عز الدين البغدادي
بعد فشل تجربة الديمقراطية المشوهة في العراق؛ صرت تجد حنينا عند كثير من
الناس الى عهد الدكتاتورية بكل ما فيها، بينما لا يزال البعض متمسكا بالديمقراطية
المشوهة التي دمرت العراق بعد 2003 مع كل سلبياتها، ويرى أنها مع سلبياتها أفضل من
ذلك العهد الأسود.
والحقيق فإن أي مجتمع غير مهيأ فكريا ونفسيا فلن تنتج الديمقراطية فيه إلا
الخراب، وهذا ما حصل عندنا، وهو ما حصل من قبل في دول أمريكا اللاتينية ما بين 1980-
1990 حيث لم تأخذ تلك الدول إلى الديمقراطية، بل أدت بها إلى فوضى.
عموما اذا نظرنا بموضوعية وابتعدنا عن الأفكار الجاهزة فسوف نجد أنفسنا بين
خيارين: ديمقراطية تنتج خرابا أو الاستبداد، وكلاهما خياران سيئان.
هناك فكرة طرحت منذ زمن تدور حول ما يسمى ب "المستبد العادل" أو
"المستنير" تدعو إلى القبول بوجود حاكم مستبدّ، أي حاكمٌ لا يرجع إلى
شورى مُلزمة، ولا يتقيّد بها، إلا إنّه يكون عادلا منصفا للناس، وذلك لكونه أقدر
على منع الظلم وضبط الأمور.
وللتوضيح أقول: كثيرون يعترضون على عبارة "مستبد عادل" لكونها
متناقضة إذ كيف يجتمع العدل مع الاستبداد كما يقال؟ الاستبداد ليس معناه الظلم بل
معناه الاستئثار بالسلطة وعدم الرجوع إلى شورى تلزم الحاكم بأمور لا يقتنع بها. فيمكن
أن يكون المستبد عادلا، ويمكن أن يكون ظالما كما في الأمثلة التي سنأتي على ذكرها.
هذا الحاكم يضع وسائل الدولة ومقدراتها في خدمة المجتمع على أساس العقل
والمنطق، وينبغي أن يكون مستبداً ليكون قادراً على إنفاذ أسباب، لاسيما وأنّ سواد
الشعب ليسوا على ما يكفي من الوعي. وأيضاً لأنّه غالبا ما يكون هناك مراكز قوى
للتأثير وتحريك الناس، والسيطرة على الثروة، مثل قبيل الإقطاع أو رجال الدين أو
بعض الأحزاب والجماعات المتنفذة والفاسدة وهذه لا يمكن إزاحتها إلا بقوّة ربّما
تتجاوز شكليّة القوانين.
من أشهر من نظر لهذه الفكرة ودعا لها الفيلسوف الفرنسي فولتير، وأيضا الشيخ
محمد عبده المصري الذي كان يرى بأن الشرق لا ينهضه به إلا حاكم من هذا الطراز.
إنّ المستبد العادل أو المستنير قد يكون ضروريا في مجتمع يسيطر عليه
التخلّف، أو تتعدّد فيه مراكز القوى والتأثير؛ لأنه
وفي ظروف كهذه، فإنه وبدون وجود حاكم عادل ومستبد ويملك لا يمكن نقل مجتمع
أو دولة من مرحلة سياسية وثقافية إلى أخرى أكثر حداثة وتقدما, فإنّ الديمقراطية لن
تكون فيها إلا وسيلة لنشر الفوضى وأداة للهدم وخلخلة الوضع، لا أداة بناء وتعمير. لذا
فاعتقد أننا بحاجة لتطوير فكرة من مستبد عادل أيضا لا يظلم إلى مستبد له رؤية
علمية لتطوير المجتمع ونقله إلى مرحلة أفضل.
هذا الرأي ليس مجرّد كلام يقال، بل هو واقع مرّت به أممٌ لم تنهض ولم تخرج
من محنها إلا بوجود مستبدّ عادل أو مستنير، يدفع البلاد إلى التطور والتنمية،
ويمنع الظلم، ويجعل للدولة هيبتها واحترامها. فإذا نظرت في تجارب الأمم فستجد ان
معظم الدول الكبيرة مرت بمرحلة المستبد العادل كمرحلة وسيطة بين مرحلتي الاستبداد
والديمقراطية، ولا يمكن الانتقال من هذه الى تلك مباشرة.
ويمكن هنا أن نضرب مثلا بدول حكمها ملوك من هذا النوع حتى نهضت. فمن هؤلاء
فردريك الثاني ملك بروسيا (ألمانيا)، الّذي كان شخصا قويّا، وأيضا كان متنورا
ومثقفا بشكل لم يكن له نظير في ذلك الوقت.
وهناك أيضا كاترين العظمى ملكة روسيا التي نقلت بلدها بشكل كبيرٍ حتى صارت
روسيا دولة عظمى وذات شأن، ويُحسب لها ألف حساب بين الدول العظمى.
ويمكن أن نذكر هنا أيضا جوزيف الثاني ملك النمسا الّذي ألغى الرقّ، وعمل
على إشاعة التسامح في المجتمع. وهناك أيضا جوستاف الثالث ملك السويد الّذي نقل السويد
من دولةٍ فقيرة إلى دولة عظمى في أوربا، وجعلها من أهم القوى التي يحسب لها في
موازين القوى في القارة العجوز.
ويمكن أن نذكر أيضا كارلوس الثالث ملك إسبانيا، الّذي عمل على توفير عيشٍ
كريم لرعيّته، وحارب طغيان الكنيسة في وقته. هذا فضلا عمّا أحدثه الإمبراطور ميجي
في اليابان، حيث قلب حالها من مجتمع متخلّف متمزق إلى إحدى أهم الدول وأقواها
وأكثرها تأثيرها.
واعتقد أنّ هذا هو ليس أمراً تاريخيا بل أمر ما زال قابلا للنجاح، كما ثبت
ذلك في تجارب معاصرة وفي بلدان مثل كوريا الجنوبية (باك تشونغ هي) وماليزيا (مهاتير
محمد) وسنغافورة (لي كوان يو) وبوركينا فاسو (توماس سانكارا)، كما لا يخفى على من
نظر في ذلك وتأمل.
نحتاج الى وعي سياسي، يتجاوز وهم الديمقراطية الذي أكل الأخضر واليابس أو
الرجوع إلى دكتاتورية رعناء كتلك التي مر بها العراق من قبل والكثير من الدول
العربية حولنا ودول العالم الثالث.
0 تعليقات