عز الدين البغدادي
من الطبيعي أن تجد في كل مذهب أو مدرسة فقهية أو فكرية حدودا معينة، وفي
داخل هذه الحدود تكون هنالك اجتهادات وتوجهات وأفكار مختلفة.
إلا أن ما يحصل في الوسط الشيعي مختلف جدا، حيث تجد حالة تتجاوز الاختلاف
والتنوع إلى الارتباك بل والفوضى.
فيمكن أن تجد حالات اعتدال كالشيخ محمد الخالصي والسيد فضل الله ويقابلها
حالات من التعصب واللا منهجية تجدها عند مرجعية الشيرازي وجواد التبريزي ومحمد
سند، يمكنك ان تجد خطابا منطقيا مسؤولا عند الوائلي يقابله طرح شاذ ومتمرد لكنه
مقبول عند كثير من الشيعة كما تجد عند ياسر الحبيب وعبد الحليم الغزي وعلى السماوي.
تجد مبالغة في طقوس مبتدعة مرعبة ومثيرة للألم والسخرية معا تظهر كل سنة
تحت اسم "الشعائر الحسينية" يقابلها رفض وتنديد بالبدع، فتاوى واضحة
بعدم مشروعية بل تحريم الشهادة الثالثة يقابلها عمل الجمهور على خلاف ذلك.
أما القضية المهدوية فحدث ولا حرج
عن اسقاطاتها، ويكفي أن تلاحظ عدد الجماعات التي ظهرت، وكم ضللت من الشباب وكم
استهلكت.
ذهبت قيم التشيع، وتحول التشيع من رؤيته الأولى كفلسفة ورؤية ترفض الظلم
وتدعو الى العدالة، وهي الحالة التي وصفها الإمام الباقر (ع): "وما كانوا
يعرفون إلا بالتواضع والتخشع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر
بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق
الحديث وتلاوة القرآن وكف الألسن عن الناس إلا من خير ; وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء"
تحولوا من هذا الوصف الى أشخاص متمردين يظهر التشيع عندهم باللطم والنحيب وغيرها
من الطقوس المبتدعة وإلى الشتم واللعن والتميز عن المجتمع والتمرد عليه.
في كل جانب تجد خلافا وتنازعا وعدم وضوح، لا تكاد تجد قولا واحدا إلا ما
ندر. هذه الفوضى الفكرية كان يقابلها بل وينتج عنها فوضى عارمة على ارض الواقع،
والتي كانت لها إسقاطات واضحة في حالة التمرد وعدم الاستقرار عند الشخص الشيعي
نفسيا واجتماعيا.
في المواقف السياسية، تم التثقيف على التمرد وعدم طاعة القوانين، وعدم
احترام الدولة، ولهذا تجد الإشكال في أن الشيعي الذي تجده في المقدمة وهو يدافع عن
وطنه وينزف الدماء لذلك إلا أنه يفشل في إدارة بل حتى في التعامل مع الدولة بل
يفشل حتى في ان يعيش حياة جيدة . تحول "المذهب" الى أداة لتبرير تدمير
الدولة، أو الولاء لجهات أجنبية، كما وقف حائلا أمام فكرة المواطنة التي تجمع بين
أبناء البلد الواحد.
تم تدمير قيم الحياة، فيمكن أن تسكن في أحياء تفتقر لأي خدمة ولأي قيمة
مقابل ان تشيد المراقد ويتم تذهيبها، يمكنك بل يجب عليك أن تقاتل وأن تقتل ومع ذلك
تعيش أسرتك حالة فقر في وطن لا يعطيك أي شيء. يجب عليك أن تنتخب هذا الشخص لأنه
شيعي وإن كان فاسدا أو عميلا، لأنك إذا لم تفعل فسيذهب الحكم منكم لغيركم!! باختصار
عملية نصب واحتيال غير مسبوقة.
عموما ما حصل ويحصل لا يرجع الى الظروف الاجتماعية والسياسية فقط. بل يرجع
برأيي الى أسباب معرفية، لا سيما وأن الشيعة هم أكثر طائفة ترتبط بالمؤسسة
الدينية، الشيعي المتدين لا يتصور نفسه إلا مرتبطا بهذه المؤسسة، ليس هناك تديّن
لا يمر عبرها، وبالتالي فكل ما تنتجه فهو مسؤول عنه.
إن أهم الإشكاليات المعرفية التي أنتجت هذه الفوضى هي مشكلة تضخم الحديث
ورغم ان تضخم الحديث لا يختص بالشيعة فقط الا ان المشكلة عندنا تكمن في عدم وضع
مقاييس حقيقية موضوعية لنقد وتمييز الحديث، نعم توجد قواعد لكنها غير موضوعية فهي
مجرد أدوات تبريرية للسماح بالروايات التي يراد قبولها، لذا لا تجدها موضع اتفاق
أبدا، وهو جزء ممن ذكرته من الفوضى الفكرية.
في منهج تدوين الحديث عندنا لم يتم جمع الأحاديث بعد غربلتها، وهذا ما أنتج
موسوعات ضخمة من الحديث، وصارت كثرة الروايات بحد ذاتها شيئا جيدا ويدعو للفخر
والاعتزاز بغض النظر عما فيه. كثير من أفكارنا بنيناها على روايات سندها ضعيف جدا،
نفهم التاريخ بكل ما فيه وبكل تأثيراته من خلال روايات ضعيفة، نجد أنفسنا أمام كم
هائل ومرعب من روايات المعاجز والكرامات التي لا تملك أدنى اعتبار في سندها، تم
الغاء العقل بحجة أن مقامات الأئمة لا يمكن إدراكها، وكل رواية فيها تمجيد فيجب
قبولها. كما وضعت روايات تحث على القطيعة ومخالفة العامة، وعدم اخذ معرفة خارج
المنظومة الشيعية، وهو ما زرع بعمق فكرة التمرد والرغبة بالتميّز.
ولكي تتم عملية الانغلاق؛ فقد وضعت روايات في عدم جواز رد أي حديث، وأن
حديث الأئمة (ع) صعب مستصعب لا يفهمه أي إنسان، وعندما لا تفهم عليك أن تتهم فهمك.
كما تعرضت المحاولة الأهم لنقد الحديث وهو ما كتبه ابن الغضائري في كتابه "الضعفاء"
الى نقد شديد، وتهجم ورفض.
ثم جاءت طامة أخرى، وهي طامة التبرير في النقاشات والطروحات، وتحولت وظيفة
العقل من "الكشف" الى التبرير، وحسب. وهو خطأ منهجي كارثي دمّر الدين
والنظرة العلمية إليه في الوقت نفسه.
نحن الآن في مرحلة ينبغي أن تكون مرحلة مراجعة لأفكارنا، لفوضى الحديث،
لدور المنبر الذي تحول الى حالة سلبية جدا، لكل أخطائنا.
0 تعليقات