وتوحيد البلاد..

 

 

وبغض النظر عن هؤلاء أو أولئك.. لنا أن ندقق فى حجم التحديات التى واجهها هذا الحاكم خلال زمنه وعصره.. بمعنى أن تقييمه وفق قواعد ومعطيات الزمن الحالى, فيه ظلم شديد.. وأستطيع أن أصل إلى أنه ينطوى على سذاجة.. خاصة وأن التحدى التالى كان خارج البلاد, ويمثل امتداد لمعركته مع "الشيوخ" فى مصر.. وإن كان الذين رفعوا راية الدين الإسلامي فى الجزيرة العربية – الوهابيين – مارسوا التكفير وقتلوا كل من يرفض منهجهم.. بل أوقفوا مناسك الحج لسنوات.. وقد يكون ذلك خافيا على من لم يعرف سر هذه الحرب وخطورتها ودعوتها..

 

 الأزهر.. أصل الحكاية!! (6)

 

يتبع


إرسال تعليق

0 تعليقات