آخر الأخبار

السيوف في أيا صوفيا وفوق المنابر والإعلام أيضا




 

 

بقلم علي أبو الخير

 

 

في طفولتنا وصبانا وأول شبابنا، كنا نلاحظ خطباء المساجد في قريتي "صدقا" في محافظة الدقهلية في عمق الدلتا المصرية، كانوا يمسكون سيفا خشبيا قبل البدء في الخطبة، واعتقدنا ببراءة الطفولة والمراهقة أن السيف من ضمن أركان خطبة الجمعة، حتى لو كان سيفا خشبيا، ولكنه في كل الأحوال هو رمز للقوة والمناعة الإسلامية ضد أعدائها، وظل هذا التقليد ساري المفعول حتى بداية الثمانينيات، وربما ما زال موجودا في بعض القرى، ولكن في ما بعد وبالبحث وجدنا أن رمز السيف هو عادة عثمانية انتشرت في بلاد المسلمين، ارتبط فيها الإسلام الحنيف بالسيف المخيف، وهو ظلم بيّن وتراث مشوش مغشوش.

 

 

ومع ذلك فقد صُدم المسلمون وغير المسلمين، عندما ظهر رئيس الشئون الدينية التركي الشيخ على أرباش في كاتدرائية أو متحف آيا صوفيا، التي حولها رجب طيب أردوغان إلى مسجد، وهو يحمل سيفا أثناء إلقاء خطبة الجمعة، والصدمة التي حدثت، بسبب قيام بعض رجال الدين بربط الإسلام بالغزو والفتح بالسيف، بما يوحي بإراقة الدماء وقطع الرقاب، وهي كما قلنا عادة عثمانية، لم تبدأ بفتح القسطنطينية عام 1453، ولكنها بدأت مع أرطغول وعثمان الأول ومن سار على نهج الدماء من الخلفاء من بعدهما، وأيضا هي عادة سلطانية بدأت قبل العثمانيين بقرون، كما سنرى.

 

 

إذا كنّا ندين حمل السيف في مسجد آيا صوفيا، فذلك لأن السيف في عداء خالد مع الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، ضدّان لا يجتمعان أبدا، ولم يأت ذكر كلمة سيف في القرآن، فلا يمكن ربط شهادة التوحيد بالسيف الدموي، فمثلا العلم السعودي عبارة عن شهادة التوحيد وتحتها السيف، وهو منطق أعوج وفهم مشوش، ربما جاء من الفقه البدوي، الذي يقوم على الغزو والسلب تحت أي راية، حتى لو كانت راية الدين، وبالمثل نجد أن علم جماعة الإخوان المسلمين عبارة عن سيفين متقاطعين يضمان القرآن الكريم، وأسفل السيفين كلمة "وأعدّوا"، مستوحيين الآية 60 من سورة الأنفال"وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل..."، وربطوا ظلما وعدوانا وإفكا بين دعوة الإسلام والسيوف الدموية، متجاهلين أن الآية الكريمة وأعدّوا، تشمل الإعداد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والعسكري، وليس السيف من ضمنها، وأعلام تنظيم القاعدة وداعش كلها أعلام سوداء فيها شهادة التوحيد ومعها السيف الذي لا يرحم، هو فقه الغزو لا الفتح، فقه الدماء لا فقه التسامح، وكل فقه له جذوره.

 

 

فلو عدنا للوراء لوجدنا أن أول من حمل السيف وهو يخطب، كان الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، حيث قال والسيف في يده في أول خطبه بعد توليه الخلافة :"أنا لست الخليفة الضعيف (يقصد عثمان) ولا الخليفة المداهن (يقصد معاوية) ولا الخليفة المأفون (يقصد يزيد)، ثم أردف وقال: والله لو قال لي اتق الله بعد مقامي هذا لضربت عنقه بالسيف"، وصارت عادة الغزو أن يخطب الخليفة أو من ينوب عنه على المنبر وهو يحمل السيف، في دلالة على القوة والبطش.

 

 

وفي زمن ضعف الخلافة العباسية ظهر ما عُرف بولاية الاستيلاء، وهو أن يقوم رجل والي قوي ذو بأس وسطوة بالسيطرة على إقليم من الأقاليم، ثم يرسل للخليفة العباسي البيعة وبعض المال، والخليفة يرسل له مرغما صك الولاية، كما حدث في عصر أحمد بن طولون في مصر، ولكن الوالي عمرو بن الليث الصفار مؤسس الدولة السامانية عام 287 هـ وعاصمتها مدينة سمرقند التاريخية، أخذ طريقا مختصرا، لأن الخليفة العباسي المعتضد بالله لم يرسل له صك الولاية ولا العمة والعباءة، فتكلم الناس على أن عمرو الصفار ليس لديه عهد من الخليفة، فجمع الصفار الناس في المسجد وقال لهم أنا عندي عهد الخليفة، ثم أخرج السيف من غمده وقال "هذا السيف أجلس الخليفة في بغداد ، وهو السيف الذي يجلسني هنا، وأن عهدي وعهد أمير المؤمنين عهد واحد"، وبالفعل حكم الصفّار بالسيف، تماما مثل حكم الخلفاء بالسيف.

 

 

والمحزن والمأساة هو ربط الإسلام بالسيف، والكارثة أن خلفاء بني عثمان الأتراك لم يشذّوا عن القاعدة، ولكنهم ضخموا الغزو، على البلاد المسلمة التي غزوها وأفقروها وأهانوها، في الشام ومصر والحجاز وشمال أفريقيا، اعتبرهم العثمانيون مثل أهل الذمة ففرضوا الجزية على المسلم وغير المسلم، واعتبروا الغزو سنة نبوية، آخذين منهجهم وفقههم من كتب التراث، وأضافوا إليه ما ليس فيه، وضموا السيف للدين، وأهانوا الدين في صورة فتاوى التدمير والسلب والنهب، واعتبر اللاحقون من أرباب الإسلام السياسي أن العالم منقسم إلى معسكرين أو فسطاطين، فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر، وقال سيد قطب إن على المؤمنين من الجماعة الإخوانية السيطرة على العالم وإجبار الجاهليين في الدخول في الملكوت الأرضي رغما عنهم، وهو نفس ما تقوله داعش والقاعدة وبوكو حرام وأنصار بيت المقدس، وكل جماعات الإرهاب المنتشرة في العالم اليوم، لا فرق بين أردوغان والمرشد في مصر أو تونس أو جبال تورا بورا الأفغانية.

 

 

إن الغزو سنة غير إسلامية، والرسول لم يغزُ أحدا، وكل حروبه كانت دفاعية بحتة، في بدر وأحد والأحزاب أو التحالف الخليجي القديم بقيادة أبي سفيان، فالنبي الكريم لم يغز أي شعب، ومصطلح الغزو، ما هو إلا مصطلح تم تدوينه كذبا وزورا في العصر العباسي، بعد وفاة النبي بأكثر من مائتي عام، لا لشئ إلا لتبرير الغزو باسم الدين، ولكنه من أجل الدنيا، ولم يؤثر عن النبي عليه السلام أن خطب والسيف في يده، وفي كلام ابن القيم الجوزية، ما يدل على أنه حتى الاتكاء على العصا ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة على المنبر، قال "ولم يكن النبي يأخذ بيده سيفاً ولا غيرَه ، وإنما كان يعتَمِد على قوس أو عصاً قبل أن يتَّخذ المنبر، وكان في الحرب يَعتمد على قوس، وفي الجمعة يعتمِد على عصا، ولم يُحفظ عنه أنه اعتمد على سيف، وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائماً، وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف : فَمِن فَرطِ جهله، فإنه لا يُحفظ عنه بعد اتخاذ المنبر أنه كان يرقاه بسيف ولا قوس ولا غيره ، ولا قبل اتخاذه أنه أخذ بيده سيفاً البتة، وإنما كان يعتمِد على عصا أو قوس".

 

إن قول ابن الجوزية هو ما يعترف به المسلمون على اختلاف مذاهبهم، ولكن بعضهم من أعضاء الجماعات بوعي وبدون وعي يفتخرون بالغزو العثماني للبلاد الإسلامية، ويريدون عودة أسوأ نظام بشري وهو الخلافة، ونختم بمقولة علي بن أبي طالب عن مثل هؤلاء الخلفاء والشيوخ "يتفقهون لغير الله ويتعلمون لغير العمل ويعملون للدنيا بأعمال أهل الآخرة"، وفي ذلك فليعتبر المعتبرون.


إرسال تعليق

0 تعليقات