آخر الأخبار

مُقدمة: لا جديد تحت شمس التنبؤ!

 

 

 

 

 

 

مجدى عبد الهادي

 

 

لا شك أن محاولة توقع الاتجاهات التاريخية للرأسمالية، والتطور الإنساني عمومًا، إحدى أكثر الاهتمامات الكلاسيكية جدلاً في الفكر الاجتماعي، لا عجب أن حاولت مناقشتها كافة تيارات الفكر تقريبًا. وعلى تنوّع المشارب في تناولها، فإنها تجتمع منهجيًا إما في اتجاهات بيئية-ديموغرافية تحلل تناقضات البُنى الاجتماعية مع الطبيعية، أو اتجاهات سوسيولوجية تركّز على التناقضات الطبقية والتكنولوجية والمؤسسية، أو اتجاهات اقتصادية تحلّل الأزمات الدورية ودورات الركود.

 

ورغم تعدد التحليلات وتكاثرها ضمن التيار الواسع لهذا الجدل، لا تخرج التنويعات الأحدث لتوقعات المستقبل الاقتصادي، كما أشرنا في مقالتنا السابقة حول ميراث المستقبليات الاقتصادية، بما فيها توقعات مستقبل الرأسمالية وما بعدها، عن نوعين من التوقعات؛ إما ديستوبيات تشاؤمية تتمحور حول الركود طويل الأجل واختلال التوازن الاقتصادي-الديموغرافي وتدهور المؤسسات الاجتماعية وتعمّق الأزمات الدورية، أو ويوتوبيات تفاؤلية تقوم على الاحتواء التقني للمشكلة الاقتصادية أو الانتقال الاجتماعي للاشتراكية أو ما شابهها.

 

وعلى كثرة المسارات التاريخية المُتوقعة لما بعد الرأسمالية، فإنها على كل تنوّعها وتشابكها يمكن تنبني على أربعة خطوط تحليلية أساسية، هي: الأنتروبيا البيئية، والحتمية التكنولوجية، والديالكتيك الاجتماعي، والتحلّل المؤسسي. كذلك، وبقدر من التجاوز، يمكن شمول معظمها جوهريًا ضمن أربعة مسارات تجريدية عامة، وفقًا لمحاولة لبيتر فريز، في عمله المعروف “المُستقبلات الأربعة: الحياة بعد الرأسمالية”، الذي حاول فيه حصر احتمالات المستقبل بعد الرأسمالية بالتوليف الاحتمالي بين ثنائيتين تجريديتين، هما ثنائية “الوفرة/الندرة” وثنائية “المساواة/التراتبية”، بما أنتج أربعة توليفات تجريدية بديهية نوعًا ما، هي: الوفرة مع المساواة (الشيوعية)، الوفرة مع التراتبية (الريعية)، الندرة مع المساواة (الاشتراكية)، الندرة مع التراتبية (الإبادية)، والتي كما نرى تمثل احتمالات مُجردة واسعة تستوعب تعيينات واقعية عديدة، بغض النظر عن توصيفات فريز نفسه لها، التي أوردناها داخل الأقواس من باب الاطلاع والتفصيل لا التأييد أو المناقشة.

 

 

الأنتروبيا البيئية

 

 

وتنتظم ضمنه كافة التحليلات القائمة على فكرة الاختلال البيئي من تقلص للموارد الطبيعية وتغيّر للمناخ وما شابه، سواء بسبب النمو الديموغرافي مما يعود في جوهره لتوماس مالثوس وأطروحاته في السكان والموارد، أو بسبب قيود الندرة على الموارد الأساسية من طاقة ومياه ومعادن أساسية مما يعود للفكر الاقتصادي الكلاسيكي والنيوكلاسيكي في مُجمله، أو بسبب الكوارث والتشوّهات البيئية والطبيعية (وما وباء كورونا عنا ببعيد) الناتجة عن ديناميات النظام الرأسمالي نفسه من حاجة للتراكم الدائم وأنماط إنتاج واستهلاك غير مُستدامة، تعزّز كذلك الأثرين السابقين أو تمثل دافعهما الحقيقي، مما يعود للفكرين الكلاسيكي والماركسي.

 

ويتماشى هذا الخط التحليلي مع احتماليّ الندرة اللذين أوردهما فريز، حيث يغيّر نظم التراكم وأنماط الاستهلاك الرأسمالية، بما يفرض تغييرها جذريًا وإعادة صياغتها اجتماعيًا، باتجاه المساواة أو التراتبية، بحسب توازنات القوى الاجتماعية، فتأخذ مسار الاشتراكية المُخططة للتعامل مع حالة ندرة الطاقة والموارد وغيرها من مُدخلات الإنتاج الأولية خصوصًا لضمان حدود دنيا من الاستهلاك للجميع، أو مسار الإبادية بسبب حالة احتكار القلة الرأسمالية للثروة والسلطة مع تراجع الحاجة للعمل وتصاعد البطالة الهيكلية، بشكل يعمّق التناقضات الطبقية والاختلال الاجتماعي ويُنهي الهامش الديموقراطي ودولة الرفاهة لصالح حكم القلة، مما تناولته عشرات الأعمال الفكرية والفنية، خاصًة اليميني منها ذي المرجعية المالثوسية، مثل أعمال ألفين توفلر الشهيرة، حتى أصبح ذلك السيناريو “المرجعي” الأشهر لتطور الرأسمالية الحالي، خصوصًا مع توافقه مع توازنات القوى الاجتماعية والسياسية القائمة!

 

الحتمية التكنولوجية

 

 

رغم توافق هذا الخط التحليلي مع السيناريو المرجعي سالف الذكر، من جهة تضاؤل فرص العمل، وتزايد السكان “الزائدين عن الحاجة” كما تصفهم الأدبيات المالثوسية، إلا أنه يبنّى بعض الآمال التفاؤلية على التكنولوجيا ذاتها لتحل كثيرًا من المشاكل التي أنتجتها، بل ويأخذ بعضه مسارًا تفاؤليًا مضادًا بالكامل، كما نجد في الأعمال المختلفة لجيرمي ريفكين من وصول لحالة المنتجات شبه المجانية بسبب الثورة الصناعية  الثالثة، التي بدأت تبرز بعض ملامحها مع الإمكانات المُتصاعدة والمأمولة لإنترنت الأشياء والطباعة الثلاثية والطاقة المتجددة ..إلخ؛ بما سيقود إلى ما أسماه وعنّون به أحد أحدث كتبه “مجتمع التكلفة الحدية الصفرية”، حيث سيمكن عندها تحقيق زيادات إنتاجية شبه لا نهائية دون عمل بشري حقيقي ودون تكاليف إضافية تُذكر، فضلاً عن بروز أشكال إنتاجية وتنظيمات اقتصادية جديدة أكثر تعاونية وتشاركية، تتجاوز حافز الربح ونمط التراكم الرأسمالي وهياكل التبادل السوقية المعروفة، باتجاه أنماط إنتاج وتوزيع أكثر ديموقراطية وعدالة، من تعاونيات إنتاجية وتبادلية ولامركزية سوقية واجتماعية ..إلخ.

 

وهى رؤية تلتقي تقريبًا برؤية بول ماسون في عمله الهام “ما بعد الرأسمالية: دليل لمستقبلنا”، الذي يرى أن تكنولوجيا المعلومات ستقضي على الأسواق الكلاسيكية، وتلغي نظم التكسّب والتبادل الرأسمالية، لصالح أنماط تشاركية جديدة، بسبب ما فرضته من تناقضات بين الشبكية المعلوماتية والتراتبية الرأسمالية، ووفرة الثورة التكنولوجية مقابل ندرة الملكية الخاصة، خصوصًا من خلال ما سهّلته تلك التكنولوجيات الجديدة من تقليل الحاجة للعمل وغيره من التكاليف المتغيرة (على صعيد الإنتاج)، وما يسّرته من آليات تنظيم وتبادل غير سوقية (على صعيد التداول)، والتي يرى أنها ستكتسب مزيدًا من الشعبية والزخم مع ما تعانيه الرأسمالية من ركود مُزمن يُتوقع استمراره لما بعد أواسط القرن الحادي والعشرين، وما تفقده من أرضية اجتماعية وإيديولوجية بتعميقها التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية بشكل مستمر، كما نرى لدى كثير من نقادها “من الداخل”، وآخرهم توماس بيكيتي في عمليه المهمين “رأس المال في القرن الحادي والعشرين” و”رأس المال والإيديولوجيا”، اللذين دعا فيهما لنوع من دولة الرفاهة أو بشكل أكثر تحديدًا “الاشتراكية التشاركية”.

 

وقد يبدو هذا التصوّر متقاطعًا مع الفهم الماركسي، بانطلاقه جوهريًا من قانون ماركس السوسيواقتصادي المركزي، والذي يمثل جوهر ماديته التاريخية، القائل تبسيطًا بقيادة قوى الإنتاج لعلاقات الإنتاج، إلا أنه يفتقد للتحليل الكافي للديالكتيك الاجتماعي الذي يؤكد على محورية الصراع الطبقي ودور التوازنات السوسيوسياسية في تحديد المحصلة الفعلية النهائية لتفاعل التكنولوجيات الإنتاجية والتنظيمات الاجتماعية، فالعلاقة بينهما ليست بذلك التبسيط الخطي الذي يفترضها علاقة سببية أحادية الاتجاه، من قوى الإنتاج إلى علاقات الاجتماع.

 

الديالكتيك الاجتماعي

 

مع ذلك يظل ماسون متقاطعًا جزئيًا مع الفهم الماركسي، سواء الكلاسيكي أو المُحدث، في تحليله لبعض الديناميات الداخلية للرأسمالية، التي تلعب دورًا مركزيًا في شحوب علاقاتها وتراجعها المستقبلي، فنجده يؤيد القانون الماركسي الشهير القاضي بالميل التاريخي لتناقص معدل الربح، وفقدان التراكم الرأسمالي لمحتواه وقوته الدافعة، لكن لأسباب تقنية لا اجتماعية، ما يلتقي جزئيًا بالرؤية التطورية الأشمل لإيمانويل واليرشتاين لمستقبل النظام الرأسمالي، والمبنية على توليف من المنهج الماركسي والعناصر الشومبيترية (نسبة لمذهب جوزيف شومبيتر في الدورات الاقتصادية) عالم الاقتصاد  والبروديلية (نسبة إلى المؤرخ الفرنسي فرديناند بروديل رائد مدرسة الحوليات التاريخية)، خاصًة من زاوية وعيه بالتشابك الاجتماعي-التقني في تكوين أزمة الرأسمالية الاجتماعية والمؤسسية ووحدتها كنظام عالمي، فنجده يتحدث في كتاب “هل للرأسمالية مستقبل؟” عن الأزمة الهيكلية المزمنة التي تعانيها الرأسمالية منذ السبعينات، وكيف ابتعد النظام كثيرًا عن حالة التوازن، وتزايد عرض رأس المال والتنافس بين الرأسماليين والصراع بين الدول، مع تزايد التكاليف الاجتماعية والبيئية، مُضعفًا بمُجمله إمكانات هيكلة وخفض التكاليف وفرص الكسب والتراكم المستمر، وبالتالي فرص المكافأة والربح المقبولين أمام الرأسماليين. فضلاً عن إثارة الصراعات بين الخاسرين المتزايدين من النظام والرابحين المتناقصين من استمراره، مُعلقًا احتمالات ما بعد الرأسمالية على نتيجة ذلك الصراع غير الواضح تكوينًا ولا المحسوم نتيجةً، لكن المتسارع باتجاه انهيار النظام بفعل اكتمال تحقق منطقه نفسه؛ أي تعاظم منطقه التسليعي الساعي لشمول كل شيء، بما يؤذن -كرد فعل- بتصاعد العقلانية الاجتماعية المتعارضة معه والحركات الاجتماعية المناهضة له؛ بشكل يعجل بالانتقال غير مؤكد الوجهة، لكن المُستبعد منه الشيوعية الكلاسيكية كيوتوبيا لن توجد في أي مكان، والمُرجح فيه الاشتراكية كسيناريو ممكن ومأمول، أي سيناريو الندرة والمساواة بصيغة فريز الأكثر تجريدًا.

 

 

 

التحلّل المؤسسي

 

وهو الخط التحليلي الذي تعود جذوره إلى ثورشتاين فبلن وجوزيف شومبيتر وكارل بولاني وغيرهم من المؤسسيين، الذين يركزون اهتمامهم على المؤسسات وتحوّلاتها التاريخية بما يؤدي لنشوء أنظمة اجتماعية جديدة، وهو بالطبع تحليل جزئي غير مستقل عن التحليلات السابقة؛ بحكم طبيعته كتحليل جزئي/ميكروي لا يمكنه أن يعطي صورة كاملة عن تحول شامل من نظام اجتماعي لنظام اجتماعي آخر، ومفهوم حتى عند أعتى المؤسسين أن المؤسسات نوع من التكيّف الاجتماعي مع / والحلول السلوكية للمتغيرات البيئية والتكنولوجية، ما يجعلها نوعًا من المتغيّر التابع لا المستقل.

 

وجوهر تحليل المؤسسين في شأن مستقبل الرأسمالية يأخذ أحد اتجاهين:

 

(1) ستتحلل المؤسسات التي كوّنت الرأسمالية، كما قال فبلن وشومبيتر، مثل مؤسسات السوق التنافسية، بسبب مكونات وديناميات الرأسمالية ذاتها من ملكية خاصة وحافز ربح وميل احتكاري وتراجع لإمكانات التراكم لتفقد زخمها التطوري، وتتفاقم تناقضاتها العدائية بشكل يعزز الحاجة الاجتماعية لتغييرها لنوع من حكم التقنيين العدول (فبلن) أو الاشتراكية الديموقراطية (شومبيتر).

 

(2) ستضعف فاعلية المؤسسات مع التطورات التكنولوجية بالأخص، لتحلّ محلها مؤسسات جديدة أكثر فاعلية، ما يتقاطع مع تحليل ريفيكن وماسون سالف الذكر، عن الأشكال الاقتصادية والتبادلية الجديدة المنفصلة عن المنطق الرأسمالي، ومع ما قاله ألفين توفلر في كتابه الشهير “حضارة الموجة الثالثة” عن تراجع مؤسسة السوق، التي تمثل المؤسسة المركزية في صعود وعمل وثقافة الرأسمالية، من موقعها المركزي لتجعل من الموجة الثالثة المُنتظرة أول حضارة “عبر سوقية”، تستبطن السوق وتنطلق من وجوده الفعلي، لكن لا تخضع له؛ كونها لا تستهلك كثيرًا من طاقاتها في بنائه وتوسيعه، شأن الرأسمالية التي كانت المعنية تاريخيًا بهذه المهمة.

 

 

خاتمة

 

لا يمكننا بالطبع شمول كافة التحليلات في شأن مستقبل الرأسمالية وما بعدها في هذا النطاق الضيق، لهذا استبعدنا التحليلات الليبرالية المُنطلقة من بقاء الرأسمالية؛ ليس فقط لاعتبارات انحيازاتها الإيديولوجية، بل كذلك لعدم خروجها عن التحليل التقليدي للرأسمالية الذي يفترض استقلالاً لا عقلاني ولا علمي للنظام الاجتماعي عن مُحيطه الإيكولوجي ومُعطياته التاريخية، كذا لفضفاضية مفاهيمها عما تسميه “المجتمع التشاركي” (هيلبرونر) و”اقتصاد المعرفة” (دراكر) كتعديلات على الرأسمالية، وأخيرًا لانشغالها أكثر –كنوع من الهمّ الأورومركزي والأنجلوساكسوني خصوصًا- بالصراعات القومية وتراتبيات القوى ضمن النظام الاقتصادي العالمي، بدلًا من التحولات الجذرية المُحتملة لطبيعة النظام ذاته، والتي تمثل هذه الصراعات مجرد جزء منها. وربما كان هذا الجزء هو ما افتقدته التحليلات التي تناولناها هنا، ربما بحكم طبيعتها الكلية الغالبة.

 

المراجع

ألفين توفلر، حضارة الموجة الثالثة، ترجمة عصام الشيخ قاسم، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، 1990م.

 

إيمانويل واليرشتالين، الرأسمالية التاريخية، ترجمة محمد مستجير، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2002م.

 

مجدي عبد الهادي، كيف يمكن أن تساهم المستقبليات الاقتصادية في إعادة بناء السياسات استراتيجيًّا؟، مركز الإنذار المُبكر، ١٩ مايو ٢٠٢٠م.

 

Immanuel Wallerstein et al., Does capitalism have a future?, Oxford University Press, New York, 2013.

 

Jeremy Rifkin, The Third Industrial Revolution: How Lateral Power is Transforming Energy, the Economy, and the World, Palgrave Macmillan, 2011.

 

Jeremy Rifkin, The Zero Marginal Cost Society: The Internet of Things, the Creative Commons and the Eclipse of Capitalism, Palgrave Macmillan, New York, 2014.

 

Srnicek & A. Williams, Inventing the Future: Postcapitalism and a World without Work, Verso Books, New York, 2016.

Paul Mason, Postcapitalism.. A Guide to Our Future, Allen Lane, London, 2015.

 

Peter Drucker, Post–Capitalist Society, Harper Collins, New York, 1994.

 

Peter Frase, Four Futures: Life after Capitalism, Verso Books, New York, 2016.

 

Thomas Piketty, Capital and Ideology, Harvard University Press, 2020.

 

Robert Heilbroner, 21st Century Capitalism, W. W. Norton, 1993.



نقلا عن : مركز الانذار المبكر 

إرسال تعليق

0 تعليقات