عمر حلمي الغول
في الدول والأنظمة
السياسية المتقدمة تقوم السياسة على ركائز العلم والمعرفة والتخطيط وفق منهجية
تاريخية سياسية، تعتمد على القانون الدولي ومواثيقه رافعة أساسية لها. وتبتعد كليا
عن المراهقة والصبيانية في بناء معادلاتها السياسية، إلآ إذا كانت تريد وتعمل على
لي الحقائق والمصالح الخاصة والعامة، وتتبنى رؤية مسبقة، أو مفروضة عليها، أو
مرغمة لحسابات نفعية بتمرير سياسة الإستقواء والإستغباء وفرض الأمر الواقع. عندئذ
لا تكون السياسة سياسة، او يمكن إدراجها في خانة سياسة الإستهبال والجهل والإفلاس
حتى لو حقققت نتائج هنا او هناك. لإن نجاحها، أو قفزاتها البهلوانية في فضاء
السياسة سيرتد عليها آجلا أم عاجلا، وسيعري المنظومة السياسية والقائمين عليها
بسرعة فائقة.
وفي العالم القديم
والوسيط والحديث شهدت البشرية نماذج من الطراز الأخير، ونجم عن ذلك حروب وويلات
خطيرة أدت إلى نتائج كارثية على أمن وسلام الدول والشعوب. وإذا نظرنا إلى السياسة
التي تنتهجها إدارة الرئيس دونالد ترامب، نجد انها تتوافق مع هذا النموذج الأمي
والسوقي، الذي أدى حتى الآن لنتائج عميقة السلبية على الولايات المتحدة بشكل خاص
وعلى العالم بشكل عام. لإن مجمل السياسات التي تبنتها الإدارة قامت على ردود الفعل
الشخصية والكيدية، أو وفق معايير وأجندات خاصة ولحسابات نفعية ضيقة.
وبعيدا عن مجمل
السياسة خلال السنوات الأربع الماضية، وتوقفنا امام صفقة القرن والعار الترامبية،
نلحظ انها تكريسا لهذا النهج الإعتباطي والإستقوائي التجهيلي، وهذا ما يعترف به
جارد كوشنير، صهر الرئيس ترامب، وزوج ابنته إيفانكا في مقابلة مع صحيفة "نيوزويك"
الأميركية نشرت قبل يومين (21/7/202)، عندما رد على سؤال " ما الذي يدفع بشاب
بعمر السادسة والثلاثين لا يملك خبرة دبلوماسية على تولي مهمة تحقيق السلام في
الشرق الأوسط، وهي المهمة التي فشل فيها مخضرمون في الحقل المذكور؟ فكان جوابه "حماي
طلب مني ذلك"؟؟؟؟؟
الكلمات الأربع ابلغ
من كل تعبير، وتفقأ عيون كل من يدافع عن إدارة الفضائح والإفلاس، وتوضح بجلاء
كيفية رسم السياسات في إدارة أميركية تقود العالم، و"تعمل على المحافظة"
على ثقلها الدولي كقطب أساس في المنظومة العالمية! ايمكن للولايات المتحدة التي
تملك دولة عميقة، ولديها كم هائل من مراكز الأبحاث والدراسات، وتقف على رأس ثروة
معرفية ثقافية وعلمية أن تسقط إلى قاع الإنحطاط والدرك الأسفل في بناء سياساتها؟
وكيف تقبل الدول العميقة والنخب السياسية سحق دورها وعزلها عن الفعل في التصدي
لسياسة الإفلاس والمراهقة والصبيانية، التي قادها الرئيس المسكون بالصفقات
التجارية والخزعبلات والأساطير اللاهوتية الدينية؟ وما هي الأسس التي تبيح لرئيس
اعظم دولة حتى الآمس القريب (إستلام ترامب الحكم) بتقوض محددات السياسة الأميركية
من خلال تكليف شباب يجهل الجغرافيا والتاريخ وحتى الدين، وحدث ولا حرج عن الأمية
في علم السياسة والعلاقات الدبلوماسية؟ ايعقل ان تقاد السياسة من قبل رعاة البقر، وأصحاب
أدوار الكومبارس في التمثيل بلعب دور البطولة في رسم معالم اهم قضايا التاريخ
المعاصر المعقدة والشائكة كالقضية الفلسطينية، والصراع العربي الصهيوني؟
كل الأسئلة الواردة أعلاه
اصطدمت، وتصطدم بجدار من الغوغائية والديماغوجيا والعنتريات، ونجم عنها فرض الرئيس
الأفنجليكاني المتغطرس والنرجسي صهره، لإنه صهره، وليس لكفاءته، ولا لتميزه
وبراعته للإشراف على حل الصراع الأكثر تراجيدية وصعوبة في التاريخ المعاصر، والذي
ادى لنتائج وخيمة عنوانها صياغة صفقة القرن التافهة والمرفوضة فلسطينيا وعربيا
وعالميا، لإنها تتناقض مع الف باء محددات السياسة والتاريخ والجغرافيا وخطة السلام
وخيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران عام 1967. ورغم ذلك يتبجح كوشنير في
المقابلة، ويعود لتكريس الجهل، عندما يقول، ان جهوده لتسوية النزاع تنبع من "حسن
نواياه،" وهل في السياسة حسن نوايا؟ وما هي معاييرها في بناء عوامل الثقة بين
الطرفين المتصارعين؟ ويعمق جهله وإستغباءه للعقل السياسي العادي، عندما يقول "ان
الخطة لا تهدف لإستفزاز الفلسطينيين." كيف وعلى اي أساس لا تهدف لإستفزاز
الفلسطينيين؟ عندما تشطب الصفقة الملفات الأساسية: القدس حق العودة واللاجئين،
والحدود والمستعمرات والأمن والسيادة، والأسرى وتلغي خيار الدولتين على حدود
الرابع من حزيران عام 1967، هل بقي شيئا غير إستفزازي في الصفقة؟ وهل يمكن تمريرها
بثوبها الصهيو اميركي الأساطيري الخزعبلاتي؟
نتيجة هامة خلصت لها
صحيفة "الواشنطن بوست" في احد مقالاتها التحليلية، مفادها " ان خطة
ترامب – كوشنير للسلام تبدو منكوبة بالفعل." لا بل هي النكبة بكل تفاصيلها
البشعة والسوداء. أنها عنوانا حقيقيا لمدرسة الجهل والتجهيل والإستغباء
والإستقواء، لكن مآلها الموت المحتم، وسقوط الإدارة ومن يمثلها في مزبلة التاريخ،
وغروبها عن المشهد السياسي العالمي والإقليمي، لإنها سقطت في كل إختبارات السياسة،
ولم تفلح في ملف واحد، لا داخلي ولا خارجي، وأتحدى ان يذكر مراقب سياسي واحد عن
ملف نجحت فيه إدارة الرئيس ترامب، حتى الملف الإقتصادي، الذي جاهر به بعض
المراقبين، وادعوا ان ترامب حقق فيه بعض النجاحات، تبين انها نجاحات وهمية وكاذبة
كما الحمل الكاذب.
النتيجة المنطقية هكذا
سياسة، كما ذكرت السقوط، والاندثار. وصفقة العار مصيرها كما مصير أصحابها الموت
المحتم، والتحطم على صخرة الصمود والصلابة الفلسطينية وبعض أشقائها العرب وحلفائها
الأميين.
0 تعليقات