محمود جابر
لا يختلف أحد من أهل
الملة أن الإسلام سماوى التنزيل والتشريع، وهو أيضا بشرى الفهم والتطبيق؛ وبما أن
الله تعالى علمه قديم وأزلي فقد شرع لنا التنوع والخلاف قال تعالى (مَا قَطَعْتُمْ
مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ).
والنبى صلى لله عليه وآله وسلم يقول "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ. وَلَنْ يُشَادَّ
الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا".
فالله تعالى شرع لنا
الاختلاف فى استنباط الحكم الشرعي، وفى فهم طرق العمل استنادا إلى القرآن الكريم
والسنة الشريفة ودلالات اللغة، وتغير الزمان والمكان، وفق مفهوم (إِنَّ هَٰذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ).
لهذا فإن الخلاف وقع
فى وقائع عديدة زمن النبي بين أصحابه فى فهم مقصد القرآن وفى فهم مقصد حديثه صلى
الله عليه وآله، وكان النبي يصحح الخطأ ويتجاوز عن صاحبه وينصح لهم.
وقد ألف العديد من
علماء الأمة مؤلفات عديدة حول الخلاف والاختلاف ومن هؤلاء الأعلام الإمام أبى
الحسن الأشعري – إمام الأشاعرة " أهل السنة"- وفى كتابه الهام جدا "مقالات
الإسلاميين واختلاف المصلين" وهذا العنوان ذاته ذو دلالة لا تغيب عن صاحب نظر
يقول الإمام الأشعري فى مقدمة الكتاب وفى صفحته الأولى ما نصه..." اختلف
الناس بعد نبيهم صلى الله عليه – وآله – وسلم فى أشياء كثيرة ضلل فيها بعضهم بعضًا
وبرىء بعضهم من بعض فصاروا فرقا متباينين وأحزابا متشتتين، إلا أن الإسلام يجمعهم
ويشتمل عليهم ".
فإمام أهل السنة يقول
فى افتتاحية كتابه مجموعة من النقاط الهامة وهي:
- الاختلاف كان بعد النبي
- الخلاف ولد خصومة
وبراءة البعض من البعض
-
أن جميع المختلفين هم مسلمين.
ولقد كان، وما يزال
من المستطاع، أن يجعل المسلمون من المذاهب نعمة، إذا أخذوا من اجتهاد كل إمام ما
يوافق الكتاب والسنة، وما يتلاءم مع ظروف كل مجتمع ويتواءم معه.
وإن المذاهب ستبقى
نقمة، إذا أصر كل فريق على التعصب لمذهبه ذلك أن التعصب باعث للاضغان والحقد والكراهية،
وهو عامل رئيسي من عوامل التفرقة، بل أنها تعطى أعداء الإسلام قوة إلى قوتهم،
وتساعدهم على ابتزاز المسلمين كل مذهب وفرقة على حدا مستخدمين ما يقوله كل طرف فى
حق الأخر يبنون عليهم إعلامهم الذى هو دافع ومحرك لكل فتنة وكل حرب وكل اقتتال بين
من أمرهم الله تعالى بـ ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ).
وهنا يجدر أن انقل
كلام مهما للعلامة الخوئى- أحد أهم مراجع تقليد الشيعة فى السبعينات والثمانينات
من القرن الماضى- " لا يشك أحد من المسلمين ؛ أن كلام الله تعالى انزله على
نبيه الأعظم، برهانا على نبوته، ودليلا لامته.
ولا يشك أحد منهم، أن
التكلم إحدى صفات الله تعالى الثبوتية وقد وصف الله تعالى نفسه بهذه الصفة فى
كتابه فقال تعالى ( وكلم الله موسى تكليما).
ولقد كان المسلمون
بأسرهم على ذلك، ولم يكن لهم أي اختلاف فيه، حتى دخلت الفلسفة اليونانية، أوساط
المسلمين حتى شعبتهم بدخولها فرقا، تكفر كل فرقة وطائفة أختها، وحتى استحال النزاع
والجدال إلى المشاجرة والقتال".
أليس من الغريب أن
يتعرض المسلم، الى هتك عرض أخيه المسلم والى قتله؟ وكلاهما يشهد أن لا اله إلا
الله وحده لا شريك له؛ وأن محمد عبده ورسوله، جاء بالحق من عنده، وأن الله يبعث من
فى القبور.
أولم تكن سيرة نبى
الإسلام، وسيرة من ولى الأمر من بعده، أن آثار الإسلام تنطبق على من شهد بوحدانية
الله ورسالة النبي ؟!
فهل روى أحد أن
الرسول صلى الله عليه وآله، أو غيره ممن قام مقامه بعده، سأل أحدا عن حوادث القرآن
ووقائع التاريخ، أو عما سواه من المسائل الخلافية، ولم يحكم بإسلامه إلا بعد أن
يقر بأحد طرفي الخلاف!!
ولست ادري – وليتنى
كنت أدرى- بماذا يعتذر من ألقى الخلاف بين المسلمين؟ وبم يجيب ربه تعالى يوم
يلاقيه، فيسأله عما ارتكب؟
وجاء فى الحديث عن
عبد المؤمن الأنصاري: قلت لأبى عبدالله الحسين – ابن على بن أبى طالب – إن قوما
يروون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: اختلاف أمتي رحمه ؟
فقال: صدقوا.
فقلت: إن كان
اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب ؟
قال: ليس حيث ذهبت
وذهبوا ؛ إنما أراد قول الله عز وجل ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا
فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) فأمرهم أن ينفروا إلى رسول
الله فيتعلموا ثم يرجعوا الى قومهم فيعلموهم.
إنما أراد اختلافهم
من البلدان، لا اختلافهم فى دين الله.
إنما الدين واحد،
إنما الدين واحد"، وسائل الشيعة كتاب القضاء.
وروى عن الإمام
الصادق – جعفر بن محمد بن على بن الحسين – قال: "إياكم والخصومة فى الدين،
فإنها تحدث الشك، وتورث النفاق".
وهذه الكلمة هى عبقة
نبوية، وهى كلمة حق فى ذاتها، ذلك أن الخصومة تحدث شكا فى الحقائق، وحيث كان الشك
كان الاضطراب النفسى، وإذا كان الاضطراب النفسى، كان النفاق، إذ أن المنافق لا
يؤمن بشىء؛ وهو فى اضطراب دائم وبلبة مستمرة، ولذلك يقول النبى صلى الله عليه وآله
قال:" مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين قطيعين لا تدرى أيهما تذهب".
وفوق ذلك فإن الجدل
فى الدين يورث حب الغلبة، وحيث كان حب الغلبة يضيع الحقائق ويذهب الدين، ولذا كان
الإمام مالك ينهى عن الجدل فى الدين، حتى لا يكون الغلبة لأقوى الألسنة، وكان يقول:
كلما جاء رجل أجدل من رجل نقص مما جاء به محمد صلى الله عليه وآله.
ولكن يجب أن نفرق بين
الخصومة فى الدين، واختلاف الفقهاء حول استنباط الأحكام التى ليس فيها نص قطعي
الدلالة والثبوت، فإن ذلك الاختلاف ليس خصومه فى الدين، إنما هو طلب للحق فى إخلاص
إلا من ران على قلبه التعصب المذهبي، وذلك لم يكن فى عصر الاستنباط الفقهى فى عهد
كبار المجتهدين ولا من أتى بعدهم.
والاختلاف الفقهى فى
الاستنباط دليل على الحيوية الفكرية، ولذا لا يصح أن نعتبر اختلاف الصحابة
والتابعين فى استنباط الأحكام التى تعتمد على الرأى خصومة فى الدين، ولكنه اختلاف
منهج فكرى فى تفسير النصوص وتخريجها؛ ولذلك كانوا يقولون فى آرائهم: إن كانت حقا
فمن إلهام الله وتوفيقه، وإن كانت باطلا فمنهم ومن الشيطان.
هذا ولقد استحسن
المخلصون لدينهم أن يكون بين الصحابة ذلك الاختلاف حول استنباط الحكم الشرعى، ولذا
قال عمر بن عبد العزيز " ما يسرنى باختلاف أصحاب رسول الله حمر النعم، ولو
كان رأيا واحدا لكان الناس فى ضيق".
ولقد اختلف بعد
الصحابة والتابعين الإمام زيد بن على، والإمام الباقر، وابنه الإمام الصادق، وأبو
حنيفة ومالك والأوزعى، والليث بن سعد ومن بعدهم الشافعى، واختلف مع أصحاب مالك
وأصحاب أبا حنيفة وكان منهم العالم المناقش والمتعصب المجادل، ولم يكن بينه وبين
المختلفين اختلاف يقين، بل كان من ظواهر الإيمان الصادق، والإدراك الحقيقى لمعانى
الإسلام، ولم يكن تباين فى أصول الدين، بل فى فروعه التى تختلف فيها الأنظار لعدم
وجود نص قاطع، بل اعتمد المطبق أو صاحب الإفتاء على تطبيق قواعد الإسلام وتحقيق
المصلحة ودفع المفسدة مما يفترض أنها غاية الشرع الحنيف، وجميعهم واقفون عند قول
القائل " رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيرنا خطأ يحتمل الصواب".
وختاما نقول إن كل قول يعد من قبيل الخصومة فى الدين فهو
مخالفة لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى اله عليه وآله، وهذا الخصومة لابد أن تنتهي
ما دام الدين واحدا، والعقيدة واحدة، وتجمعنا جميعا جامعة واحدة، ولا يصح أن ننقل
خصومة المتخاصمين فى الدين جيلا بعد جيلا، لأنها عصبية فى الإسلام، وإذا كان النبى
نهى عن العصبية النسبية، وقال: من دعا إلى عصبية فليس منا". فإنه من الواجب
ألا تورث العصبية الدينية، بل إنها أولى بالمنع، وأصحابها أولى بالعقاب، لأن
الافتراق لا مبرر له فى الدين، وليس حكمة توافق عليها الناس.
ولكن للأسف الذى نراه
الآن مع الآسى والألم أن الخصومة تنتقل من مكان إلى مكان ومن جماعة إلى جماعة
تقطيعا للمسلمين وتمزيقا للجسد الواحد فى الدين، وصار المسلمون طوائف، كل طائفة
اعتزلت الأخرى، وفسقت الأخرى، وباتت تفكر فى قتالها، ولا سبيل لمحو هذه الخصومة
الموروثة إلا إذا قصرناها على الأسلاف، وأصبحنا لا نفكر إلا فيما يصلح أحوالنا
دنيا ودينا، ونقول فى قوة (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ
وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ونجتمع
بعد طول الافتراق.
0 تعليقات