نصر القفاص
شغلت "الأوقاف"
فى مصر الإمام "محمد عبده" بقدر انشغاله بإصلاح الأزهر والتعليم والقضاء..
بل كانت أموال "الأوقاف"
سببا فى أزمته مع "الخديوى عباس" ودفع ثمنا فادحا لحرصه عليها.. لكنه
عكف على البحث والدراسة الجادة لإنقاذ أموال الأوقاف من العبث بها.. كانت هذه
الأموال فى زمنه تقدر بالملايين..
أصبحت فى زمننا تقدر
بالمليارات..
وهو اعتبر أن إصلاح "الأوقاف"
هو أساس إصلاح "الأزهر" وقدم دراسة وافية للمجلس الأعلى للأوقاف عام 1904
– قبل وفاته بعام واحد – شملت رؤيته لتنظيم وتطوير هذا القطاع "السرى"!!
والمؤسف أن السرية المضروبة على أموال الأوقاف
استمرت لعشرات السنوات.. وهناك حرص على أن تبدو "الأوقاف" حتى بعد أن
أصبح لها وزارة, مجرد لغز يستعصى على الفهم.. فلا برلمان يعرف شيئا عن أموال
الأوقاف.. ولا إعلام يهتم بهذا "المنجم السرى"!!
فى دراسته تعرض "محمد
عبده" لعدد المساجد – فى زمنه – ورصد قيمة النفقات التى يتم صرفها عليها من
أموال الأوقاف.. وكشف الهدر والتفريط فى هذه الأموال, دون إصلاح لحال القائمين على
تلك المساجد من أئمة ومؤذنين وملاحظين وغيرهم من العاملين والقائمين على المساجد..
وكشف عن أن أموال الأوقاف كفيلة بإصلاح حال كافة المساجد, وأن نظاما يتم وضعه لها
كفيل بضبط لغة شيوخ الأزهر..
فلم تكن قد ظهرت
مصطلحات مثل "إصلاح لغة الخطاب الديني" التى تم استخدامها مؤخرا خشية
غضب شيوخ الأزهر الذين يرفضون أى اقتراب من "الأزهر" لإصلاحه!!
ولك أن تتخيل أن "محمد
عبده" طالب بأهمية وضرورة أن يركز الشيوخ – الأئمة – على أحوال الناس وأمورهم
المعيشية, وتجنب إغراق مستمعيهم فى قصص وحكايات انتهى زمنها دون أن تصلح للقياس
عليها فى هذا الزمن.
كان الإمام "محمد
عبده" رجلا عمليا ومقاتلا دفاعا عن أفكاره.. لذلك تجاوز محاولات حصاره كمفتى
للديار المصرية.. فدار الإفتاء كانت تابعة للأزهر, وتشغل ثلاث غرف..
قام شيخ "الأزهر"
وقتها بتقليصها إلى غرفة واحدة فيها مكتبه فقط, أملا فى أن يتوقف عن دعواه بإصلاح
الأزهر وتقديم البرامج والدراسات الكفيلة بتحقيق ذلك.. إلتف على ذلك بتحويل "دار
الإفتاء" فى تبعيتها إلى وزارة الحقانية – العدل – وبقيت كذلك منذ أن فعلها
فى ابريل عام 1905 – قبل أيام من وفاته – ومنذ هذا الوقت أصبحت "دار الإفتاء"
ذات كيان منفصل عن الأزهر, وتحررت من الخضوع للشيوخ الرافضين لأى إصلاح ويرونه
كفرا وزندقة!!
بل أن "محمد
عبده" فرض على القضاء عرض القضايا التى يتم الفصل فيها بالإعدام إلى "دار
الإفتاء" واستمر هذا المنهج حتى وقتنا الحالى..
وكانت رؤيته تقوم على أن مكانة "المفتى"
تستحق أن تكون كبيرة, وكذلك مكانة القائم على إدارة "الأوقاف" وهذا يمثل
خطوات شديدة الأهمية على طريق إصلاح الأزهر.. كما كان تفسيره للقرآن الكريم مختلفا
ومتفردا, تم استبعاده وهجره من جانب شيوخ الأزهر, ويتجنبه "حكواتية" هذا
الزمان!! لأنه تفسير يقوم على احترام العقل والتأكيد على أن الإسلام دين يرشد
الناس إلى حياة سعيدة.. بينما تقوم تجارة من يسمون أنفسهم بأنهم "رجال الدين"
على التخويف من النار, وتقديم روايات قديمة تستدر البكاء من عيون المستمعين!! وكان
يقول: "الكتب لا تفيد القلوب العمى, والكتب لا تفيد غير قلوبا باحثة عن العلم
والفهم والمعرفة.. لذلك سنجد أن من لا يقرأ يفضل الكلام المسموع باعتباره يؤثر فى
النفس أكثر من تأثير الكلام المقروء.. وهذا مهم.. لكنه خطير فى الوقت نفسه"!!
ستجد نفسك كلما قرأت
عن الشيخ "محمد عبده" أو قرأت له مذهولا أن يكون الرجل الذى رحل عن
دنيانا منذ أكثر من قرن سبق عصره وزمنه على هذا النحو.. وستعرف سر حصاره ميتا
بأكثر مما حاصروه حيا!! فهو كان يقبل الحوار والجدل مع الذين يهاجمون الإسلام
ويقدم لهم أدلة وبراهين تؤكد فضل هذا الدين العظيم على أوروبا والغرب.. وفى الوقت
نفسه كان لا ينكر أن واقعا متخلفا فرض نفسه على المسلمين.. لأنهم لبسوا الدين
مقلوبا وأدخلوا عليه بدع ليست فيه ورسخوها حتى اعتقد البعض أنها جزء من العقيدة.. فالإسلام
جعل إتقان العمل واجبا حتميا, أما الذين يبتعدون عن ذلك بالكسل والتواكل فيرضيهم
من لا يركز على قيمة العمل ويحدثهم عن الجنة الموعودة واحتمالات أن تمطر عليهم
السماء ذهبا وفضة.. وكان "محمد عبده" دائم التأكيد على أن الإسلام أطلق
حرية الرأى من كل قيد "لا إكراه فى الدين" وكان يستشهد بمئات الطلاب
الدارسين فى "الجزويت" و"الفرير" من أبناء المسلمين..
ومن يرفضون ذلك أو ينكرونه لا يستندون إلى الدين
فى ذلك, بل يستندون إلى رؤية سياسية..
والذين يحرضون على
القتل بزعم الدفاع عن الدين, هم يطرحون آراء سياسية لا علاقة لها بالدين.. لأن
الإسلام أوصى المسلمين.. وأكد.. على وجوب المودة والرحمة مع المخالفين فى العقيدة..
وكان يقول أن "هارون الرشيد" وضع كافة المدارس فى زمانه تحت إشراف "يوحنا
بن ماسويه" وفى الوقت الذى اعتبر فيه المسلمون "أرسطو" المعلم
الأول.. كان قساوسة كبار يرونه خنزيرا ودنسا, وفى ذلك برهان على أن الإسلام أباح
أخذ العلم من غير المسلم – أطلبوا العلم ولو فى الصين – وتجلى ذلك فى دولة "الأندلس"
وقت ازدهارها.. فقد كان يتلاقى فيها المسلمون مع اليهود والنصارى لدرجة أن قصر
الخليفة كان أشبه بمصنع كتب.. ولنا أن نعلم عن "كريستوفر كولومبس" اعترافه
بأن الذى أوحى له بقصده ورحلاته هو "ابن رشد" وكتبه!!
وكان "محمد عبده"
دائم التأكيد على أن التكفير بداية ضعف الدين فى العقول والنفوس.. لأنه عندما
يسيطر الجهال الذين يكرهون العلم, يستدعون ما يزعمون أنه فكر السلف الصالح
ويلونونه وينشرونه وفق رؤيتهم القاصرة.. ثم يحولون كلامهم إلى عقيدة ينشرونها بين
الناس!! وأكد "محمد عبده" أن الجمود مرض عارض, والدافع للجمود ليس من
الدين فى شىء.. بل هو سياسة وخوف من مغادرة الحبس فى التقليد إلى رحابة الفكر
والإبداع.. وتلك حالة يحرص عليها "أصحاب العمائم"!!
أصعب ما فى سيرة
الشيخ "محمد عبده" أنها شديدة الثراء وغزيرة الأفكار وعميقة المعانى.. تحتاج
إعادة قراءتها إلى كتب وليس كتاب واحد.. تتطلب نفض التراب عنها وإلقاء الضوء على
آرائه وطرحها للمناقشة, لأنها ستتحول إلى نار تحرق كل هؤلاء الذين تاجروا بالدين
واستثمروه على مدى نصف قرن مضى.. وقد يكون هذا ما أدركه الاستعمار الانجليزى, الذى
تأكد من أن تحرير العقل المصرى من سيطرة شيوخ الأزهر سيجعل المصريين ينطلقون إلى
آفاق تضعهم فى مكانهم اللائق ومكانتهم التى يستحقونها.. تأكدوا من ذلك عندما أصبح
لمصر برلمان ينادى بضرورة إعادة بناء الجيش وتسليحه, وواكب ذلك ظهور مجدد آخر كان
شديد الوضوح حين فند مسألة الخلافة الإسلامية, وأكد أنها أكذوبة تأخذ المسلمين إلى
الخلف دائما وتدفعهم إلى التناحر والاقتتال باسم الإسلام.. وذلك حدث ما بين عامى 1925
و1927.. حين ظهر كتاب "الإسلام وأصول الحكم" ثم كتاب "الشعر
الجاهلى" لكل من الشيخ "على عبد الرازق" والدكتور "طه حسين"
فكانت "جماعة الإخوان" التى شكلتها وتولتها بالرعاية سلطة الاحتلال الانجليزي
عام 1928.. وتولت هذه الجماعة مهمة التعتيم على ما أنجزه "رفاعة الطهطاوى"
و"محمد عبده" وتصدت لمن يحاول تحرير العقل من سطوة مستثمرى الدين.. وصولا
إلى تمكين "حكواتية" أطلقنا عليهم "الدعاة الجدد" والمؤسف أن "شيوخ
الأزهر" لم يبالوا بكل ذلك, لمجرد أن يحافظوا على مكاسبهم ودورهم الذى جعل
مجتمعاتنا تدور داخل تلك الدائرة المفرغة أو المغلقة!!
أعترف بأننى اختصرت
جدا فى إطلالتي على سيرة الشيخ "محمد عبده" وكذلك فعلت مع سيرة "رفاعة
الطهطاوى" لأن هدفى هو أن نحاول التنبه إلى ما نملكه من كنوز فكرية شديدة
الاستنارة, تبحث عن الجادين فى العودة إليها لأنها قادرة على أن تأخذ بأيدينا
وتنتشلنا من هذا "التوهان" الذى نعيش فيه مكتفين بالصراخ عجزا وفشلا..
ولنا أن نتأكد أن
إصلاح الأزهر يتحقق من خارجه كما قال "محمد عبده" وأكد بتجربته.. وكما
حدث من جانب "محمد على" بتجربته التى حمل مشعلها "رفاعة الطهطاوى"
وسيتأكد ذلك أكثر حين نفتح ملف زلزال كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ "على
عبد الرازق"..
يتبع
0 تعليقات