نصر القفاص
عاش الشيخ "محمد عبده" رافضا النقل, لإيمانه بقيمة العقل.. كان
ذلك سببا فى أن يتجنبه "شيوخ الأزهر" الذين جمعوا علمهم حفظا, وعاشوا
يفرضونه تلقينا للناس!! وكانت مواقفه دائما واضحة لا تقبل أى مساومة.. ففى بداية
حكمه قربه "الخديوى عباس" منه, واختلفا عندما اقترب "الخديوى"
من أموال الأوقاف محاولا اغتصابها.. تسبب ذلك فى أن يغضب منه وعليه "الخديوى"
أملا فى أن يغير موقفه, أو يسعى لاستعادة القرب منه.. لكن هذا الرهان إن جاز مع
بعض الشيوخ, فهو لا يجوز إطلاقا مع الشيخ "محمد عبده" وذلك دفع "الخديوى
عباس" إلى استمالة تيار الأغلبية التى كانت ترفضه صمتا.. وتوج ذلك باختياره "عبد
الرحمن الشربينى" شيخا للأزهر عام 1905, وكان معروفا عنه رفضه لمنهج "محمد
عبده" وتبرمه من إصلاح الأزهر.. والحكاية تتكرر بعد أكثر من مائة عام!!
يوم تنصيب الشيخ "الشربينى" حرص "الخديوى" على الحضور,
وألقى كلمة قال فيها: "الجامع الأزهر أسس وشيد ليكون مدرسة دينية تنشر علوم
الدين فى مصر وجميع الأقطار الإسلامية.. وكنت أود أن يكون هذا شأن الأزهر
والأزهريين دائما.. لكن من الأسف رأيت أنه وجد فيه من يخلطون الشغب بالعلم – كان
يقصد محمد عبده – وأطلب منكم أيها العلماء أن تكونوا دائما بعيدين عن الشغب.. وأن
تحثوا إخوانكم والطلبة على ذلك.. ومن يحاول بث الشغب بالوساوس والأوهام, أو
الإيهام بالأقوال وبواسطة الجرائد.. فليكن بعيدا عن الأزهر".
كان واضحا أن "الخديوى" تعمد أن يبعث بهذه الرسالة للشيخ "محمد
عبده" الغائب عن الاحتفال.. وذهب إلى أن قال: "قد جريت منذ إثنى عشر سنة
على قاعدة, أن أقبل استقالة كل من يستقيلنى من وظيفته" فوصله بعدها رد الشيخ "محمد
عبده" باستقالته من عضوية مجلس إدارة الأزهر.. وكان مثيرا أن الشيوخ استقبلوا
الأمر بالابتهاج.. ولم يمهل القدر بعدها الإمام المجدد سوى شهور حتى رحل عن الدنيا..
وترك علمه وفكره ومنهجه حيا, ورغم محاولات التعتيم عليه بقى اسمه علما يرفرف.. فهو
الرجل الذى عالج قضايا الناس بجرأة فكتب وناقش "حب الفقر وسفه الفلاح" على
صفحات "الوقائع" وكتب عن "خامة الرشوة" وعن "الشورى والاستبداد"
وأكد على أن الخلافة ليست نظاما إسلاميا, وحقق المسألة وأذاع موقفه وقت أن كانت
الدولة العثمانية تتمتع بقوة نسبية.. وكتب رافضا للإقطاع باعتباره وسيلة سيطرة على
مقدرات المجتمع, واتهم من يؤيدون الإقطاع بأنهم يحاولون توظيف الإسلام لخدمة
أطماعهم.. وكان يرى أنه ليس من الحكمة أن تعطى الرعية ما لم تستعد له, لأن ذلك
يعنى تمكين القاصر عن التصرف قبل بلوغه سن الرشد.. وشرح ذلك بضرورة تعليم وتنوير
المجتمع أولا.. وتحدث وكتب كثيرا عن صفات ومقومات الشخصية العامة.. وطالب أن يتمتع
من يتصدى للعمل السياسى بـ"الأدب السياسى" وأول شروطه أن يكون نزيها
وصادقا وعالما عن اجتهاد بدقائق الأمور والقضايا التى يتصدى لها.. وأكد على أن "الأدب
السياسى" يفرض تقديم المصلحة العامة على الخاصة.. وكان يقول أن حرية الرأى
والقول والانتخاب لا يجب أن يمسهم غير المطهرون!! وبنى نظرته على أن الحرية
والديمقراطية طريقهما طويل وشاق, ويفرض على من يريدهما أن يقطعه دون قفز من مرحلة
إلى أخرى دون التأكد من استيعابها وهضمها.. فالديمقراطية ليست تقليدا ولا نقلا من
مجتمعات ناضلت لتفوز بها, ودلل على رؤيته بما وصل إليه وصاغه "فولتير" فى
فرنسا.. وسخر من أن يمارس السياسة من تحوم حولهم الشبهات!! وأكد على أن القانون هو
ابن المجتمع ومرآته, ولابد أن يعبر القانون عن هذا المجتمع ودون أن يصبح لغوا.. وعلى
الذين يضعون القوانين أن يكونوا على دراية بأحوال الناس وأخلاقهم.. وكان يرى أن
القانون يجب أن يكون كائن حى دائما لكى يوقظ الأمة من غفلتها ويضبط مصالحها.. وعبر
عن إيمانه بأن القادة لهم دورهم فى التاريخ, لكن الذى يصنع التاريخ الشعوب بقدرتها
على التحدى والاستجابة!!
حرص "محمد عبده" على تناول حياة الناس ومناقشة قضاياهم والتفاعل
معها وفق صحيح الدين.. وحدث قبل رحيله بشهور أن طرحت قضية نظام الحكم فى مصر, وطالب
البعض بأن تأخذ البلاد بنظام الحكم البرلمانى.. فجاهر بمعارضته لهذه الأفكار وقال
أنها مكيدة يجب مقاومتها, وليس غريبا أن ذلك ما ذهب إليه الاستعمار الانجليزى بعد
صدور تصريح 28 فبراير 1922 الذى أنهى الانتداب وكرس الاستعمار!! والأكثر إثارة أن
صناع الدستور بعد ثورة 30 يونيو أعادوا هذا النظام فى قالب مشوه!! ورغم أنه شارك
كثائر مع "أحمد عرابى" قبل الاحتلال الانجليزى.. إلا أنه راجع نفسه وعبر
عن رفضه للاندفاع فى طريق الثورات.. وشرح ذلك بقوله أن الفكر الثورى يتطلب تنظيم
ثورى.. والفكر والتنظيم الثورى يعتمد على عمل جماهيرى واسع.. لكن الإصلاح والبناء
للمجتمعات طريقهما أصعب ونتائجهما مضمونة.
كان الشيخ "محمد عبده" دائم التحذير من التعصب الطائفى لأن ضرره
أكثر من نفعه.. وركز على أن سبيل القضاء على هذه الآفة هو إصلاح الأزهر والتربية
والتعليم والمحاكم الشرعية – القضاء – واعتبر أن الذين يمارسون منهج الثورة
يعتمدون على التهييج السياسى, وهو يعكس سذاجة وسطحية ثقافية وفكرية.. لذلك دعا إلى
الأخذ بأسباب القوة التى جعلت أوروبا تتقدم, وذلك يتحقق فى العلم والأدب والتجارة
والصناعة والعدل.. ولن يضمن كل ذلك غير امتلاك السلاح الذى يضمن تحقيق السلام!! وكان
دائم التأكيد على أنه لا علاقة بين تخلف المسلمين والدين, ولا علاقة بين تقدم
المسيحيين والدين.. فالمسلمون كانت لهم حضارة مزدهرة عندما امتلكوا أسبابها.. وهم
فى تقدمهم وتخلفهم مسلمون.. وكان يقول أن المسلمون المتنطعون يرمون كل محاولة
للتقدم بالضلال والخروج عن الصراط المستقيم.. وذكر ذلك حين أفتى بجواز استثمار
أموال المسلمين فى صناديق التوفير.. وكان ذلك ذريعة لـ" الخديوى عباس" فى
عام 1903, أن أوعز لعدد من مشايخ الأزهر, أن يكتبوا إليه شكوى بخروجه عن صحيح
الدين لفتواه بإباحة الفائدة وذلك يفرض عزله من موقعه كمفتى.. فجاء رد "محمد
عبده" موضحا أن "الخديوى" نفسه يضع أمواله فى البنوك ويحصل على
فائدة منها, ويشترى ويبيع الأسهم لجنى الأرباح.. ثم طرح موقفه عندما رفض "الخديوى"
تسديد مبلغ 20 ألف جنيه للأوقاف, كفرق فى السعر بين أراض حصل عليها وأخرى أعطاها
للأوقاف.. وتمسك "محمد عبده" بأن يدفع "الخديوى" المبلغ, وكان
الوحيد الذى جاهر بذلك فأحرجه وفرض عليه السداد.. وهى الواقعة التى حاجج بها
الشيوخ بسؤال.. هل هذا حلال وفوائد صناديق الادخار حرام؟!.. وهل صمتكم وقتها كان
حلالا, وصوتكم ضد فتوى لها أساس هو الرفض والتحريم؟!.. فهدأت الأجواء وانتهت
المعركة, ولم يقو على تفنيد فتواه كل من شاء مناقشته.. وبعد رحيله بما يقرب مائة
عام تم تجديد الموضوع, لفتح الأبواب أمام ما يسمى بالبنوك الإسلامية وشركات توظيف
الأموال.. وشارك فى ذلك شيوخ من الأزهر, حتى نجحوا فى فرض ذلك على المجتمع لصالح
مستثمرين جنوا الملايين.. بل قل المليارات بدعوى أن هذا هو طريق الحلال.. وكان ما
يضمن لمنطقهم أن يفرض نفسه هو التعتيم على فكر ومنهج "محمد عبده" الذى
رسخه لسنوات طوال, حتى كانت الهجمة الوهابية الجديدة بدعم جماعة "الإخوان"
التى تلعب دور الذراع الطولى للاستعمار الجديد.
رفض الشيخ "محمد عبده" بحسم الصمت على محاولات "الخديوى
عباس" الاعتداء على المال العام, وسجل ذلك "بلنت" فى مذكراته وقال
أنه تحدث مع "الشيخ" يوم 26 فبراير عام 1903.. فقال "الشيخ" أنه
يعرف تفاصيل محاولات "الخديوى" لخلعه من موقعه كمفتى, لكن ذلك لا يمنعه
من المجاهرة بالحق.. وأدى ذلك إلى تحريض "الخديوى" لعدد من الشيوخ ضده, وقال
عنه أنه أصبح بعيدا عن الدين والتقوى وكان ذلك مثار سخرية "النخبة" والرأى
العام الذى يحترم الشيخ الجليل.. وفى 17 يناير عام 1904.. تلقف "الخديوى"
فتوى للشيخ وأقام الدنيا ضده.. وكانت بسبب ثلاثة أسئلة تلقاها من "جنوب
إفريقيا" ونصها.. هل يجوز لمسلم أن يأكل فى بلد أجنبى – غير مسلم – لحما غير
مذبوح على الطريقة الشرعية؟! وهل يجوز للمسلم أن يرتدى القبعة فى بلد أجنيى؟! وهل
يجوز للشافعى أن يصلى خلف الحنفى؟!.. فأجاب الإمام "محمد عبده" على
الأسئلة الثلاثة بأنه يجوز.. هنا تدخل "الخديوى" وأعلن أن ذلك لا يجوز!!
فجاءه الرد صادما من "الشيخ" حين قال أن ما لا يجوز هو أن يعمل الحاكم
بالتجارة مستغلا وضعه السياسى.. وما لا يجوز أن يتاجر أى سياسى ليضاعف ثروته
بنفوذه على حساب الفقراء, وغيره من الذين لا يملكون ما امتلكه السياسى من موقع
الأصل فيه أن يسهل حياة الناس ويخدمهم.
تكشف سيرة الشيخ "محمد عبده" ومقالاته وكتبه أنه كان أول من صاغ
شعار "مصر للمصريين" بل أنه فى سبيل ذلك ناصب "محمد على" وأسرته
من الحكام العداء وكان لا يرى إيجابية لمحمد على!!
وفى الوقت نفسه كان يرفض الدولة العثمانية ويؤكد على أنه لا خلافة فى
الإسلام, وأن الأتراك ما دخلوا دولة إلا قهروها ودمروها وفرضوا على أهلها الجهل
والفقر والتخلف.. وهذه المسألة تفرض علينا الموضوعية أن نوضحها بتفاصيل أكثر..
يتبع
0 تعليقات