نصر القفاص
تأثرت آراء الشيخ "محمد
عبده" السياسية بما تعرض له فى حياته من نفى وتهميش لبعض الوقت.. وما تعرض له
من مؤامرات كان يحيكها ضده "الخديوى عباس" لذلك جاهر برفضه لمنهج حكم "محمد
على"..
ولم ير له إنجازا
طوال سنوات حكمه!!
وكشف عن ذلك بمقال
نشره فى "المنار" التى كان يصدرها الشيخ "رشيد رضا" فى يونيو
من عام 1902 تحت عنوان "آثار محمد على فى مصر" قلل فيه من دور "محمد
على" فى نشر العلم, قائلا أنه فعل ذلك لأجل الجيش..
وأضاف بأنه اهتم
بالهندسة ليدبر الرى لإقطاعه الكبير.. واتهمه بأنه لم يفكر فى إصلاح اللغة ولا
بناء التربية..
واعتبر أن اهتمامه
بالزراعة والصناعة, لتسخير المصريين فى العمل حتى يستبد بثمرته!!
وانتهى فى مقاله إلى
أن "محمد على" كان: " تاجرا زارعا وجنديا باسلا ومستبدا ماهرا.. لكنه
كان لمصر قاهرا ولحياتها الحقيقية معدما"!!
والمدهش أنه كان ضد
المماليك فى الوقت نفسه, ونشر "بلنت" فى مذكراته أنه قال لهم: "النظام
المملوكي الشركسي فى آخر مراحله, كان فاسدا فى أساسه ومنحل الأخلاق.. لكن هذه لم
تكن حال المماليك الأوائل الذين كانوا عبيدا أحضرهم صلاح الدين الأيوبي إلى مصر"
وهذه الرؤية كان يؤسسها على أن العدالة تتحقق إذا تكافأت قوى الحاكم مع قوة
المحكوم – يقصد المعارضة – وهى رؤية تستحق المناقشة والتقدير حتى وإن اختلف البعض
معها أو عليها.
كان "محمد عبده"
شديد الاعتزاز بمصريته ووطنيته, لذلك استمر من بداية حياته حتى نهايتها معاديا
للسلطة العثمانية وداعيا للتحرر منها.. فهو لا يرى إيجابية واحدة تحققت من سيطرة
الدولة العثمانية على بلاد العرب والمسلمين, وكان يصف سلاطينها وحكامها بأنهم "مجرمون"
و"مجانين"!!
ودرس وحقق مسألة
السلطة الدينية وانتهى إلى أنه: "لايوجد فى الإسلام سلطة دينية.. والسلطة
الوحيدة فى الإسلام هى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر.. وهى
سلطة خولها الله لأولى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم.. كما خولها لأعلاهم يتناول
بها من هم دونهم" وأكد على أن الإسلام جاء لهدم السلطة الدينية.. فلم يدع
الإسلام بعد الله ورسوله سلطانا على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه.. فالرسول
عليه الصلاة والسلام كان مبلغا ومذكرا.. لا مهيمنا ولا مسيطرا وليس لمسلم مهما علا
كعبه فى الإسلام, على آخر مهما انحطت منزلته إلا حق النصيحة والإرشاد.. ولا يجوز
لأحد من الناس أن يتبع عورة أحد, ولا يجب لقوى ولا لضعيف أن يتجسس على عقيدة أحد"..
وهاجم دعاة التكفير
بصرامة رافضا احتكار الإسلام لتفسيرات مشوهة تسمح لأحد بتحديد المنكر ومنعه بالقوة
أو العنف.. وأوضح أن السلطة السياسية فى المجتمع الإسلامى هى سلطة مدنية للشعب أن
ينتخبها ويعزلها.. ثم أضاف: "لا سلطان باسم الدين للخليفة أو الحاكم.. لا
سلطان باسم الدين للقاضى.. لا سلطان باسم الدين للمفتى أو لشيخ الإسلام.. وسلطة كل
منهم هى سلطة مدنية.. لذلك أرى أن السلطة العثمانية هى عمل سياسى لا علاقة له
بالتدين, وحققت ذلك بالغزو والسيف.. ويقول "بلنت" أنه تلقى رسالة من "محمد
عبده" يوم 25 إبريل 1882 يؤكد فيها كراهيته للأتراك إلى حد كراهية ذكرهم, وتأكيده
على أنه لو فكر الأتراك فى العودة للسيطرة على مصر.. فيجب على كل مصرى أن يحمل
السلاح فى وجوههم!!
ويقول "بلنت"
فى مذكراته: "سمعت محمود سامى البارودى, ومحمد عبده, وعبد الله النديم, وأحمد
عرابى يلعنون السلاطين والأمة التركية من عهد جنكيز خان وهولاكو حتى السلطان عبد
الحميد..
بل أن عبد الله النديم ذهب إلى حلمه بهدم عرش
السلطان العثمانى"!!
ولعلك وأنت تقرأ هذه المواقف والآراء تدرك سر
التعتيم عليها, وتفهم أسباب تجاهل الأزهر لتاريخ وعطاء "الطهطاوى" و"عبده"
باعتبارهما قاعدة إصلاح الخطاب الدينى.. وإذا كان الأزهر لا يريد.. فأين وزارات
الثقافة والتعليم والتعليم العالى والشباب.. هل يمنعهم أحد من إعادة نشر كتبهم
وأفكارهم ومناقشتها عبر أذرع الإعلام الطويلة, التى يتم استخدامها فى الضرب على
رأس الشعب المصرى بمطارق السطحية والانحطاط!!
ولعلى بهذه الإشارة
أجد واجبا ضرورة الإشارة إلى محاولة "لينين الرملى" حين كتب مسرحية "أهلا
يا بكوات" التى ناقش خلالها هذا الملف, ونجحت المسرحية بصورة مذهلة جماهيريا..
فكان أن تم إيقافها ومنع عرضها فى التليفزيون.. وفيها انتهى إلى التبشير بأن "رفاعة"
و"محمد عبده" و"على عبد الرازق" راجعين مهما طال الزمن!!
سيرة الشيخ "محمد
عبده" وكتبه وأفكاره تثير الألم والشجن.. تفجر الغضب والفرح عند من يستمتع
بالغوص فيها.. فهو كان يرى التضامن الإسلامى كحائط صد ضد الاستعمار, وسبيلا لتبادل
المعرفة والتنوير فقط.. بمعنى أن يعين المسلم أخوه المسلم بتعليمه ودعوته للعلم
لأن مرض الجميع واحد, وهو البدعة فى الدين.. وكان يرى أن السعى إلى توحيد كلمة
المسلمين وهم على جهلهم, أشبه بمحاولة إرسال العقلاء إلى مستشفى المجانين!!
وكان يرى أن العرب
فقدوا قوتهم وزال دورهم القيادى عندما سيطرت عليهم العصبيات الأعجمية, وقد لعب
الترك أخطر الأدوار فى ذلك.. فهم الذين استعجموا الإسلام – أى جعلوه أجنبيا بين
العرب – فعندما كان الإسلام عربيا خالصا فى بداياته.. كان هناك أمل.. لأن الأوائل
كانوا يأخذون بأسباب العلم والمعرفة, أو يحاولون ذلك.. ويرى "محمد عبده"
أن الخطأ بدأ عندما اعتمد "المعتصم" كخليفة عباسى على جيش من الأجانب
على رأسهم الترك لحماية عرشه.. ومنذ هذه اللحظة أمسك الترك بتلابيب السلطة وسيطروا
دون أن يكون لديهم علم أو أدب أو حضارة.. فهم ألبسوا الإسلام خشونتهم وجهلهم!! وكان
"محمد عبده" يرى أن الفتوحات الإسلامية هى أعمال سياسية حربية لها علاقة
بضرورات السلطة.. وكان يرى أن الحروب بين فرق إسلامية, هى مجرد حروب سياسية.. وكان
إذا شعر بأن آراؤه قد تعرضه لخطر على سلامته ونفسه, يلجأ للصمت أو المجاملة
لإيمانه بأن المواجهة مع قوة باطشة هى نوع من أنواع الانتحار.
كان "محمد عبده"
يقول: "قاتل الله النفاق والمنافقين" ويضيف: "قاتل الله الظلم
والاستبداد".. فهو عندما زار "الآستانة" فى يوليو عام 1901.. وكان
يشغل موقع "مفتى الديار المصرية" أرادت السلطات العثمانية اعتقاله, فنصحه
صديقه "أحمد شفيق باشا" سكرتير "الخديوى عباس" أن يكتب عريضة
ثناء على السلطان وقد فعل, وبعد عودته كتب: "لايمكن لشخص مستقيم المسيرة أن
يجد عملا أو يصيب خيرا فى الآستانة, وعلى كل ذى دين أن يفر منها بدينه وبقية نفسه"!!
وقال عن السلطان "عبد
الحميد" أن أخطر من استبداده وظلمه هو إفساد أخلاق العثمانيين – الأتراك – وإذا
كان إصلاح الإدارة بعد رحيله ممكنا, فإن إصلاح الأخلاق يحتاج إلى عشرات السنوات.. لأن
فساد الأخلاق يجعل كل محاولة لإصلاح الإدارة مجرد سراب.
عندما التقى الشيخ "محمد
عبده" لأول مرة مع "الخديوى عباس" يوم 30 نوفمبر عام 1894.. دامت
المقابلة 35 دقيقة, وأنهاها برغبته فى أن يمنح سموه للأزهر مبلغ ألفى جنيه سنويا
لدعمه.. فوافق الخديوى وكرر اللقاء معه مرات.. بل أصبح اللقاء يتكرر فى الأسبوع
مرتين, وكان يؤم الناس للصلاة بمسجد "قصر القبة"وتلاحظ أنه كان يرفض
الدعاء للسلطان العثمانى!!
وتوترت علاقة "محمد
عبده" بالخديوى عندما سافر الشيخ إلى "سويسرا" ليعقد قرآن واحدة من
الأميرات المصريات, ورغم أن الخديوى قد أذن بهذا الزواج.. لكنه أراد أن تبقى
موافقته سرية, وبسفر الشيخ "محمد عبده" ذاعت موافقة "الخديوى"
فأصبح فى موقف حرج جعله يغضب عليه!!
وهذا الموقف على
سذاجته كان بداية توتر علاقتهما.. لكن القاسمة كانت بمحاولات اعتداء "الخديوى"
على أموال وزارة الأوقاف, لإيمان الشيخ بأن الاحتيال على المال العام من أكبر
وأخطر الجرائم التى تستوجب الردع بصرامة واحتقار من يقدم على ارتكابها!! لكن الشيخ
"محمد عبده" كان رافضا لحكم الأسرة العلوية من بدايتها.
يبقى أن مواقف وأفكار
الرجل من مسألة التجديد الدينى هى الأهم, ويجب العودة إليها لمناقشتها على أوسع
نطاق وبعمق شديد.. ففيها علاج الكثير من أزمات المجتمع الإسلامى بأسره, ومصر على
وجه الخصوص.. لا سيما أن الشيخ "محمد عبده" هو الرائد وحامل لواء "مصر
للمصريين" لذلك كانت اجتهاداته كلها نابعة من بيئة هذا المجتمع, وتضع فى
اعتبارها تاريخه وطبيعة الجغرافيا فيه وتأثر الناس بذلك.. فهو كان يرى أن مقتاح
فهم المصريين هو دراسة "علم الاجتماع"" لذلك أنفق وقتا طويلا فى
دراسته وفهمه وبنى نظرة متكاملة وواضحة على أساس من العلم.
قد يصيبك الذهول إذا
قلت لك أن عشرات الكتب عن الشيخ "محمد عبده" صدرت على مدى السنوات
الطويلة الماضية.. وتم إعداد عشرات الرسائل العلمية – ماجستير ودكتوراه – فى سيرته
وأفكاره ومواقفه, وكلها يتم حبسها فى المكتبات والتعتيم عليها من جانب القائمين
على "الأزهر" و"الأوقاف" لأنه لو تم الجدل حولها ومناقشتها
لخرجنا من نفق مظلم دفعنا إليه الاستعمار بأذرعه الطويلة من وهابية وإخوان وكل
الجماعات "المفقوسة عنهما" وستبور بضاعة تجار الدين.. والمؤسف أن
إعلامنا والقائمين على الثقافة فى مصر يجهلون ذلك, لأنهم لا يقرأون ويرفضون الذهاب
إلى جذور الأزمة باعتبار أن هذا عمل صعب ومرهق..
لذلك ستجد أن مفتاح
باب التجديد للخطاب الدينى موجود فى علم واجتهاد تركه لنا الشيخ.. ولنا أن نحاول
الإطلال عليه..
يتبع
0 تعليقات