نعمه العبادي
منذ أكثر من ثلاثة
عقود تداول العالم أكثر من أطروحة واستشراف يتحدث عن تصورات مستقبلية يدعى بأن
المستقبل سيتشكل على وفقها، بدأت من أطروحة النظام العالمي الجديد، مروراً بأحادية
القطب، فالعولمة، ثم العودة التدريجية للتوازن، وصعود الصين وروسيا، ومن ثم صعود
كيانات ما دون الدولة والدول الهشة والفاشلة، ومع كل هذا لم يتضح المسار التصاعدي
الذي سيتجه نحوه مستقبل عالمنا بدرجة من الثبات.
في ذروة هذا
الاهتزاز، وتصاعد الحديث عن حرب عالمية ثالثة مرة، وضربات وقائية مرة أخرى، وإعادة
تأليف محاور جديدة، وحديث عن تسويات شبه نهائية لمشاكل الشرق الأوسط، تفاجىء الكل
بدون استثناء ب (كرونا) الذي ظهر (فيروساً) ثم تطور بسرعة صاروخية ليصبح (جائحة) ووباء
عالمياً لا تزال التعاريف متضاربة بشأنه، فينزع العالم قدميه طوعاً، ويترجل عن كل
مراكبه، لتعلن الحياة حالة توقف وسكون رهيبة، مصحوبة بقلق وهلع وضبابية، لم يسبق
ان مرت بها دنيانا من قبل.
قائمة طويلة الذيل
تتحدث عن خسائر مادية ومعنوية لحقت الدول والكيانات والأفراد جراء هذه الجائحة،
ولا تزال التقديرات غير مكتملة في هذا الشأن، كما انه لا يوجد تصور واضح عن القادم
وتداعياته، والاهم في الأمر لا يوجد تصور واضح عن الأوضاع الثقافية والنفسية
والاجتماعية والصحية وحتى الأمنية والسياسية التي تخلفها الجائحة سارية المفعول،
خصوصاً وإن مفاجئات كبيرة سجلتها دول متقدمة جراء انتكاس قدراتها الصحية وتدابيرها
الوقائية، واظهر التحدي هشاشة كبيرة في كل النظام العالمي.
يحاول الجميع ان يصور مسار التحولات (في محيطه
وحدوده) على أنها محدودة ووقتية، وانه لا يزال يمتلك زمام المبادرة والفعل، وان
التغيرات التي حدثت لم تمس الأعماق، وبالتالي هناك قدرة للتدارك والسيطرة، إلا ان
الواقع يشير الى خلاف ذلك، وأن أمورا عميقة وجذرية أحدثها هذا الاهتزاز الذي لا
يزال الجميع منشغلاً بمساحته الضيقة دون ان يكون هناك تقدير شاملاً وعميقاً لكل
الصورة.
يوجد أكثر من مسار
يقدر بأن الأوضاع الحالية مناسبة أكثر من أي وقت مضى لصياغة معدلات قوى جديدة على أساس
ان الحدث الجاري هذب من نزعة الابتزاز لدى الكثير، كما ان إعادة تعريف حجوم
القدرات وفق معادلة جديدة، أخرجت عشرات المتغيرات منها، وفي مقدمتها القدرات
النووية وعموم الإمكانات التسليحية والمكنة العسكرية، وأدخلت الى المعادلة قوى
جديدة لم تكن تحتل الصدارة، مثل إيمان الشعب بالنظام القائم، والنزعة الروحية للدولة،
والبعد الأخلاقي ومكانته لدى الشعب، وأخلاقية النظام الصحي.
مع ان هذا الافتراض
يحمل قدراً من الصحة إلا ان ذلك لا يمكن التعويل عليه للدخول في ترسيمات إستراتيجية
طويلة الأمد، فلحظة الاهتزاز والارتجاج وتداعياتها المستمرة لا تزال قائمة، ومحملة
بالكثير من المفاجئات، لذلك من الصحيح، ان يكون التوجه الحالي قائم على فلسفة: ( التكيف
العالي مع حركة المستجدات وتطوراتها عبر تطوير القدرات المرنة ومضاعفة الخيارات
والبدائل، رصد التغيرات والآثار التي حدثت جراء الجائحة وتصنيفها والبحث في أسبابها
ومولداتها والاشتغال الجدي عليها، إلتزام سياسة الحذر الشديد والترقب الواعي،
مراقبة خارطة التغيرات الجديدة في ظل قراءة واقعية وعميقة وموضوعية للعالم، تعزيز
الجوانب الذاتية الايجابية والاكتفاء المحلي، استثمار الأوضاع لخلق عقد تصالح
حقيقي بين الشعب والنظام والبحث الجدي في مناطق الافتراق والالتقاء، واتخاذ أسلوب
المبادرة والتقدم خطوة في مواجهة الارتدادات دون البقاء على منهجية رد الفعل)،
وهذه الأمور بمجملها ليست مهمة الحكومات فحسب، بل هي مهمة متعددة الأدوار ومختلفة
المستويات، ويمكنها استيعاب كل قدرات الدولة في انخراط ايجابي لانجازها.
اعتقد ان عالمنا
اليوم في لحظة زئبقية شديدة الانزلاق، وهو متحرك بأكثر من مسار ولأكثر من صورة،
ومن الصعب المراهنة على ثوابت القوة فيه، لذا من الاحجى والأفضل الانخراط في
مفردات الفلسفة التي أشرت إليها، مع تعزيز حالة الرصد والمراقبة، والتأني في
الانخراط في أية ترسيمات إستراتيجية، قد تتعرض للانتكاس في المستقبل القريب، وتعود
بتداعيات غير محمودة العقبى.
0 تعليقات