بقلم/علي جميل
الموزاني
إنَّ التعرض الى كبار
الشعراء من العصور الماضية كالأموي أو العباسي يحتاج إلى جهد واسع وخبرة ودراية في
فنون الأدب والبلاغة والشعر والتاريخ, وقد ساهم كثير من الباحثين في دراسة حياة
وشعر مُعظم أولئك الشعراء وعرضوا نتاجاتهم ووقفوا على سر بلاغتهم وأظهروا مكنون
دررهم وبيّنوا لُبَّ فصاحتهم, ودرسوا نقائضهم وهجاءهم وثناءهم, وبيّنو تداخل أبيات
بعضهم مع بعضهم الآخر, وهذا الجهد يُحسب للجهات والشخصيات المختصة في ذلك.
وأما ما نُريد أن نقف
عنده في هذا الكتاب, فهو دراسة شخصية الشاعر همام بن الغالب المعروف بالفرزدق
وبيان عقيدته ومنهجه وسلوكه في مدحه ورثائه, وهل كان ذلك ناتجاً عن مبدأ عقائدي
وديني, أم انه كان محض شعر يُقال في مدح الملوك والأمراء للحصول على الصلة والمال
والتقرّب إلى البلاط الأموي.
هذا البحث جاء نتيجة
استفهام جاءنا من بعض الأخوة الأعزّاء عن بيان عقيدة الفرزدق, ولما أختلف فيها لدى
من تعرّض إليه, فبعض يعدّه اُمويّاً وآخر يُصر على أنّه علويّ.
وقد قادنا هذا
الاستفهام إلى محاولة البحث عن حياة الفرزدق وتفاصيلها ولأسابيع عدّة في بطون
الكتب والموسوعات التاريخية والأدبية والدينية للتوصّل إلى إجابة شافية في ذلك, ولكن
شغلتنا بعض المشاغل عن إكمال هذا البحث في حينه وإخراجه إلى النور وتداعت أولويّات
أُخرى قُدمت عليه, إلى أن جاءت جائحة فايروس كورونا "وربة ضارة نافعة" وما
تَعقّبه من تعطيل شبه تام للحياة, وبسبب الحظر الصحي الذي دعت إليه الجهات المختصة,
استثمرنا هذه الفرصة في إعادة كتابة ما قمنا به من قبل.
وبصورة عامة فلو
قرأنا حياة الفرزدق في كتب التاريخ والأدب وأنعمنا النظر في مواقفه وشخصيته ووقفنا
عند شعره سنجد أنَّه كان امويّاً وليس بعلويٍ, فديوانه خالٍ من أي قصيدة في مدح
أهل البيت عليهم السلام, وخصوصاً من عاصرهم من الأئمة كالإمام علي وولديه الحسن
والحسين صلوات الله عليهم أجمعين إذا استثنينا الميمية طبعاً.
ولم يتعرّض إليه صاحب
موسوعة الغدير وهو الذي أحصى الشعراء ومواقفهم في قضية يوم الغدير, ولم يذكره صاحب
موسوعة شعراء الطف فيمن قالوا شعراء بهذه الحادثة الأليمة, وهل تخفى على أحد من
الشعراء!
ولماذا لم يؤرّخ
الثورات التي حصلت في زمانه وأيامه أمثال ثورة الإمام الحسين عليه السلام وأهل
بيته أو ثورة التوابين وغيرها كما أرّخها غيره من الشعراء أمثال عبد الله بن
الأحمر وأعشى همدان, حتى يُثبت ولاءه لبني هاشم كونه من شيعتهم كما يُدعى.
ولم يكُن له موقف أو
بيت من الشعر يخصّ ما جرى على زيد بن علي وما تعرّض إليه من القتل والصلب أيام
خلافة هشام بن عبد الملك عام (122ه).
بل أنه كان يقف بالصف
الآخر في شعره مع أُمراء وملوك الدولة الأموية وقائديها ومواليها في الأمصار أمثال
المهلب والحجاج وغيرهم, وهو ما سوف نذكره مفصَّلاً.
ولا ننسى أنَّ طيلة
هذه المدّة التي عاشها الفرزدق مع حكام بني أمية وإلى غاية تولي عمر بن عبد العزيز
الحكم وهم يلعنون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على منابرهم.
إضافة إلى ما يتعلَّق
بحياته الشخصية التي اشتهرت بالفسق والخمر والنساء والثناء على الأمراء وتجميل
صورهم وقول الباطل في حقهم.
ومن خلال تتبعنا
لديوان جرير وما قاله بحق الفرزدق والأخطل وهو يهجوهم, فإنَّه لم يتعرَّض في ذلك
إلى كونه كان رافضيّاً أو موالياً لعليٍ عليه السلام, ومن الملاحظ أنَّه في حالة
الهجاء يحاول الشاعر البحث عن نقاط الخلل والضعف في الطرف المقابل وذكر كل ما هو
سلبي من خُلق أو عادات أو معتقدات يؤمن بها الشاعر المهجو كما هو واضح في الأخطل
النصراني, ولو كان الفرزدق رافضيّاً كما يُقال لهجاه جرير بذلك ولعرَّض به وبما
يعتقده ولحمّل حكام بني أمية عليه, في حين أننا نجد جريراً واصفاً الفرزدق بما
عليه حاله التي لا تخفى على متتبع قال في ديوانه:
إن الفرزدق حين يدخلُ مسجداً * رجسٌ فليسَ
طهورهِ بطهورِ
إن الفرزدق لا يبالي محرماً * ودم الهدى
بأذرعٍ ونحورِ
أمسى الفرزدق من جلال كُرجٍ * بعد الأُخيطل
زوجةً لجريرِ
رهطُ الفرزدق من نصارى تغلبٍ * أَويدعي كذباً
دعاةً زُورِ
حُجُّوا الصَّليبَ وقربوا قربانكم * وخُذوا
نصيبكم من الخنزيرِ
فإذا رفضنا مذهب
الفرزدق من خلال أشعاره أو سيرته فلابد من القول إنَّ شعره كان للتكسب وليس للدفاع
عن عقيدته ومذهبه ومنهاجه وقد عُرف عنه أنَّه شاعر النقائض والهجا والمديح وهذا هو
ديدنه (فانك لو تعطي الفرزدق درهماً * على دينِ نصرانيةٍ لتنصرا), هكذا هجاه جرير,
فهو لم يكن يهتم بالأمور العقائدية أو الدينية حتى يدافع عنها كما هو حال بعض
الشعراء كالسيد الحميري والكميت ودعبل الذين عرفوا بذلك وشهد لهم التاريخ به.
ولو أخذنا بنظر
الحسبان التحوّلات الموضوعية للشعر العربي ففي العصر الجاهلي كان الشعر أغلبه
للغزل والمفاخرة بالعشيرة والأهل والتغزل بالحبيبة والوصف وما الى ذلك, وأما في
صدر الإسلام فإنّه انقرض ذلك الشعر في داخل الدولة الإسلامية وما بقيَ منه إلا ما
يخصّ نصرة الدين والحماسة الجهادية, وأما في زمن الدولة الأموية نجد أنَّ الشعر
يعود من جديد إلى ما كان عليه في زمن الجاهلية من التفاخر والتباهي بالإضافة إلى
محور مهم جداً وهو مدح الملوك والأمراء للحصول على جوائزهم ونيل عطاياهم, وصولاً
إلى العصر العباسي إذ لا نجد في دواوين الشعراء الا المدح والثناء أو الهجاء هي
السمة الغالبة على قصائدهم, وأما ما يخصّ الموضوعات الأخرى التي تخصّ بناء الشخص
أو التأمّل أو إثارة مكامن الشخص الوجدانية أو الحب وغيرها, فلا نجدها عندهم إلَّا
في زمن متأخر كالمتنبي مثلاً الذي تجد عنده هذه القدرة وهذه النفس الشاعرية وتجد
في قصائده وديوانه ما يدعو الى التأمّل والتدبّر والتعلّق بالقيم العالية, وهذا ما
لا تجده في العصر الأموي يقول عمر فرّوخ في ذلك (لا بد من القول بأنّ شعر الشعراء
الأمويّين كان شعر تكسّب في الدرجة الأولى، وكان لا يعبّر عن عاطفة صحيحة في معظم
الأحيان: يدلّك على ذلك تلك المبالغات التي لم يدفع أولئك الشعراء اليها إلاّ
الطمع في أن يزيد ما ينالونه على قصائدهم من عطاء الأمويّين، سواء أ كانت تلك
القصائد في مديح بني أمية أو في هجاء خصوم بني أمية. وانضمّ الفرزدق إلى شعراء الأمويين
تكسّباً لا اعتقاداً).
ولو تنزّلنا عن فكرة
معرفة الولاء من خلال النصوص الشعرية وأنهم كانوا يلقون الشعر أمام الأمراء من أجل
التكسّب والحصول على المحال, فحينئذٍ لا يمكننا الاعتماد على قصيدة واحدة للفرزدق
لكي نحكم بتشيعه وموالاته لأهل البيت عليهم السلام.
وفي حياة الفرزدق من
المواقف الكثيرة التي تدلّ على إنه كان يطلب المال والصلة في شعره, وكانت الناس
تخاف من سطوة لسانه فيعطونه المال مخافة أن يهجوهم, وقد ذكر الاصفهاني في موسوعته
الأغاني أغلب تلك المواقف.
وللوقوف على حياته
وبيان شعره بصورة مفصلة, حمل الكتاب من خلال هذا الرابط:
0 تعليقات