نصر القفاص
حاول الشيخ "محمد
عبده" إصلاح الأزهر.. بل قاتل لأجل ذلك.. لكن شيوخه تحالفوا ضده وحاربوه
بشراسة.. فهو رجل يقدم احترام العقل.. وهم يعتصمون فى جزيرة النقل, باعتباره يحترم
السلف الصالح.. وهناك واقعة تجسد عمق الخلاف.
صدرت فتوى عن شيخ الأزهر
"محمد الإنبابى" تزعم أن ماء الكولونيا نجس, وكذلك ماء الورد وماء الزهر..
ولا يصح الوضوء بهم.. فلم يتجاهل الشيخ "محمد عبده" الأمر, ورفض الصمت..
قدم ردا على كلام شيخ الأزهر – آنذاك – مؤكدا أن ماء الكولونيا طيبا وطاهرا.. بل
هو يؤكد الطهارة والنظافة وفوق ذلك هو يقتل الجراثيم, وبناء عليه فالوضوء
بالكولونيا جائز لمن يقدر على ذلك..
وأضاف أن التحريم إن
قام على أن مكوناته يدخلها "السبرتو" وهو من المسكرات.. فهذا مردود عليه
بأن "السبرتو" معلوم علميا أنه من المطهرات بما ينفى نجاسته, فضلا عن أن
الإنسان لا يشرب ماء الكولونيا بل يستخدمه للنظافة والشعور بالبهجة.. وطالب الأزهر
بأن يكون اجتهاد شيوخه مواكبا لتطورات العصر, دون استناد لأحكام السلف الذين قالوا
كلمتهم فى أزمان مختلفة.. وأضاف بضرورة أن يناقش الشيوخ مثل هذه الأمور, ويصلون
إلى أحكام منطقية تحترم العلم الذى هو ناتج عقل الإنسان وسر تكريم الله سبحانه
وتعالى له.. وأوضح أن إعلان الفتاوى والاجتهاد دون دراسة وتحقيق على الناس, يؤدى
إلى التشتت وتقليل هيبة الشيوخ وإدخال الشك فى نفوس الناس.
أدى ذلك إلى غضب من
جانب شيخ الأزهر الذى حرض عليه أغلبية الشيوخ.. بل ذهب إلى فرض العزلة عليه داخل
الأزهر وقت أن كان عضوا بمجلس إدارته.. وتحدث هو فى ذلك أمام عدد من مفكرى الغرب
زاروه فى مكتبه بالأزهر..
فقال لهم.. أنتم
تروننى فى هذه الحجرة الصغيرة.. وحيدا.. ممنوع على أحد مساعدتي من الأساتذة أو
الطلاب.. لا أجد من ينصرنى لمجرد أننى أحاول أن يكون الجامع الأزهر نافعا للأمة.. وليس
سببا من أسباب انقسامها..
والتقط "الخديوى
عباس" الخيط, دون القول بأنه استعان بالشيوخ لفرض العزلة على "محمد عبده"
وأرسل إليه عرضا بأن يطلق يديه لإصلاح الأزهر مقابل الصمت على نهبه لأموال الأوقاف!!
فأجاب الشيخ قائلا: "أقول أحسن ما أعلم
وأسكت عن شر ما أعلم.. لن أقول إلا حقا" وفى الوقت نفسه كانت هناك جلسة جمعته
مع اللورد "كرومر" المندوب السامى البريطانى – حاكم البلاد الفعلى – وسأله
عن سبل إصلاح "الأزهر" فأجاب: "ليس من حقكم التدخل فى هذا الأمر, لأنكم
سلطة احتلال.. بل لا يجوز حتى للحكومة الخاضعة لسلطة الاحتلال أن تتدخل فى شأن
الأزهر".
كان الإمام "محمد
عبده" صاحب منهج ومبدأ وموقف.. حاول الإصلاح من داخل الأزهر.. فاقترح وساند
رؤية تقوم على زيادة مرتبات الأساتذة فى الأزهر, بشرط أن يقترن ذلك بمستوى الأستاذ
ومدى عطائه.. وتم اتخاذ القرار وتنفيذه, فإذا به يتحول إلى امتياز حصل عليه الجميع
دون عمل.. وتغاضى شيخ "الأزهر" ومن معه عن التقييم والمحاسبة.. ورغم أن
قانون "الأزهر" كان ينص على اجتماع مجلس إدارته كل 15 يوما.. فهذا تم
تجاوزه ولم ينعقد المجلس سوى فى المناسبات لتوزيع المكافآت والعطايا على الشيوخ!!
وكان القانون ينص على
تطوير مناهج العلوم الدينية.. لكن الشيوخ قاوموا ذلك وكسروا رقبة القانون!! ونص
القانون على حذف الحواشى وما لا يفيد الدارس فى المناهج, لكن الشيوخ تصدوا لذلك
وحافظوا على المناهج ونظام الامتحانات التى تنتهى إلى تخريج كل من يملك القدرة على
الحفظ وترديد ما حفظه دون محاولة مناقشة أو تفكير.. بل وصل الأمر إلى حد أن الشيخ "عبد
الرحمن الشربينى" الذى تولى مشيخة الأزهر بعد الشيخ "الإنبابى" أدلى
بحديث صحفى تم نشره يوم 14 مارس عام 1904 بجريدة "المؤيد" هاجم فيه
الدعوة إلى إصلاح الأزهر.. وقال بوضوح: "إن هذه الدعوات هدفها تحويل هذا
المسجد العظيم إلى مدرسة فلسفة وآداب تحارب الدين وتطفىء نوره"!!
أى أن الآداب
والفلسفة تحولا عند شيخ الأزهر – آنذاك – إلى رجس من عمل الشيطان.. كما كانت "الكولونيا"
لدى شيخ الأزهر الذى سبقه!!
كان الشيخ "محمد
عبده" هو مفتى الديار المصرية الذى لا يتورع عن المناقشة بالمنطق والعلم.. لذلك
تصدى لكلام شيخ الأزهر.. فقال أن علم الحساب جزء من الفقه الذى تناول الميراث
وتحديد الزكاة.. وعلم الآداب والفلسفة تضيف للدين وتوضحه.. لا تتصادم معه.. بدليل
أن كل الشيوخ العظام درسوا الفلك والطب والجغرافيا والتاريخ وأبدعوا فى شرح مقاصد
الشريعة.. وبقيت أفكاره حتى جاءت ثورة 23 يوليو 1952 التى طبقت معظمها, واعتبرت
أفكاره وخططه هى الطريق الذى يعيد للأزهر شموخه.. وتم فتح جامعة الأزهر ليدرس
طلابها الهندسة والطب والعلوم واللغات..
لكن القائمين على الأزهر فرغوا ذلك من مضمونه
برعاية الرئيس "أنور السادات" الذى اعتبر أن سلاح الدين هو الوحيد
القادر على إسكات أصوات كل من دافعوا عن إنجازات تحققت فى فترة حكم الرئيس "عبد
الناصر" وبعودة جماعة "الإخوان" لميادين السياسة اتجهت إلى
الجامعات والنقابات.. وكانت جامعة "الأزهر" على رأس قائمة استهدفتها
فتغلغلت داخلها بمنهج وأسلوب جديدين.. تعمدت الجماعة أن تترك رأس الأزهر وقيادته
لثقتهم فى أنهم يرفضون التجديد والإصلاح على طول الخط.. وراحت تعمل فى القاعدة وسط
الطلاب ودارسى الماجستير والدكتوراه, واستفادوا من عنصر الزمن الذى أتاح لهم أكثر
من 40 عاما..
أسست جماعة "الإخوان" قاعدتها داخل "الأزهر"
وخلال سنوات حكم الرئيس "مبارك" الأخيرة, شرعت فى استعراض عضلاتها وتجلى
ذلك فيما عرف بقضية "ميلشيات الأزهر", ثم وضح بجلاء بعد ثورة "25
يناير" التى كشفت أن الجامعات والنقابات وعلى رأسها جامعة "الأزهر"
وكل روافد "الأزهر" هى الخزان البشرى الذى تعتمد عليه الجماعة.. وتحقق
للاستعمار البريطانى ما فشل فيه "كرومر" وقت الاحتلال عبر ذراعه التى
تركها – ومازال يحركها – فى مصر!! وعدنا إلى المربع رقم "صفر" دون وجود
خليفة للشيخ "محمد عبده" أو قامة تؤمن بنهجه وتحاول أن ترفع راية
الإصلاح داخل "الأزهر" ويتحقق ذلك بالتعتيم على كتب وأفكار "رفاعة
الطهطاوى" و"محمد عبده" و"على عبد الرازق" و"طه
حسين" وشيوخ من أمثال "حسن العطار".
لم يكتف الشيخ "محمد
عبده" بالدعوة للإصلاح فقط.. بل قاتل لأجل ذلك ودفع الثمن فادحا من صحته وكسب
احترام التاريخ.. لإيمانه بما أعلنه: "إن كان لى حظ من علم صحيح, فإننى لم
أحصله إلا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغى ما علق فيه من أوساخ الأزهر.. وهو
للآن لم يبلغ ما أريده له من النظافة"!! وهذا الكلام نقله عنه الشيخ "محمد
البحيرى" خلال حديث له عن جمود الأزهر ورفض شيوخه للتجديد والإصلاح والتصدى
لقضايا العصر الذى نعيشه.. وضمنها قضية مازالت تشغل الأمة طوال ما يقرب من نصف قرن,
وهى قضية "الحجاب" والتى حسمها بدعمه لكتاب "قاسم أمين" الذى
دعا إلى "تحرير المرأة" وأسهب فى الشرح والمناقشة, فأكد على إباحة كشف
الوجه والكفين وحاجة الذين يطبقون القانون لرؤية الوجه وتحديد صاحبه.. وذهب إلى
أنه إذا عجزت المرأة عن النهوض بحاجتها للعمل فى الزراعة أو الصناعة أو التجارة
عند ارتدائها للحجاب.. فيجوز أن تتخفف منه على أن تلتزم بالملبس المحتشم.. وانتقد
القاضى الذى يسمح لامرأة تقف أمامه مستترة الوجه, باعتبار أن ذلك يجلب الغش
والتزوير ولا يجوز قبول ذلك.. ثم ذهب إلى التأكيد على أن الحجاب ليس دليل على أدب
المرأة.. فالأدب موضوعه الأعمال والمقاصد, وليس عنوانه أو مضمونه مرتبط بالشكل
والملابس.. وقال بوضوح لا يقبل لبسا أن الذين يبررون الحجاب بالخوف من الفتنة, فهذا
أمر يقع على الرجال المطالبين بغض البصر.. لأنه لو ألزمنا المرأة بالحجاب لهذا
السبب, فهو يعنى أن الرجال أقل عزيمة وإرادة من المرأة!! وأسهب فى الشرح بتفاصيل
كثيرة ودقيقة, ليذهب إلى أن الفتنة بالحركة والصوت أخطر من إخفاء مفاتن الجسم.. ليؤكد
على أن النقاب والبرقع لا علاقة لهما بتشريع إسلامى وليسا عنوانا للأدب أو التعبد..
وأوضح أن عصرنا جعلنا نختلط بآخرين لا يلتزمون بالحجاب, ونحن ملزمون باحترام
ملبسهم والالتزام بمقاصد شريعتنا التى تفرض غض البصر على الرجل والمرأة.
لأن الإمام "محمد
عبده" كان "حالة عقلية" عند تناوله لأمور الدين, فقد اختار خصومه
أن يرموه باتهامات مرسلة دون دليل.. وكانوا يخشون مناقشتة أو الجدل معه, لقدرته
على تقديم الدلائل والبراهين من القرآن الكريم وكان يبدى استعدادا للحوار الهادىء
دائما.. وكان يفهم المقاصد فى السنة النبوية.. وكل ذلك جعله عصيا على الذين
يتاجرون فى الدين ويحاولون احتكاره واستثماره.. وعندما تأكدوا من تغييب أفكاره
ومنهجه ظهرت موجات "الحكواتية" والذين يعتبرون أن الدعوة بابا خلفيا
يدخل منه الذين فشلوا فى "فن التمثيل والتشخيص"!!
ولأنه كان عالما
كبيرا ومفكرا متفردا فقد ربط إصلاح "الأزهر" بإصلاح "الأوقاف"
وهذا موضوع آخر..
يتبع
0 تعليقات