آخر الأخبار

الديمقراطية… والوهم




 



 

عز الدين البغدادي

 

منذ عقود تعرضت وتتعرض الديمقراطية لنقد كبير سواء في بلادنا أو في الغرب، لكن هناك بالتأكيد فرق بين النقدين من حيث أسبابه وأدواته، ففي بلادنا انتقدت لأسباب كثيرة، وتحت حجج محتلفة من قبل جهات "إسلامية" أو دكتاتوريات تعتمد هذه الحجج، وقد ذكرت تلك الحجج وناقشتها وبينت خللها في كتاب "نقد الإسلام السياسي" فمعظمها يرجع لفهم ديني خاطئ أو أو تهدف لتبرير الاستبداد فحسب.

 

 

 

أما في الغرب فإن دواعي نقدها مختلفة، لكن المفكر الغربي عموما ينتقدها لأنه تجاوزها أو لأنه في طريقه لتطويرها، لأنه لا يراها شيئا مقدسا بالتأكيد.

 

 

أما بالنسبة لنا فنحن أساسا لم نصل لمرحلة الثقافة اللازمة لها كأرضية تسبق تطبيقها، ولهذا فشلت عندنا، نحن لم نعايشها حتى ننقدها، بل لا زلنا نخاف منها، لأنها تحتاج أن نغير طريقة تفكيرنا ونكون أكثر موضوعية.

 

 

الكثير من المعقّدين دينيا، والذين يرددون ما يقوله غيرهم (ولا يشترط أن يفهموا شيئا مما يرددونه) وجدوا أن ما حصل في أمريكا هو فرصة لنقد الديمقراطية، وبيان خللها، وربما سيكررون كلامهم الذي لم ينجحوا بإثباته عن أن تطبيق الشريعة هو الحل وما إلى ذلك.

 

 

 

عموما الديمقراطية كلمة جميلة، تعني عند كثير من الناس حرية الرأي والتقدم واحترام الإنسان، الديمقراطية هي مشاركة الشعب في تحديد الوضع السياسي عن طريق الانتخابات، إلا أنّه منذ ان ظهرت الديمقراطية كفكرة ومنهج فإن مشاركة المواطنين ككل في الانتخابات لم تتحقق إلا في وقت قريب جدا، فالنظام السياسي في أثينا القديمة وهو أقدم ديمقراطية كان يحدد المشاركة فقط بالمواطنين الذكور الأحرار الذين ولدوا لآباء من أثينا وقاموا بتأدية الخدمة العسكرية، واستُبعد العبيد والنساء من المشاركة السياسية.

واستمر الأمر على ذلك في أوربا الحديثة، فلم يسمح للمرأة بأن تشارك في الانتخابات إلا في وقت قريب. ولم يُعطَ السود الحق بالمشاركة في الانتخاب إلا مع إلغاء العبودية بعد تعديل للدستور الأمريكي في عام 1886م. كما كان يشترط فيمن يشارك في الانتخابات إن يكون عنده حد ادني من التعليم، بل لم يكن يسمح للفقراء بالمشاركة فيها!!!!!

 

 

ويعتبر البعض أن الديمقراطية لم تتحقق واقعا إلا في عام 1906، عندما أصبحت فنلندا أول دولة تلغي العِرق والجنس كمتطلبات للتصويت وللخدمة في الحكومة.

 

 

وحقيقة فقد كنت كثيرا ما استغرب من هذه الديمقراطيات المفصلة على فئات معينة فقط، وأجدها مضحكة تهدف الى حصر السلطة في يد جهة معينة. إلا ان التجربة الديمقراطية في العراق كشفت ان ما كان يحدث عند تلك الأمم هو الصحيح، لأن النساء والجهلة والفقراء والرقيق كلهم لا يملكون رؤية وقرارا تسمح لهم بالمشاركة في العمل السياسي، فكلهم يخضعون لتأثير الغير (المال، رجال الدين، الإعلام المضلل) ولا يملكون قرارهم. وكشفت لنا تجربتنا ان الديمقراطية ليست صناديق انتخابات بل فيها نوع من الدعوة لتربية المجتمع ورفعه ثقافيا حتى يتمكن من المشاركة في عملية الشورى، إنها تفترض وجود قاعدة تتسم بالنضج والرشاد حتى يمكن البناء فوقها.

 

 

 

أي إنّه لا بد أن يكون هناك شعب واعٍ، ولا بدّ أن تكون هناك قيم كبرى تتجاوز تلك الفكرة الغبية التي تسمى "الأغلبية"، وإلا فكثيرا ما كان رأي الأغلبية سببا لشقاء الأقليات وإنشاء حكم مستبد وفاسد، خصوصا عندما تكون الأغلبية دينية أو قومية وحسب. بل ستكون الديمقراطية عندها سببا لتمكين السياسيين من خداع الجمهور والضحك عليهم والسخريّة منهم، وسرقة أموالهم ومصادرة إمكانياتهم. ومع عدم وجود شعب واع وقضاء نزيه وإعلام مسؤول وقانون يقف الجميع إمامه بالتساوي فلن تكون النتيجة الا شيئا مفجعا مرعبا، حيث يتمزق الوطن لتصول فيه العصابات وتجول.

إنّ الخطر يكمن في وجود جهات خارجية تصدّر لنا الديمقراطية بل وتفرضها علينا إلا أنها ليست نفس ديمقراطيتهم التي بنوا بها دولهم، بل هي شيء آخر لا تشابه ديمقراطيتهم الا بالاسم فقط. الديمقراطية ليست قانونا ولا انتخابات ولا مفوضية فاسدة، بل هي وعي مجتمعي أولا، ومع عدم وجود ذلك فلا معنى للحديث عنها الا اذا بذلك خداع الشعوب وتدمير الأمم وهو ما أرادته أمريكا في مشروعها في العراق.

 

 

وهذا للأسف ما لا يدركه كثير من المثَّقفين المندفعين أو الشباب المتحمسين كثيرا ممن يتحدّث عن العلمانية والديمقراطية دون أن يدرك معناها ومداها وشرطها وقاعدتها الفكرية. وهذا ما وقع فيه أيضا من ينتقدون الديمقراطية من المتدينين الانفعاليين أو الولائيين كما يسمون أنفسهم، فهم أفضل من يفكر بطريقة مقلوبة وانفعالية.

 

 


إرسال تعليق

0 تعليقات