عز
الدين البغدادي
أثار تسجيل للسيد
رشيد الحسيني نقاشا واسعا في اليومين الأخيرين، وقد طلب مني بعض الإخوة بيان رأيي
في الموضوع، فأقول: هناك نقطة هامة وايجابية أكد عليها المتكلم وهو خطورة أصحاب
البدع وضرورة مقاومتهم، وتحذير من أصحاب الأهواء المشتتة للأمة وهذا أمر ايجابي،
إلا أن المشكلة التي لم يقف عندها هو ولا غيره هو تحديد البدعة بشكل واضح ومحدد، وإلا
فيمكن أن نصف بالدعة كل من يختلف معنا في رأي ما ثم نرتب عليه آثار ذلك ومنها
البهتان أي الافتراء عليه‼
والبهتان وان كان
كذبا إلا انه كذب في درجة أعلى واخطر، فمثلا لو قال شخص: أنا امتلك سيارة، او قال
لولده الصغير: اشتريت لك لعبة مثلا، فهذا كذب. أما البهتان فهو أمر أخطر لأن معناه
الافتراء على شخص ما بما ليس فيه لغرض تسقيطه وتوهينه في المجتمع.
كما ان الكذب قد يكون
حسنا مقبولا كما لو كان لإصلاح ذات البين مثلا، أما البهتان فانه لا يكون إلا
قبيحا منكرا لأنه تسقيط لإنسان بغير وجه حق.
لا نحتاج إلى الحديث
عن قبح وتحريم الكذب، بعدما جاء من ذمّ لهذه الصفة فضلا عما هو مرتكز في الذهن
ومتسالم عليه بين الخلق. وقد بلغ من التشديد على إنكاره قول النبيّ (ص): إن الكذب
يكتب كذبا حتى تكتب الكُذيبةُ كذيبةً.
وسئل النبي (ص): أيكون
المؤمن جبانا؟ فقال: نعم، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلا؟ فقال: نعم، فقيل له: أيكون
المؤمن كذابا؟ فقال لا.
واذا كان الكذب
مذموما بهذا الشكل، فمن باب أولى ان يكون البهتان مذموما وقبيحا. لكن رغم ذلك،
تتعجب حينما تجد بعض أهل العلم يُجيزون الكذب على الخصم ليظهر أمام الناس بمظهر
قبيح، وأي بِدعة أسوأ من أن تعمد إلى أسٍّ من أسس أخلاق الإنسان -حرص الدين على
تثبيتها- لتخلعه باسم حرب أهل البدع.
وكنت وجدت لأحد علماء
الوهابية واسمه علي بن خضير فتوى بجواز الكذب على أهل البدع، حيث قال: ........ ومن
الحرب حرب الأفكار، وهي أشد من حرب القتال، فيجب استخدام الخدعة، ويباح الكذب فيها
لإظهار أهل البدع والشركيّات وأهل الفرق الباطلة من روافض وزنادق وأهل علمنة
وحداثة وقرامطة وغيرهم بمظهرهم المخزي لكي لا يغترّ بهم عوام المسلمين.
الا ان هذا الرجل لا
يمثل وزنا ثقيلا قياسا لما يمثله السيد الخوئي، فقد قال في " مصباح الفقاهة":
هل يجوز هجو المبدع في الدين أو المخالفين بما ليس فيهم من المعائب، أو لا بد من
الاقتصار فيه على ذكر العيوب الموجودة فيهم؟ أما هجوهم بذكر المعائب غير الموجودة
فيهم من الأقاويل الكاذبة، فهي محرمة بالكتاب والسنة، وقد تقدم ذلك في مبحث حرمة
الكذب. إلا انه قد تقتضي المصلحة الملزمة جواز بهتهم والإزراء عليهم، وذكرهم بما
ليس فيهم افتضاحا لهم، والمصلحة في ذلك هي استبانة شؤونهم لضعفاء المؤمنين، حتى لا
يغتروا بآرائهم الخبيثة وأغراضهم المرجفة.(التعليق الثاني).
وكرر ذلك في كتاب "صراط
النجاة" (التعليق الثالث). ومع إنّ هذه الفتوى جاءت بسبب حديث صحيح روي من
طرقنا عن النبي (ص) جاء فيه: إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فاظهروا البراءة
منهم، وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم لئلاّ يطغوا في الفساد في
الإسلام..
مع إنّ كون الحديث
صحيحا سنداً لا يجعله بمنأى عن نقد المتن، إذ كيف يمكن أن يوصي النبيّ (ص) ببهتان
المخالف؟! لذا فيحتمل أن يكون المقصود بالمباهتة هو إلزامهم بالحجج القاطعة وجعلهم
متحيرين لا يحيرون جوابا كما قال تبارك: ( فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ )، ولست متأكدا
لكن أسمع أن هذا هو رأي السيد السيستاني.
كذلك أنكر ذلك الفهم
زين الدين بن علي العاملي المعروف بالشهيد الثاني فقال: يصحّ مواجهتهم بما يكون
نسبته إليهم حقا لا بالكذب.
فلا يجوز نسبة شيء
إلى أحد، وإن كان مبتدعا إلا إذا كانت النسبة صادقة، مع إن الخطير في فتوى المحقّق
الخوئي (قده) هي أنها تفتح بابا لا يمكن التحكّم فيه، ففي الخلافات الدينية يمكن
لأي أحد أن يدعي بأنّ مخالفه مبتدع؛ وبالتالي يجوز هتكه والكذب عليه!! لا سيما مع
قوله تعالى ( وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ).
وبرأيي ان المهم بل
الأهم أن نفهم بأن هناك حديثا تم التعامل معه بشكل غير صحيح وأنتجت بسبب ذلك فتوى
غريبة لم يكن لها أي شهرة، وهي فتوى شاذة، ولم يكن السيد الحسيني مصيبا أبدا حينما
نسب هذا القول الى العلماء حتى دون أن يكلف نفسه للأسف بذكر القول الآخر وهو القول
الأوضح والأشهر والموافق للشريعة... بل كان عليه أن يحدد القائل به حتى لا يظهر
وكأنه قول متفق عليه، وهو ليس كذلك. بل كان ينبغي عليه ان لا ينقل أمرا كهذا كرأي
مسلم، بل وأن يمارس نقدا على الفتوى وهو رجل فاضل لا سيما مع ما فيها من عدم
مقبولية علميا وأخلاقيا…
والله اعلم
0 تعليقات