آخر الأخبار

أسد وأسد وحدود الفقر المائى

 





 

عبد الفتاح مطاوع

 

 

 بناء على استحسان قرائنا الأعزاء لما نكتب حول بعض من قضايانا المصيرية والوجودية والحياتية، وعلى رأسها قضايا الماء والغذاء وسد النهضة، ورغبتهم في إلقاء المزيد من الضوء على دول حوض النيل ودول المنابع، وحياة سكانها و ممالكها البشرية والحيوانية والنباتية، أتمنى أن يلقى مقال اليوم قبولكم.

 

 

 

حيوانات الغابة و حيوانات حديقة الحيوان:

 

من مفارقات القدر، أن تقوم مصر باستجلاب أسد الغابة من موطنه الطبيعي بغابات ومراعي السافانا، شمال وجنوب خط الاستواء، واستجلاب غيره من حيوانات الأدغال كالقرود و ثعابين الأصلة، ناهيك عن الحيوانات الأخرى مثل الأفيال والتماسيح، والحمار الوحشي والجاموس الوحشي والزراف، التي تعيش حول خط الاستواء ومناطقه المطيرة الرطبة من دول منابع نهر النيل، و استجلابها إلى مصر دولة شمال شرق الصحراء الكبرى، حيث مدار السرطان ومناطقه القاحلة الجرداء الجافة، وتسكينهم في أقفاص بعضها من الحديد، وبعضها بيوت من الأسمنت المسلح بحديقة حيوانات الجيزة.

 

 

كارنيفور و هيربيفور و أومنيفور:

 

و نظراً لأن الأسد الملقب بملك الغابة، يتم تصنيفه بأنه من فصيلة الكارنيفور الآكلة للحوم، على خلاف الجاموس والغزلان والأبقار والحمار الوحشي والزرافات التي يتم تصنيفها من فصيلة الهيربيفور الآكلة للنباتات، فإن الإنسان يتم تصنيفه بأنه من فصيلة الأومنيفور، حيث يتكون غذاءه من خليط من لحوم الحيوانات والنباتات.

 

 

ويشاء قدر مصر أن تذهب صباح ومساء كل يوم، إلى أسواق البهائم لتشتري اللحوم التي يجب أن تغذي بها أسود حديقة حيوانات الجيزة، لتطعمهم كل صباح فيما عدا يوم واحد من كل أسبوع، حيث تصوم فيه الأسود عن الطعام.

 

 

كما شاء قدر مصر أيضًا، أن تذهب في مواسم حصاد القمح والأرز، لتشتري تبن القمح وقش الأرز كعليقة جافة للأفيال والأبقار والجاموس، وتذهب في مواسم الشتاء لشراء البرسيم المصري من الأسواق والحقول، ومواسم الربيع لشراء عسل النحل الأبيض من باعة العسل الأبيض والمناحل، كجزء من وجبة دببة القطب الشمالي، وشراء عظام لحوم الحيوانات من المجازر، كمكون رئيسي من وجبات الضباع، و شراء الأفراخ لوجبات التماسيح والثعالب، والحبوب للطيور والعصافير وغيرها الكثير من المشتريات.

 

 

ولو كنتَ من سكان شارع مراد أو شارل ديجول بمحافظة الجيزة، لوجدت أسطولاً من عربات شحن النقل الثقيل تُفتح له أبواب أسوار حديقة الحيوان فى الصباح الباكر – و قبل أن يستيقظ سكان القاهرة الكبرى و الوافدون إليها كل صباح من كل أرجاء أم الدنيا – ليستقبله أمناء المخازن، وجيش الشيالين والحمالين والعاملين بالحديقة، لتنزيل وتستيف المشتريات من الأطعمة لكل سكان حديقة الحيوان، ليتم تسليمها بعد ذلك لحراس الحيوانات والمشرفين على تغذيتهم.

 

 

 

حد الفقر المائي للإنسان:

 

 

وإذا كان العلماء قد حددوا حد الفقر المائي للإنسان الواحد بحوالي ١٠٠٠ متر مكعب في العام، وهي الكمية اللازمة لإنتاج غذائه من اللحوم والنباتات كل عام.

 

 

وبحسبة بسيطة فإن احتياجات الإنسان في المتوسط، حوالي ٢٥٠٠ سعر حراري كل يوم، ومن أجل إنتاج السعر الحراري الواحد من أي صنف من صنوف الطعام، الحيوانية أو النباتية، فنحن بحاجة إلى لتر واحد من المياه فى المتوسط، كما قدرها الخبراء.

 

 

وبناء عليه، ومن أجل إنتاج غذاء الفرد منا يومياً، فنحن بحاجة الى ٢٥٠٠ لتر من المياه، وبمعنى آخر نحتاج إلى ٢,٥ متر مكعب من المياه يومياً، و في رواية أخرى قرابة ١٠٠٠ متر مكعب سنوياً من المياه سواء كانت من مياه الأمطار حيث بلاد الأمطار بالمنابع، التي يتمكن فيها الفرد من التوسع في احتياجاته من المياه، أو من مياه الأنهار كنهر النيل فى مصر، التي لا يتمكن فيها الفرد من الحصول على معدل حد الفقر المائي من المياه .

 

 

 

 

حد الفقر المائي للأسد:

 

ونظراً لأن مهنتي بالأساس هي البحث العلمي بدرجة باحث، أما الآن فإن بطاقة الرقم القومي بها أستاذ متفرغ، فكنت قد قررت مع نفسي في منتصف التسعينيات أن أقوم بحساب كمية المياه اللازمة لإنتاج غذاء كل حيوان من تلك الحيوانات كل عام، وكم يكلفنا شراء هذا الغذاء المتنوع من الأسواق، ومقارنته بعائد بيع تذاكر دخول الحديقة من الزائرين، وفوق كل ذلك عائد الحديقة من رسم الابتسامة على وجوه صغارنا، وعلى وجوه كبارنا أيضاً من ضحكات وذكريات لم ولن ننساها.

 

 

كانت رحلة الحساب جميلة وممتعة، لأنها تطلبت مني معرفة ما يأكله كل حيوان من حيوانات الحديقة كل يوم، ونوعية الغذاء الذي يتناوله، وكذا معرفة كمية المياه اللازمة لإنتاج كل كيلوجرام من نوعيات الغذاء المختلفة .

 

 

طبعاً هناك فرق بين ما يأكله أسد الغابة الحر الطليق فى مملكته الحيوانية فى الطبيعة فى دول منابع النيل، وفي الحدائق المفتوحة في سيرينجيتي بتنزانيا و في مارا بكينيا، أو بالحدائق المفتوحة بأوغندا وغيرها بأثيوبيا ورواندا وبوروندي حيث الغوريللا، والكونغو وجنوب السودان، وفرق بينها وبين أسد الحديقة وأسوارها و داخل أقفاصها في حديقة حيوان الجيزة.

 

 

ولأن موضوعنا هنا هو الأسد في حديقة الحيوان، وجدت أن حصته اليومية خمسة كيلوجرامات من اللحم الأحمر، ومن أجل إنتاج كيلوجرام واحد من اللحم الأحمر يلزمه ٢٠ متر مكعب من المياه، وبناء عليه فإن الاحتياجات المائية لإنتاج غذاء الأسد فى اليوم، تعادل ١٠٠ متر مكعب من المياه سواء كان مصدر تلك المياه من مياه الأمطار كما هو الحال في الغابات الطبيعية، أو من مياه الأنهار كما هو الحال فى حدائق الحيوانات المغلقة كحديقة حيوان الجيزة.

 

 

كانت النتيجة بناء على ما سبق توضيحه، أن الاحتياجات المائية لإنتاج غذاء الأسد كل عام، تعادل ٣٦ ألف متر مكعب من المياه، وهو يعادل ٣٦ مرة حد الفقر المائي للفرد الواحد من فصيلة الإنسان.

 

 

زواج أسد حوض النيل في قفص الحديقة:

 

 

وأثناء البحث عن وجبات الأسد المفضلة، والتي عادة ما تقوم اللبؤة زوجة الأسد بالقيام بها، لأنها مهمتها عبر عمليات اصطياد الطرائد وتقديم الفريسة للأسد كي يتناول طعام العشاء، بينما مهمة الأسد الكبرى هي الدفاع عن العرين إذا ما تعرض للهجوم من حيوانات الغابة الشرسة كالضباع مثلاً، ولكن المدهش والعجيب والغريب من معلومات وجدتها أثناء البحث، أن الأسد يعاشر زوجته مرة كل ٣٠ دقيقة لمدة يومين فقط فى موسم التزاوج مرة واحدة من كل عام.

 

 

و تلك القصص عن زواج الأسد لم أرها ولم أسمع عنها، لا في حديقة حيوان الجيزة ولا في سيرك الحلو الشهير، الذي كان يجوب كل بقاع مصر فى المناسبات الدينية والاجتماعية الشعبية كمولد السيد البدوي بطنطا ومولد إبراهيم الدسوقي بمدينة دسوق، وفي المناسبات والأعياد الوطنية بالسيرك القومي.

 

 

التماس للحكومة لإنقاذ أسود السيرك في زمن كورونا:

 

عندما قصصت لأسرتي نيتي عن كتابة مقال خفيف الظل عن أسود حديقة الحيوان، والفرق بين حد الفقر المائي للإنسان وحد الفقر المائي للأسد، وأثر جائحة كورونا على الإنسان والحيوان، والفرق بين البيئة التي يعيش فيها أسد الغابة وأسد حديقة حيوانات الجيزة، وجدت منهم من ينبهني إلى أن أسود حديقة حيوانات الجيزة ليس لديها أية مشكلة في الحصول على حصتهم اليومية أو الشهرية من الغذاء، لأن حيوانات الحديقة مثلهم مثل موظفي الحكومة، حيث مرتبهم من الباب الأول من ميزانية مصر السنوية، التي يشرف على الصرف منها وزارة المالية، أما أسود السيرك الخاصة، والمملوكة للأفراد، وقرود القراداتية الذين كانوا يجوبون قرى مصر ليسعدوا الملايين، ويرسموا الابتسامة على وجوههم، عندهم مشكلة الآن، حيث يحصلوا على وجباتهم من نقود جيوب ومدخرات أصحابها ومروضيها، والتي نعتقد أنها بسبب توقف العمل قاربت على النفاذ، إن لم تكن قد نفذت بالفعل فى زمن كورونا، عندها لن يجدى البكاء على اللبن المسكوب، وكلنا أمل أن تساعد حكومتنا الرحيمة أسود السيرك وقرود القراداتية ممن هم ليسوا من موظفيها، وإلا عليها تحمل غضب ومسح البسمة المرسومة على وجوه الصغار قبل الكبار.

 

 

شهادة أسد الغابة:

 

فهل نطلب من الحكومة إنقاذ أسود السيرك فقط، أم نطلب من حكومتنا تحرير وإرجاع تلك الحيوانات إلى دول منابع نهر النيل؟ حول خط الاستواء، حتى الذين ولدوا منهم بمصر، بهدف إعادتهم إلى بيئتهم الطبيعية، حيث المراعي الخضر، والغابات والأدغال وبحيرات المياه العذبة، وشلالات المياه في مساقط موريشيزون وكروما وبوجا جالي وكالاجالا بأوغندا، حيث منابع النيل الأبيض، وشلالات تيس سات بعد مخرج بحيرة تانا على النيل الأزرق.

 

 

وبالمرة ليكونوا شهوداً على الوفرة المائية من مياه أمطار وبحيرات المياه العذبة، والوفرة الغذائية من غزلان وحيوانات وأسماك ومراعي طبيعية، في دول منابع نهر النيل، ولتكن الحيوانات بقيادة أسد الغابة، أو أسد حديقة حيوانات الجيزة، أو أسد السيرك العائد إلى غابات وأدغال دول المنابع، شهوداً على الوفرة المائية والوفرة الغذائية، وشهوداً على حقيقة اقتسام المياه بين دول حوض النيل ومصر، بدلاً من أكاذيب وألاعيب البشر.

 

وكما يقول المثل الشعبي المصري الشهير:

” الحدق يفهم”.

 

*بقلم د. عبد الفتاح مطاوع خبير المياه


إرسال تعليق

0 تعليقات