.جمال حمدان من كتاب العالم الاسلامي المعاصر...
من الحقائق الغريبة بل المذهلة أن أكثر من أراد أن "يوظف" الإسلام
سياسياً هو الامبريالية و الاستعمار, الاستعمار الغربي الذي جثم طويلاً علي صدر
العالم الإسلامي و جسمه و لم يزل يحاصره و يعاديه للآن. و لا يعني هذا بطبيعة
الحال إلا استغلاله و تسخيره لأغراضه الإمبريالية العليا و إستراتجيته الكوكبية
العدوانية.
و من هنا كان علينا أن نفرق في دور
الإسلام السياسي بين الدور الدخيل و الأصيل, و أن نحلل الأول لتعريته و كشفه قبل
أن نصل إلي الدور الأصيل و الصحي المنشود.
الدور الدخيل--------------
فمن الأول, نستطيع باطمئنان أن نطلق علي الفترة من نهاية الحرب العالمية
الثانية حتي اليوم في الشرق الأوسط "فترة صناعة الأحلاف".
ففي غضون عشرين عاماً قُدمت أو نُفذت ستة مشاريع أحلاف متعاقبة, إما كأحلاف
دفاعية عسكرية أو كأحلاف دينية سياسية.
و كان مهندس هذه الأحلاف هو
المعسكر الغربي, و علي رأسه الولايات المتحدة و معها بريطانيا, و صدّرها إلي دول
إسلامية مختلفة تمتد و تتفاوت من باكستان شرقاً إلي المغرب علي المحيط الأطلسي
غرباً.
و قد كان من أول و أبرز هذه المشروعات مشروع ظهر علي مسرح السياسة العالمية
في الأربعينات المتأخرة و الخمسينات الباكرة لإنشاء تجمع أو حلف (جامعة إسلامية), يتلخص
هدفه كما قدموه في الوقوف "كحلف مقدس" في وجه الشيوعية "ليدافع عن
الإسلام و يواجه خطر الإلحاد" ....
منطق المشروع كما رسموه من موقع العالم الإسلامي الجغرافي و الإيديولوجي في
عالم ما بعد الحرب.
فبالموقع الجغرافي, توضح الخريطة السياسية حقيقة هامة, و هي أن أطول حدود
مشتركة مباشرة للاتحاد السوفيتي هي مع دول إسلامية, ابتداء علي الأقل من باكستان و
أفغانستان عبر إيران حتي تركيا.
هذا فضلاً عن أن جسم العالم الإسلامي الأساسي في مجموعه يعد ظهير ضخم
للكتلة الشيوعية.
أما إيديوجياً فقد كان التبرير أو الترويج يدور حول وحدة الأديان السماوية
ضد الإلحادية اللادينية, و أن العالم الإسلامي يمكن و ينبغي أن يجمع قواه مع
العالم المسيحي "الحر" في جبهة واحدة ضد العالم الشيوعي.
و في هذا السبيل شهدت تلك الفترة حركات فكرية و مؤتمرات دعائية و لقاءات
لاهوتية عديدة بدرجة لافتة للنظر, تضرب علي نغمة التقارب بين الإسلام و المسيحية, و
علي وحدة الرسالات السماوية ...إلخ.
نظرية المشروع إذن أنه يمكن للعالم الإسلامي إذا تكتل أن يكون "قوة
ثالثة" أو "كتلة ثالثة" , هي بطبيعتها "كتلة حاجزية" بين
الشرق و الغرب.
أما الصيغة الرسمية للتجمع المقترح, فقد تراوحت بين "حلف دفاعي" حيناً
و "اتحاد الدول الإسلامية" حيناً آخر.
و إذا نحن حللنا جوهر الحلف علي ضوء هذا الحقائق, فسنجد أنه أساساً – و في
الدرجة الأولي – جزء لا يتجزأ من إستراتيجية الغرب لفترة ما بعد الحرب الثانية, أعني
إستراتيجية "الإحاطة و التطويق" المشهورة التي تهدف إلي حصار الكتلة
الشرقية عامة و الاتحاد السوفيتي خاصة بسلسلة متصلة الحلقات من الأحلاف العسكرية
تبدأ من النرويج حتي اليابان.
و الحلف بهذا موجه "إلي الخارج", أعني أنه يكتل العالم الإسلامي
ككل لينظر ككل إلي خارج حدوده, و بالتحديد نحو تخومه الشمالية, و بعبارة أخري, ورغم
المخاطرة بالتكرار, ينبغي أن نصّر علي أن الحلف كان تعبيراً عن إستراتجية عالم
الكتلتين, و انعكاساً لمنطق الاستقطاب الثنائي.
و الحلف بهذا ليس حلفاً دينياً رغم الاسم, و لكنه حلف سياسي عسكري عدواني
في جوهره.
أما الشعار الديني فغلالة لا تخفي
تسخيره للأغراض السياسية.
نقطة أخري لن تخفي علي التحليل, أن الحلف, بمنطق معكوس, كان يقوم مع تلك
الدول التي استمرت الإسلام طويلاً و تقليداً و التي كانت لا تزال تستعمر أغلب
أقطاره, بينما يوجه ضد قوي لا تاريخ استعماري واضح أو قوي لها في العالم الإسلامي.
أي أنه يتحالف مع عدو استعماري جاثم بالفعل ضد خطر مفروض بالوهم.
و ثمة نقطة أخري و أخيرة و هي أن من الواضح أن الاستعمار الغربي الذي طالما
حمل علي الإسلام و شهّر به و سخر منه, أراد الآن أن يسخره لحسابه الخاص في صراعه
العالمي الجديد.
و علي سبيل المثال, فقد كان مبدأ "الجهاد"
في الإسلام يُفسر دائماً و يُهاجم في الغرب علي أنه دعوة إلي أحلاف مقدسة و حروب
دينية, و علي أنه دعوة عدوانية دموية تعصبية. و من المؤكد أن الغرب لم يكن ليستحثه
أو يستحييه الآن, لولا أنه كان يتصوره أداة له و لأغراضه.
الدور الأصيل--------------
هو توحيد الدين, بمعني توحيد "عقيدة" الإسلام لا المسلمين, لتذويب
الفروق الحفرية التي ورثها عن ماضٍ فقد الآن سياقه الزمني, و تعميق روح الإسلام و
تقويمها حيث سطحية أو ابتعادات أو تحريفات, و التبادل الثقافي و الفكري العام و
المزيد من التنسيق الاقتصادي و الترابط و التبادل التجاري, و التضامن السياسي
الوثيق في المجتمع الدولي لمجابهة الأخطار الخارجية و التعاون لتحرير الدول
الإسلامية المستعمرة و علي رأسها بالقطع فلسطين المحتلة: تلك جميعاً هي المجالات
الخصبة و الفعالة و الواجبة لتفاعل العالم الإسلامي سياسياً.
إنها في كلمة "وحدة عمل" لا "وحدة كيان". بل يمكن أن
نضيف: وحدة مصير, إلا أنها ليست دستورية, في كلمة أخري, وحدة فكرية لا دستورية.
و يعني هذا أن العمل السياسي و النشاطات الدولية الإسلامية التي تخضع
حالياً لتوجيهات منفصلة و مشتتة و ربما متعارضة, ينبغي أن تتحول من نمط الطرد
المركزي إلي قوي الجذب المركزي. لابد – يعني – من تنسيقها في إستراتيجية عظمي
واحدة, الإسلام بوصلتها التي تسترشد بها في عالم القوي الذي يهدد الكل بصراعاته و
توازناته, بضغوطه و تكتلاته, و أيضاً باستقطاباته و تفككاته.
من كتاب "العالم الإسلامي المعاصر"د. جمال حمدان
أعده للنشر / شرين حسين
0 تعليقات