مصر 1947م
KERMIT
مركبات النقص المصرية
بقلم
كيرميت روزفلت
نشر المقال بمجلة
هاربر عام ١٩٤٧
ترجمة
د.أحمد دبيان
( كيرميت روزفلت ضابط
مخابرات أمريكي كان منسقا لانقلاب الشاه على الدكتور مصدق فى العملية آجاكس ، وكان
رجل المخابرات الأمريكية فى مصر والشرق الأوسط فى سنوات ما قبل ثورة ١٩٥٢ والذى
حاول الملك فاروق الاتصال به عن طريق عامل اللاسلكي لطلب دعم حكومته بعد تحرك
الضباط الأحرار والذى اتصل بعد نجاح الحركة بمجموعة الضباط واستخدمه ناصر لخلق
توازن مطلوب وقتها مع حرب التحرير من البريطانيين ومفاوضات الجلاء .
نرصد فى مقاله الذى
تم نشره فى مجلة هاربر عام ١٩٤٧ قدره تحليلية نافذه وعمق ثقافى رفيع ورصد دقيق
جدير بضابط مخابرات متميز )
المقال :
( فى سنوات قليلة لن
يبقى سوى خمسة ملوك فى العالم ، ملك انجلترا والأربعة ملوك فى ورق اللعب )
كانت هذه هى المقولة
المفضلة التى لا يفتأ فاروق الأول ملك مصر ان يكررها فى شغف ، وكونها تأتى من ملك
كانت تلقى القبول والاهتمام من السامعين.
فى القرن العشرين كان
العالم العربى أكثر تحملا للأنظمة الملكية مقارنة باى مكان آخر على خريطة الكرة
الأرضية .
فى تعداد الانكماش
السريع للأنظمة الملكية كانت أربعا منها تقع فى المنطقة العربية ، الراعى المخضرم
للصحراء عبد العزيز آل سعود ، الملك الولد فيصل ملك العراق ، وعمه الكبير عبد الله
الذى تمت ترقيته من أمير شرق الأردن الى ملك المملكة الأردنية الهاشمية ، إضافة
لفاروق نفسه .
( ولربما يمكن إضافة إمام
اليمن فى المملكة المتوكلية كملك خامس )
اذا ما صدق فاروق فى
توقعاته فان هناك عواصفا سياسية قادمة فى منطقة الشرق الأوسط.
هذه النقطة بالذات
يتفق عليها الكثيرون من المحللين وأصحاب النبؤات السياسية ، فان عواصف فى الشرق الأوسط
ستجعل الكثيرون يهرولون بحثا عن ملجأ و وملاجئ نووية فى مناطق أخرى من العالم .
بالطبع قد تكون هذه
دعابة من فاروق وهو المشهور بالدعابات والهزل اللامعقول .
قد يتم التهوين من
بعض أصحاب هذه النبؤات السياسية مثلما تم التهوين من كاسندا بنت بريام ملك طروادة
ونبؤاتها ، عن طريق محللين كثيرين أكثر تفاؤلا ، ولكن التخمينات تجعل مصر مكانا
جديرا بالاهتمام والدراسة .
مصر بلد التناقضات
العظمى ، والتى قد تعم فيها الفوضى والعنف ، وان دراسة فاروق نفسه تمثل نقطة
انطلاق لدراسة بلد مثل مصر . فاروق رجل صغير السن وان كان يبدو مظهره اكبر من عمره
الحقيقى يحاول ان يحكم بلدا عريقا لم تتغير أحواله كثيرا منذ الفراعنة .
ملك مصر ( لا يوجد
ذكر للسودان ) رجل بدين أصلع يبدو عمره اكبر كثيرا من اعوامه السبعة والعشرين ،
كان ملكا لأحد عشر عاما فيهم ، ولكن فى الآونة الأخيرة أصبحت حياته السياسية مثارا
للإحراج والنقص ،وربما للتعويض عن هذا أصبحت حياته الاجتماعية شديدة النشاط ،
تحاول أجهزة إعلامه تزيينها .
ورغم ان الإحراج
السياسى يتأتى فى المقام الاول من مظهره ولكن المصورين وبإشراف الديوان الملكى
يحرصون على أبرازه فى أحسن تصوير .
فاروق هو الولد
الوحيد ضمن ستة أخوات وكان والده الملك فؤاد يتفاءل بحرف الفاء فإن أخته غير
الشقيقة الكبرى تدعى فوقيه وشقيقاته الأربعة الأخريات فوزية ( وهى حاليا إمبراطورة
إيران ولكنها انفصلت عن زوجها ) وفائقة وفتحية .
وقد غيرت زوجته اسمها
لفريدة بعد الزواج ، ولتكملة النمط الحرفى تمت تسمية بناته بفريان ( هكذا وردت فى
النص ويقصد بها فريال ) وفوزية وفريدة .
ومثل معظم المصريين
الموسرين سافر فاروق كثيرا الى أوروبا وقد كان يدرس فى انجلترا حين أنهت ظروف وفاة
والده استكماله لدراسته .
وكمثل كثير من
المصريين الأثرياء فاروق لم تكن أصوله مصرية ، فالأسرة الملكية جاءت من نسل محمد
على وهو البانى كان فى خدمة الأتراك الى ان نجح فى الثورة ( رغم ان حركة محمد على
كانت بالتعريف تمردا عسكريا الا انه استخدم تعبير الثورة لا الانقلاب ) على
الخلافة العثمانية المتهاوية .
ومن الأهمية ان نورد
ان علاقات فاروق مع الانجليز كانت انعكاسا لعلاقات بلاده مع انجلترا.
كان للانجليز الدور
الأكبر فى تكوين شخصية فاروق ، وشخصية مصر الحالية . كان فاروق الصبى طفلا فخورا
ذكيا ، يعى جيدا كنهه كملك وان بلاده قد نالت استقلالها حديثا .هذا الاستقلال الذى
كان منصوصا عليه بشروط فى معاهدة ١٩٣٦ والتى كانت على طاولة التفاوض حين جلس فاروق
على العرش ....وتم توقيعها رسميا بعد أشهر قليله من تنصيبه ملكا .
كان من نتائج هذه
المعاهدة ان المندوب السامى البريطاني فى مصر والذى كان له الدور الأكبر فى حكم
مصر كان ليتم استبداله بسفير مثل باقى سفراء الدول ولكن ولسوء الحظ ولمصالح
انجلترا فى البلاد ظلت انجلترا محتفظة بمندوبها السامى السير مايلز لامبسون او
اللورد كيلرن كما رسم لوردا فى بعد .
لم يقبل أبدا السير
مايلز لامبسون اى مساس بوضعه او تغيير فى وضعه وظل يعامل الملك كأن لم يستجد اى
واقع سياسى على الارض . كان فاروق مثل طالب مدرسة فى يد مخادع يتخذ الحنان مظهرا
ولكن يستخدم العنف المفرط عند الضرورة.
جاءت ذروة الإيقاع
يوم ٤ فبراير عام ١٩٤٢ ورومل على مشارف الإسكندرية يكاد يلقى بالجيوش الانجليزية
خارج الوادى و الدلتا وخلف قناة السويس وما بعدها . ارتبط اللورد كيلرن سواء صوابا
أو خطأ بقناعة تنصيب النحاس باشا زعيم الوفد كرئيس للوزراء لتهدئة وتأمين الجبهة
الداخلية ، على الطرف الآخر رفض فاروق ذلك، فلم يكذب كيلرن خبرا .
كان لابد للولد على
حد تعبير لامبسون ان ينال تنكيله .
كان لابد من تقريع
الولد الجالس على العرش كما كان ينظر اليه المندوب السامى فاقتحمت الدبابات
البريطانية ساحة قصر عابدين مصوبة فوهاتها نحو ابوابه ،واقتحم كيلرن القصر حاملا
ورقة بيده بها مرسوم تنصيب النحاس ينقصها توقيع فاروق .
تم التوقيع على الورقة
ولكن لم يغفر المصريون للبريطانيين هذا ابدا وظل كره فاروق للنحاس حتى مع توطد
اواطر صداقته مع السفير البريطانى الجديد بعد رحيل لامبسون .
لم يكن كليرن ليسمح
لفاروق ان يمارس دوره كملك حقيقى ولهذا فان فاروق كان يعوض هذا بالمغالاة ،فان لم
يكن مستطيعاً ان يعين رئيس وزرائه فليكن تعويضه بان يقود سياراته العديدة بأقصى
سرعة فى شوارع القاهرة ، وان القانون ان كان ليطبق فليكن مقصورا على العامة .
فى مدينة تتناقل فيها
الأخبار والنميمة مثل القاهرة كانت الأخبار تتناقل عما يحدث اذا ما أبدى الملك إعجابه
بشئ ما فيصبح من الواجب الحتمى ان يحصل عليه مهما كان اعتراض المالك الاصلى .
ظل الأجانب يعاملون
كسادة فى مصر ولم يكن هذا محل قبول للمصريين فهناك حكاية مشهورة عن امرأة بلجيكية
تجاوزت أثناء حوار مع ابن احد الساسة المصريين فقالت ان المصريين حمقى ان يطالبوا
برحيل الانجليز ، فبادرها غاضبا وبأى حق تتحدثين كذلك فقالت انا هنا لى حقوق اكثر
منك واستطيع ان اطردك فانا مالكة هذا المكان ، ولم تكن وقتها تدرى من هو فقام
الفتى النافذ بالاتصال بقصر عابدين حيث تم ترحيل السيدة ( ماذا لو كان من العامة
؟!!!)
فى زمن محمد على
الكبير كان عدد تعداد المصرين ٢ مليون نسمة واليوم ( عام ١٩٤٧ ) يبلغ تعداد السكان
حوالى العشرين مليونا رغم هذا لم تتسع الرقعة الزراعية لتستوعب تلك الزيادة فى شعب
يعتمد بالأساس على الأرض وإنتاجها .
ان واقع ان بلدا ما
ذو كثافة سكانية عالية لا يعنى بحال ان أهلها يعانون العوز والفاقة ،
فبلجيكا على سبيل
المثال ورغم كثافتها السكانية العالية بلد غنى ، ولكن مصر على النقيض تماثل الهند
اكثر من بلجيكا ،فمتوسط دخل الفلاح المصرى اذا حالفه الحظ حوالة عشرة قروش ( أربعون
سنتا ) يوميا وتبقى الأرض والمحاصيل التى يزرعها ليست ملكا له ، يعيش حوالى ٩٥% من
الشعب فى فاقة وعوز وثمانون فى المائة منهم أميون .
تنتنشر الأمراض
المتوطنة فى مصر والطفيليات مثل الدوسنتاريا والملاربا والفيلاريا المسببة لمرض
الفيل والتى تنتقل عن طريق الناموس .
يعانى الكثير من
المصريين من أمراض العيون وان اكثر من تسعين فى المائة من المصريين يعانون من
التراخوما ( كتب علماء الحملة الفرنسية فى وصف مصر انها ارض العيون الجنسية او
الناعسة
لارتخاء جفون معظم
المصريين بسبب إصابتهم بالتراخوما )
وتشكل البلهارسيا
بدوراتها الحياتية المهدد الاكبر لحياة وصحة المصريين وتشكل نسبة الإصابة بها أكثر
من ٧٥% من تعداد السكان.
نعود لفاروق والطبقة
الحاكمة والتى تمثل اقل من خمسة بالمائة من تعداد السكان وتملك أكثر من ٩٥% من
ثروات البلاد .
وبينما يحيا الفلاح
مع عائلته وحيواناته من الجاموس والماعز والحمير فى أكواخ الطين اللبن ( الطين
النيئ) يتم وضع المواشى فى أفضل أركان البيت لينزوى هو وعائلته فى ركن صغير . على
الجانب الأخر يبلغ دخل الملك السنوى اكثر من مليون جنيه وله من القصور قصران فى
القاهرة وآخران فى الإسكندرية ، وواحد فى انشاص وأخر فى حلوان ، هذا بخلاف عقارات
وممتلكات اكبر من ان يتم إحصاءها حسب واحد من العاملين بالقصر .
ولربما يترك احد
الباشوات من مخلفات موائد وليمة واحدة مما لا يمس ما قد يطعم فلاحا وعائلته لمدة أسابيع.
ومع رحيل الانجليز يفقد الأثرياء المصريون والذين لا يمتلكون اى وعى اجتماعى أو
طبقى اى عذر لتبرير البؤس العام الذى يعانى منه غالب المصريين والتى كان يتم
تحميلها للاحتلال والبريطانيين .
والى ان يتم حل الأمور
المعلقة مثل وجود القوات البريطانية فى قاعدة قناة السويس و مستقبل السودان البريطاني
المصرى سيظل الديماجوجيون يسعون الى الشهرة عن طريق تحميل الاحتلال البريطاني
مسئولية الحال المزرى فى البلاد بدلا من مواجهة المشاكل الحقيقية لمصر . وسيظل
محاولة العمال نيل حقوقهم ينظر اليها كاضطرابات شيوعية .
فى الوقت الحالى لا
قيمة حقيقية للأحزاب السياسية المصرية . والحكومة الحالية برئاسة محمود فهمى
النقراشى باشا هى ائتلاف ما بين الليبراليين والسعديين ، ورغم ان النقراشى يتسم
بالأمانة والقدرة الا ان حكومته عموما تتسم بالضعف .
تكمن المعضلة الأساسية
فى المسألة الحزبية فى مصر والتى تختلف التجربة الديمقراطية فيها عن انجلترا انه
وحتى بفرضية وجود اى انتخابات حرة بدون اى ضغوط فان نسبة ضئيلة جدا ممن لهم حق
التصويت يشاركون فى الانتخابات، هذا بالإضافة الى صعوبة رصد الشعبية الحقيقية لاى
حزب فالجماهير المصرية يسهل حشدها وتعبئتها وأثارتها بحيث يمكن ان نكون شعبية حزب
ما صفر لتتحول الى مائة فى المائة خلال أيام قليلة ولهذا فان وجود تنظيم حزبى قوى
صار ضرورة ملحة .
وللأسف فان السعديين
والليبراليين الذين يدعمون النقراشى يفتقدون هذا التنظيم الحزبى الجماهيرى القوى .
ولهذا فان التيارين لا يستطيعان حشد الأغلبية مثلما يستطيع اقوي حزبين منظمين فى
مصر وأعنى بهم الوفد والإخوان المسلمين .
كان للوفد تحت قيادة
محرر مصر سعد زغلول شعبية عريضة ، ولكن بوفاته انتهى الحزب وسقط رفاقه، وبقى
النحاس، والذى كان مكروها جدا من الملك بعد أن أرغمه اللورد كليرن على تكليفه
بتشكيل الوزارة فى حادثة ٤ فبراير الشهيرة .
وبعد أعوام عديدة فى
السلطة ضرب الفساد حكومات الوفد وفرضت الرقابة التى كانت تمنع حتى نشر اى
كاريكاتير فى الصحف يمس قضايا الفساد أو قطاع الطرق للخوف ان تفهمه الجماهير انه إسقاط
عليها . استطاع فاروق فى النهاية وبعد صعوبات تفاوضية مع الانجليز إسقاط النحاس ،
وعلى الرغم من تميز الحكومات اللاحقة لحكومة النحاس بأنها أكثر أمانة إلا أنها لم
تكن فعالة أو مؤثرة .
ولكن لان ذاكرة
الجماهير سريعة النسيان فسرعان ما استطاع النحاس تجميع صفوف الوفد رغم الفساد
ويتوقع بعض المراقبين اكتساح الوفد الانتخابات بنسبة ٦٠% بالأغلبية إذا ما تم إجراء
انتخابات حرة .
ولكنه من الصعوبة بحال ان ترغم الظروف فاروق ان
يكلف النحاس بتشكيل الوزارة مرة أخرى ولا يوجد فى حزب الوفد شخص أخر ينافس النحاس
من الممكن تكليفه ( تم تكليف النحاس بتشكيل الوزارة عام ١٩٥١ والتى ألغى فيها
معاهدة ١٩٣٦ والتى كان هو عراب توقيعها من قبل ).
كان الوفد يعانى من
الشيخوخة والفساد ، ورغم وجود جناح يساري فى الوفد من الشباب ولكن تظل الهيمنة
لكبار السن والإقطاعيين والذين يرسخون لمصالحهم وثرواتهم ، والذين ما كانوا بحال
ان يتلمسوا نبض الشارع او يعملوا لمصالحه.
وعلى العموم لن يصل
الوفد الى الحكم فى وجود النحاس وسينتهي الحزب بوفاته .
على الطرف الآخر
يتلهف حزب جماعة الإخوان المسلمين لاختراق الشارع وتجيش الجماهير ،
تمثل جماعة الإخوان
حزبا فتيا عنيفا يقوده ديماجوجى عصبى خطيب مفوه هو الشيخ حسن البنا . يتكون معظم أعضاءه
من الطلبة والحرفيين .
يتسم الحزب بالتطرف الديني
ورفض الآخر والتهييج وهو حزب شديد التنظيم ويقوى باستمرار .
كان النحاس يعارض الإخوان
باستمرار ولكنهم نالوا الدعم من السعديين ( والملك ) لسحب الجماهيرية من الوفد
.والى الآن تقوم الحكومة بالدفع لحسن البنا لشراء سكوته وتوجيه عنفه التى الوفد
فقط ، ولربما يأتى اليوم الذى سيدرك فيه النقراشى وخلفائه أنهم وبدعمهم للإخوان
كمن صنع فرانكشتاين بيديه ( بعد أن اصدر النقراشي باشا قرار حل جماعة الإخوان تم
اغتياله بفرد من التنظيم الخاص وبأمر من البنا الذى تم اغتياله فيما بعد ردا على
اغتيال النقراشى وبواسطة تنظيم الحرس الحديدى الذى أنشأه الطبيب يوسف رشاد بتكليف
من الملك ).
لا يوجد فى مصر حزب
شيوعى علنى ،ولكن يتم اتهام الجناح اليسارى فى الوفد بارتباطات شيوعية ، مثلهم مثل
حزب العمال الذى أنشأه البرنس عباس حليم .
والبرنس عباس حليم
جنتلمان رياضى يقود الطائرات ويهوى الصيد وقد كان طيارا فى القوات الجوية
الألمانية فى الحرب الأولى ولكن لا احد يأخذ حزبه على محمل الجدية .
هناك حزب يسارى حديث
يدعى حزب مصر الفتاة بقيادة أحمد حسين والذى أطلق بشارة حزبه في أمريكا بإعلانات
مدفوعة الأجر فى الصحف .
كان حزب مصر الفتاة
وحتى هزيمة قوات المحور حزبا فاشيا شديد اليمينية ويصعب قبول تحوله اليساري بجديه
ولكنها سمة التحولات الكبرى التى تميز الأحزاب المصرية . ومن الواضح ان مصر لا
يمكن أبدا ان تتحول لديمقراطية فورية باى حال من الأحوال لأنه من الصعوبة أن نتوقع
من شعب يعانى ثمانون بالمائة منه من الأمية إضافة الى الأمراض المتوطنة والطفيليات
التى تمتص دماءهم وهم على شفا حفرة من المجاعة يستطيعون العمل بالكاد من الصعب ان
نتوقع ان تكمن فيهم الطاقة أو ان يكتسبوا مهارات التطبيق الديمقراطي .
ومن الواضح أيضا انه
وبالرغم من ان الشيوعية لم تحقق تقدما ملموسا فى مصر الا ان الأحوال الموجودة تمثل
دعوة مفتوحة للدعايات السوفيتية .
هذا هو الجانب المظلم
من الصورة ولكنه لا يعنى انه الجانب الوحيد، هناك الكثير من الضوء الذى نستطيع ان
نتلمسه ونراه .
(القاهرة مدينة عاصفة
الرؤى حيث ينقسم المجتمع لأصحاب الرؤى القاتمة السواد أو على النقيض لمن يسرفون فى
التفاؤل .
لا يوجد هناك من يسمع
أو يرى ويفكر بعمق.
يحاول المصريون
جاهدين ان يدفعوا عن أنفسهم تهمة أن الثروة المتناقصة هى بسببهم ، وأنهم ولقرون
كانوا تحت حكم أجنبي .
وبالرغم من انه وفى
القرن التاسع عشر وتحت قيادة محمد على استطاعوا الحصول على استقلال نسبى من الأتراك
وكان هناك مشروعا نهضويا تجلى فى نظم الرى ، الا ان المطامع الأجنبية تزايدت ،
وسيطر الانجليز بالاحتلال على مقدرات هذا البلد منذ عام ١٨٨٢ وعلى الأقل حتى عام
١٩٣٦ ، لم تحصل مصر على دستور إلا عام ١٩٢٣، والتى أعطت مظهرا للحكم الذاتي ،ولكن
وبمقتضى هذا الدستور والذي ما يزال فعالا، يستطيع الملك والذي يستطيع تعيين أو عزل
رئيس الوزراء ان يحكم عن طريق مجلس الشيوخ ومجلس النواب والذى يعين الملك خمسي أعضاء
الأول بينما ينتخب الناس أعضاء مجلس النواب .
وبالرغم من الدستور
لم يفقد البريطانيون نفوذهم وتحكمهم فى القوى والحكم .
وبمناقشة التقدم الاجتماعي
يراقب المصريون الموازنة باهتمام مقارنة بالماضي ، فعلى سبيل المثال ، وفى عام
١٩٢٤ تم تخصيص حوالي نصف مليون جنيه للتعليم الحكومي
( الجنيه يساوى حوالي
أربعة دولارات أمريكية )
( كان نظام بريتون
وودز والذى جعل للدولار الهيمنة الاقتصادية فى السنوات اللاحقة لم يكمل عامه
الثالث وكان الجنيه المصري لم يخرج بعد من اسر الاسترلينى .)
واليوم وزارة المعارف
العمومية لها ميزانية سنوية تبلغ عشرة ملايين جنيها مصريا ،
وبينما بلغت موازنة
الصحة عام ١٩٢٤ مائتي إلف جنيه ارتفعت لتصل الى ثلاثة ملايين جنيه عام ١٩٣٦. وبعد متعهدة
١٩٣٦ ارتفعت ميزانية الصحة لتصل الى ثمانية ملايين جنيه عام ١٩٤٧ /١٩٤٨ وخصوصا بعد
تفشى وباء الكوليرا ، تم توجيه ٢ مليون جنيه منهم لحملات خمس سنوية ضد الفقر
والمرض .
فى هذه الحملات
للنهوض بالقرية حدث بعض التقدم فى مصر فتم إنشاء مشاريع المياة الحلوة لتحمل الماء
النقى للفلاحين وللمرة الأولى فى التاريخ . بتم بناء المدارس الابتدائية والثانوية
فى أماكن كثيرة من الدولة . وبدأ إنشاء مراكز صحية وإنشاء كوادرها لتغطى الريف
والقرى التى كانت خارج اى منظومة للتخطيط.
كان التقدم ملحوظا فى
مجال الصحة العامة وتم توجيهه حملات ضد البلهارسيا وتوجيه الجهود للتخلص من
القواقع حاملة المرض، تم تطهير الترع والمصارف والتى ترعى فيها القواقع حاملة
المرض،وعلاج المصابين الذين هم مصدر المرض والذى كان يلقى صعوبات جمهة تتمثل فى
الاحتياج لشهر من العلاج بحقن الطرطير المقيئ والذى كان يسبب أعراضا مؤلمة إضافة
ان له أضرارا جانبية عديدة .
ولان الفلاحين كانوا إجراء
ولا يتحملون هذه الأعراض التى تعيق عملهم مصدر طعامهم فكانوا فى الأغلب لا يكملون
مدة العلاج.
الأمر الآخر ان
العلاج الكامل النسق كان يسبب الوفيات بمعدل واحد فى الألف .ولان موت مريض يدمر
سمعة الطبيب المعالج أحجم كثير من الأطباء على إكمال مدة العلاج الكامل لتحقيق
الشفاء التام .
أيضا هذا هو العام الأول
لمصر بلا أوبئة ويعزو العديد من الأطباء هذا للتوسع فى استخدام ال DDT
ال د.دت .
والآن يتم جدولة
القرى و الناس والملابس والمنازل للرش كل شهرين بمبيد الد د. د .ت
نتيجة لهذا وفى منتصف
مايو ١٩٤٧ ظهرت فقط ٥٤ حالة من وباء التيفوس مقابل ١٢٠١ حالة فى ذات الوقت من عام
١٩٤٦
وفى عام ١٩٤٣ بلغت
حالات الإصابة من التيفوس أربعون ألف حالة ، أما عن حالات الإصابة بالحمى الناكسه
relapsing fever
بلغت حالات الإصابة
١٦٦ حالة هذا العام مقابل ٧٧،٥١٩ حالة فى عام ١٩٤٦.
أما عن الطاعون فكان
تعداد الإصابة به حالتين مقابل ٧٦ حالة عام ١٩٤٦ و٦٤٤ حالة عام ١٩٤٤.
( فى نفس عام نشر
المقال اجتاح وباء الكوليرا مصر وبلغ تعداد الإصابة ٢١،٠٠٠ نسمة مات منهم حوالي
العشرة آلاف)
فى الوقت الحالي
يعانى المصريون من مركبين مزدوجين مركب نقص ودونية مع إحساس متضخم بالأهمية أو وهم
العظمة
Grandiose delusions or
Deleusion of grandeur
وهنا أيضا الملك
فاروق يغدو انعكاسا لسيكولوجية بلاده ، غدا تشبعه بفكره انه نصير الإسلام متغلغلا
وتجلى فى العديد من المناسبات ، فقد منح الملك متجاهلا مشاكل مصر العديدة الداخلية
والسياسية ، حق اللجوء لأمير الريف عبد الكريم الخطابي وأيضا لمفتى فلسطين السيد
أمين الحسيني .
حين يحضر امريكى
اليوم لمصر بخلفية أهمية هذا البلد كمركز اتصال قريب من النفط وكمفتاح للعالم العربي
حيث تتلاقى الديمقراطية والشيوعية معا ، وجها لوجه . إلا انه وبعد مرور أسابيع
يدرك أنهم كمن تبنى المقولة الفارسية أن أصفهان نصف العالم فيكون نفس رد الفعل .
وكأنهم البلد الوحيد الذي
لم تغادر قوات أجنبية أراضيه لا يمل المصريون من التكرار المضني ان الولايات
المتحدة يجب ان تثبت حسن النوايا بفعل كذا وكذا ، وأنها يجب ان تدعم القضية
المصرية فى الأمم المتحدة ، وان هذه هى الفرصة الأخيرة للأمم المتحدة لكسب احترام
العالم ،
لا يدرك المصريون أبدا
ان مشاكل مصر جزء من صورة أكبر وهذا طبيعي ولكنه مرهق .
.
الأمريكيون فى كل أنحاء
الشرق الأوسط ملامون بسبب دعم بلادهم لإسرائيل والصهيونية ، والتى يراها العرب فى
كل مكان عنفا غير مبرر.
زايد المصريون كثيرا
واستغلوا زيارة وفد من مجلس الشيوخ لفلسطين واجتماعهم باليهود والوكالة اليهودية
ولم يلتقوا باى ممثلين للعرب هناك .
يلوم المصريون أمريكا
من اجل فلسطين إضافة لاتهامها بدعم التواجد البريطاني فى مصر وتخليها عن مساندة المصريين
فى طلبهم الجلاء وحسم مسألة السودان الانجليزي المصري .
،،
فى مسألة الجلاء كانت
معاهدة ١٩٣٦ تنص على بقاء القوات الانجليزية فى منطقة القناة حتى عام ١٩٥٦ ، ولكن
المصريين يصرون على ان هذه المعادة تم فرصها وتوقيعها تحت ضغوط وان المفاوضات
اللاحقة التى عرض الانجليز فيها الانسحاب عام ١٩٤٩ تم وقفها دون إبداء أسباب .
وزير الخارجية بيفن
متمسك اليوم بالمعاهدة القديمة ( معاهدة ١٩٣٦ ) و المصريون يريدون الجلاء الفورى
،ويريدون الا تتم المساومة والتسويف عل تحديد ميعاد الجلاء فى اى مفاوضات لاحقة .
بخصوص مسألة السودان
فان مستقبله يثير المزيد من الصداع ، على الجانب المصرى فان النيل لا يمكن تقسيمه
وعلى الجانب البريطاني فالإنجليز فخورين بما فعلوه فى السودان وهو نموذج للتنوير الاستعماري
ونشر العمران . ويقول البريطانيون ان السودانيين يرفضون الخضوع للهيمنة المصرية ، وان
الانجليز يجدون أنفسهم ملزمين أخلاقيا بعدم بيع السودانيين وتسليمهم لقيد الأسر .
وواقعيا يصعب حقيقة
معرفة ماذا يريد السودانيون ؟!!
وسيظل تأويل رفض
الاتحاد مع مصر مرتبط بالضغوط البريطانية لدى المصريين .
.عندما تحدثت
للنقراشى باشا رئيس الوزراء كانت مسألة روسيا على رأس مواد النقاش ، وكما قال لى
فان الشيوعية ليس لها شعبية فى مصر ولكن ان كانت أمريكا تدعم بريطانيا ووجدنا ان
الروس سيدعمون مصر ضد بريطانيا فهنا سيكون تحديد من الصديق ؟
وبالتأكيد فان العرب
عموما لا يتعاطفون مع الشيوعية و أنهم لا يتوقعون الكثير من روسيا ،ولكنهم يعلمون
ان السياسة الروسية من مصلحتها رحيل القوات البريطانية من الشرق الأوسط.
الولايات المتحدة
والمهتمة أكثر بتعزيز الأمن مع الإبقاء على المعيار الأخلاقي تجد نفسها إزاء تناقض
دبلوماسي ، فمسألة فلسطين أكثر تعقيدا من السهولة بحل .
ماذا هو موقفنا
ومعيارنا الاخلاقى من قوات أجنبية تحتل أراضى دولة أخرى ؟!!
وهل نضع الدول
العربية فى نفس معيار وتضيغ جزر المحيط الهادئ ؟!!
هل ستتأثر مصالحنا
أكثر بإضعاف التواجد البريطاني فى الشرق الأوسط ؟!!! أم بخسارة أصدقائنا من العرب
؟!!
وما هو مدى اعتمادنا
على بترول الشرق الأوسط ؟!!
وبمثل جلاء القوات
البريطانية ومداها الزمنى فإننا وبالتأكيد نرغب فى رؤية مصر مستقلة وديمقراطية ،
لقد تحقق
الاستقلال!!!! ولكن الطريق لا زال طويلا أمام المصريين وباقى دول الشرق الأوسط كى
تتحقق الديمقراطية .
وان مساندة السلام فى
مصر والشرق الأوسط هو ما يملى المصالح الأمريكية .
وان بناء اليونان
وتركيا فقط كخط دفاع أول هى إشارة خاوية إذا ما انفرطت الدول العربية ، فإنها
ستكون مثل خط ماجينو والذى لم يجد نفعا على الجبهة البلجيكية .
0 تعليقات